“خيال أمريكي”.. مزحة روائية تسخر من واقع السود في الثقافة والسينما الأمريكية
في مئوية المخرج الإيطالي “فيديريكو فيليني”، كتب المخرج “مارتن سكورسيزي” مقاله “المايسترو.. فيليني وسحر السينما المفقود”، ويتحدث فيه عن حسرته على وضع السينما اليوم، واختزالها في أقل عناصرها خصوصية، ألا وهو المحتوى.
يحن “سكورسيزي” إلى الزمن الذي تشكل خلاله وعيه السينمائي، إلى السحر النقي للفن الخالص، وهامش الحرية في اختيار انشغالاته وأسلوبه، بعيدا عن أي مؤثرات خارجية.
وفي فيلم “خيال أمريكي” (American Fiction) المقتبس من رواية “محو” التي كتبها “بيرسيفال إيفريت” عام 2001، نجد أصداء ما يتحدث عنه “سكورسيزي”، فنرى “ثيلونيوس إليسون مونك” وهو روائي وأستاذ جامعي يعجز عن إيجاد ناشر لأحدث مخطوطاته، وهي إعادة صياغة لمسرحية الفرس “لاسخيلوس”، لأنها تعد غير سوداء بما يكفي.
نحن في زمن يصف فيه النقاد والمعلقين أعمالا فنية غير جيدة الصنع بمصطلحات “ضروري” و”مهم” بسبب محتواها.
يذهب “مونك” (الممثل جيفري رايت) إلى إحدى المكتبات التي تبيع كتبه، فيجدها في قسم الدراسات الأفروأمريكية، فيخبر موظف المكتبة غاضبا بأن كتبه لا علاقة لها بالدراسات الأفروأمريكية، وأنها أدب محض، فالشيء الأسود الوحيد في هذه الكتب هو الحبر. وما يرغب فيه “مونك” هو أن يكتب أدبا خارج تلك التصنيفات، أدب لا علاقة له بلون بشرته.
هذا الفيلم هو أول عمل إخراجي لـ”كورد جيفرسون”، وهو كاتب النص السينمائي أيضا، وقد عُرض أول مرة في مهرجان “تورنتو” السينمائي 2023، ففاز بجائزة اختيار الجمهور، ثم رُشح لاحقا لخمس جوائز أوسكار، وقد فاز بأوسكار أفضل سيناريو مقتبس، وهو من أكثر النصوص السينمائية ذكاء وصلة بواقع الثقافة والفن الذي نعيشه الآن.
افتتاحية الفيلم.. حسرة على واقع المشهد الثقافي الأمريكي
يدخل الفيلم مباشرة إلى قلب موضوعه، فيفتتح ببطله وهو يلقي محاضرة للطلاب عن “فلانري أوكونور” وقصتها القصيرة “الزنجي الاصطناعي” (The Artificial Nigger)، فتعترض طالبة بيضاء على عنوان القصة المدون على اللوحة، وتطلب منه مسح كلمة “الزنجي” (Nigger)، لأنها تجدها مسيئة.
يحاول “مونك” أن يشرح لطالبته أنها تدرس أدب الجنوب الأمريكي، وأن عليها أن تضع في الحسبان السياق التي كُتبت فيه القصة، فإذا كان “مونك” وهو أسود يستطيع تفهم ذلك، فيمكنها وهي بيضاء أن تتجاوز الأمر، لكنها تغادر المحاضرة غاضبة.
تقرر إدارة الجامعة الوقوف في صف الطالبة ومنح “مونك” إجازة الزامية. ويكشف هذا المشهد عن غضبه وحسرته على وعي صاعد يحاول أن يرى الأدب بعيدا عن سياقه، وأن يفرض نفسه حتى على التاريخ.
خلاصة الصور النمطية.. مزحة تتحول إلى أسوأ الكوابيس
تأتي بعض أطرف اللحظات في الفيلم، من حسرة الشخصية الرئيسية على واقع دور النشر بشكل أساسي، ثم الإنتاج السينمائي لاحقا، فهو غاضب من رفض نصوصه الأدبية المعقدة والمتقنة، لأنها “ليست سوداء بما يكفي”. إنه يشاهد الآخرين في مجاله مثل الكاتبة “سينتار جولدن” يؤلفون كتبا تنمّط السود، وتختزل معاناتهم في أنماط ثابتة وتحولهم إلى رسوم كاريكاتورية.
وفي ذروة يأسه، يكتب “مونك” خلاصة وافية من الصور النمطية المبالغ فيها حول معاناة السود، تحت اسم مستعار لمُدان هارب من العدالة، ثم يطلب من وكيله إرسالها إلى الناشرين، وكان يحسب أنهم سيظنون الأمر مزحة.
لكنه حصل على عرض هائل للنشر بدلا من ذلك، فأصبح في معاناة متضاربة، لأنه بحاجة للمال للعناية الصحية بوالدته التي تعاني من بدايات الخرف، فقبِل العرض مرغما، فذهبت المزحة إلى مدى أبعد مما أراده لها، ووجد نفسه مقيدا بأسوأ كوابيسه.
معاناة السود.. أزمات عائلية في كل بيوت العالم
يعمل سيناريو الفيلم المركب على عدة مستويات، فهو يتخذ جانبه الساخر من واقع الثقافة والفن خلفية لحياة “مونك” وأزمته الوجودية، متعمقا في تصوير حياته العائلية المعقدة.
ويكمن جمال النص السينمائي في أنه يمنحنا النص أو الفن الذي يتوق إليه “مونك” بشكل خفي، فشخصيات الفيلم السمراء لا تمثل الصورة النمطية لمعاناة السود وفق توقعات الثقافة البيضاء، بل هي معاناة عائلية غير مرتبطة بالعرق.
نشاهد “مونك” وهو يتعامل مع مرض والدته وإدمان أخته، ثم يباغته موت مفاجئ لأحد أحبائه، وهناك أيضا بداية حكاية رومانسية مع “كورالين” (الممثلة إريكا ألكسندر)، وهي تعكس أيضا ملامح من شخصيته وأزمته.
إنها عائلة مختلة من السود، قاسية ومحبة ومجنونة مثل أي عائلة في العالم، وهذا هو نوع القصص التي يريد “مونك” أن يراها الناس عندما يتعلق الأمر بهم، فهو يريد التوقف عن تكرار نفس السرد القديم المرتبط بمآسي الأفروأمريكيين، الذي يجعل معاناتهم لونا واحدا متجانسا، ويريد أن يحكي قصته الخاصة ومعاناته الفريدة، بعيدا عن أي افتراضات خارجية تملي عليه شكل معاناته.
“عجزك عن التواصل مع الناس ليس وسام شرف”
لا يُظهر الفيلم “مونك” بطلا، ولا يجعل غريمته “سينتارا” شريرة الحكاية، فهي إنما تعمل داخل النظام، وتكتب ضمن السياق الرائج، لكنها تأخذ ما تكتب بجدية، ففي المناقشات التي تدور بينهما يقف النص محايدا، ولا يميل تجاه أي منهما.
ويذهب الفيلم مباشرة نحو السؤال الأكبر: لماذا يهتم القائمون على الأمر الذين يعطون الضوء الأخضر في مجال الثقافة والفن برواية نفس القصص مرارا وتكرارا.
ينجح النص في خلق توازن بين سخريته الحادة ورصد الأزمات العائلية الحزينة التي تبث روحا دافئة في الفيلم، ويصور الفيلم غربة “مونك” داخل عائلته، والتوترات النفسية القابعة تحت سطح علاقته بأفرادها، فهو إذن لا يتعامل معه بوصفه فقط الطرف المهمش ضمن آليات عالم النشر الأدبي بسياساته الاختزالية والعنصرية في جوهرها، بل يظهره شخصا تمتد عزلته المعتادة إلى علاقته بوالدته وإخوته.
يخبره أخوه في أحد المشاهد أن عليه أن يدع الناس يحبونه كما هو، بدلا من أن يبعدهم عنه، فهو يتحصن داخل عزلته وأسلوبه الساخر والحاد.
وتمتد عزلته أيضا لعلاقته العاطفية بـ”كورالين”، حين تقول له يائسة في مشهد انفصالهم: “إن عجزك عن التواصل مع الناس ليس وسام شرف”. في المقام الأول هذه حكاية رجل منغلق أصبحت مرارته الذاتية وسخريته المقنّعة وسيلة لإبعاد الجميع عنه.
“كورد جيفرسون”.. مخرج وجد ذاته في الرواية
يصف المخرج “كورد جيفرسون” في أحد حواراته شخصية “مونك” بأنها جلد ثانٍ لشخصيته، فقد كانت شخصية “مونك” مألوفة لديه تماما، فقد كان صحفيا يُطلب منه دائما أن يكتب عن معاناة السود، وأن يكتب أسبوعيا عن ضحايا المراهقين السود الذين قتلتهم الشرطة.
ثم توجه إلى هوليود للكتابة في مسلسلات تلفزيونية، منها “الحراس” (The Watchmen)، و”المكان الجيد” (Good Place) و”مدير العدم” (Master of None)، لكن المشكلة رافقته في عالم التلفزيون والسينما أيضا، ولم تزل تلك العروض تنهال عليه. هل تريد أن تكتب هذا الفيلم عن مراهق قتله ضابط شرطة؟ هل تريد أن تكتب هذا الفيلم عن العبودية؟
يقول “جيفرسون” في حديثه لمجلة “إسكواير”: حتى في عالم الخيال، حيث يمكننا أن نكتب أي شيء، هناك فهم محدود لما يمكن أن تبدو عليه حياة السود.
“جيفري رايت”.. أداء يبرز الألم القابع خلف الغضب
حين قرأ “جيفرسون” رواية “إيفريت”، بدأ يشعر بشيء من الغرابة، فقد كانت حياة “مونك” تشبه حياته، لذا أراد أخذها إلى السينما قبل أن ينهي قراءتها، فقد بدأ يسمع صوته في رأسه وكأنه صوت لشخصية “مونك”.
كان جانب “مونك” الشخصي يشبه كثيرا شخصيته ورحلته الإبداعية وعلاقته بالحب والأسرة. ويقدم النص فهما واضحا لشخصية “مونك”، لتطلعاته ومعاناته.
إنه دور معقد، يقدم فيه “جيفري رايت” أداء مذهلا ودقيقا، فيبرز مشاعر “مونك” المبتلعة، والعواطف التي تغلي تحت سطح انفعالاته المثقفة المقموعة.
إنه يظهر في كل مشهد تقريبا مالئا الشاشة بحضوره، فأحيانا يكون وقحا ومتعاليا ومهاجما غاضبا من الآخرين، لكن “رايت” ينجح في إظهار الألم الكامن وراء هذا الغضب، وهو ما يجلب كثيرا من التعاطف مع الشخصية، فنجد أن إحباطاتها تتطابق كثيرا مع إحباطاتنا.
“مضحك بشكل حزين، ككلبة لها 3 قوائم”
هذا عمل أصيل وحقيقي وأمين لما يتناوله حتى الأشياء التي يراها الناس هزلية ومبالغا فيها هي واقعية تماما. يحكي “جيفرسون” في أحد حواراته أنه التقى بعدد من الملونين العاملين في مجالي الثقافة والفن، فأخبروه أن فيلمه بدا لهم فيلما وثائقيا، مع أنه مصنف فيلما هجائيا.
وقد نجح “جيفرسون” في صناعة هجاء حاد متوازن، من غير أن يجعل النغمة الساخرة لفيلمه ثقيلة، فينهار سرده تحت ثقلها، أو أخف من اللازم فتصبح ضربا من الهزل، لكن سخريته هنا منضبطة وليست فضفاضة أو سخيفة، وهذا بلا شك دور المونتاج الحساس في إيجاد وضبط نغمة الفيلم (Tone).
ولا تتوقف سخرية الفيلم على واقع النشر وتسويق الأدب، بل يمتد لهجاء الطريقة التي يتعامل بها الجمهور الأبيض مع الفن الأسود، ثم يحاول “مونك” لاحقا أن يختار للرواية اسما فظا بديلا للاسم الأساسي، لينفر الناشرون منها، لكنه يكتشف إعجاب الناشرين والقراء به، ثم يخبر ناشره بسخرية مُرة “كلما كتبت بطريقة أكثر غباء صرت أكثر ثراء”.
قد يختلف البعض في التصنيف النهائي للفيلم، أهو كوميديا سوداء، أم دراما ساخرة لا تخلو من المرح، لكنه بلا شك عمل يثير الاهتمام والتأمل. وهو يشبه شخصيته الرئيسية “مونك” في النغمة والروح، فحين تصفه “كورالين”، فإنها تصفه بأنه “مضحك بشكل حزين، ككلبة لها 3 قوائم”، أرى أن هذا الوصف يسري على الفيلم نفسه.
“خيال أمريكي”.. فيلم يترك مساحة للجمهور للتأمل في أفكاره
ينتمي فيلم “جيفرسون” في جانب منه لما يسمى بما وراء السينما (Meta Cinema)، وهي أفلام ذات وعي ذاتي بما تقدمه كتعليق على التقاليد السائدة في لحظة صناعته، ويكون في الغالب فيلما داخل فيلم، وهو يجذب انتباه المشاهدين لحقيقة كونهم يشاهدون فيلما ما، وذلك ما يحول دون تماهيهم مع ما يشاهدونه، ويخلق مسافة للتفكير والتأمل.
ينتهي الفيلم نهاية مفتوحة تعزز هذا المعنى، فتبدأ تتابعات النهاية حين تفوز الرواية أو المزحة بجائزة أدبية مرموقة، فينهض “مونك” مصدوما لاستلام الجائزة، ويكشف للجمهور حقيقة مزحته، ويخبرنا أن لديه اعترافا، لكن المخرج يقطع المشهد فجأة إلى اللون الأسود.
نجد “مونك” في المشهد التالي داخل موقع تصوير أحد الأفلام، يناقش مع منتج كان قد لقيه سابقا نهاية الفيلم المقتبس عن حكايته الخاصة في كتابة رواية زائفة، ويرفض المنتج فكرة القطع إلى الأسود التي شاهدناها للتو، بحجة أن الغموض غير جاذب للجمهور. فيقترح “مونك” أن يركض بطله باتجاه مسكن حبيبته للاعتذار، لكنه يرفض أيضا هذه النهاية، لأنها ستجعل الفيلم كوميديا رومانسية.
وحين يقترح “مونك” أكثر النهايات الثلاث سخفا وتماشيا مع الكليشيه الذي كتب روايته سخرية منه، فتقتحم الشرطة حفل تسليم الجائزة وترديه قتيلا، لكونه مجرما مدانا، فيصرخ المنتج في استحسان واضح: هذه هي النهاية!
الهبوط من البرج العاجي.. عصارة التجربة
ينقل المخرج “جيفرسون” سخريته المريرة من واقع دور النشر إلى مملكة السينما، ويتقبل “مونك” في النهاية أن ينحدر فيلمه نحو حضيض النمطية، فهذه النمطية المأساوية تكتسب جاذبية جماهيرية. وتشير النهاية إلى تغير واضح في شخصية “مونك”، وكأنه فهم الأمر أخيرا بعد أن قرر الهبوط من برجه العاجي.
فلم يعد غاضبا ولا منحازا ضد المبدعين الذين يعملون ضمن الشروط المفروضة من السوق، فهم يعملون في نظام موجود قبل أن يولدوا، ومن الواضح أنه مستمر، طالما أن هناك شهية متنامية للحكايات الاختزالية عن الحياة النمطية للسود.
نراه وهو يخرج من موقع التصوير في أحد الأستوديوهات، يتبادل تحية يختلط فيها الفهم بالامتنان مع ممثل أسود في زي العبيد، يقضي لحظة استراحة من فيلم آخر، عن إحدى حكايات العبودية.
إن فيلم “خيال أمريكي” فيلم يعي تماما ما يريده وطريقة تقديمه وتأطيره بشكل واضح، فهو عمل مركب بطريقة ملهمة، يمثل في أحد مستوياته هجاء صارخا حول الفن والهوية وتسليع المعاناة، كما أنه أيضا حكاية رجل يخرج من عزلته أكثرَ انفتاحا على الذات والآخر.