“المستوطنون”.. قطيع أغنام تشيلي يرتكب إبادة بشرية في طريقه إلى المحيط
لا يزال ماضي الاستعمار الاستيطاني في أمريكا الجنوبية يثير شهية السينمائيين، لفتح كثير من الملفات المسكوت عنها، من أجل مواجهة ما ارتُكب من مجازر بحق السكان الأصليين، ولفت الأنظار إلى ما يحدث اليوم في عالمنا من تجاوزات شائنة، مع تراكم كثير من الكوارث الإنسانية، من دون أن يحرك العالم ساكنا.
فيلم “المستوطنون” (The Settlers) هو العمل الأول للمخرج التشيلي “فيليبي غالفيز”، وهو من نوع الأفلام التي لا تسعى للمصالحة، أي أنها السينما المقلقة التي تتعامل مع ما وقع في الماضي بكل رصانة وقسوة، فتفتح الجروح بمشرط حاد، وتمزق الستائر التي تحجب كثيرا من الجرائم، حتى لو صدمتنا الحقيقة بقسوة. وهي بهذا المعنى سينما تراجع التاريخ، وتنبش فيه وتنقب بحثا عن الحقيقة.
يختار المخرج شكل أفلام الغرب الأمريكي، لكنه -بعكس تلك الأفلام- لا يحتفي بالبطولة، ولا يتغنى بالقيم الأخلاقية التي تحرك “البطل”، بل يبدو راغبا في جعل هذا الشكل السينمائي قائما على صور تبدو عن قصد مغايرة تماما لما هو مستقر في أذهان جمهور السينما في العالم.
وليس في الفيلم أي نوع من التغريب ولا الدوران من حول الفكرة، بل إنه يبتعد تماما عن تقديم التبريرات أو التحليل النفسي لدوافع الشخصيات، فيجسد هذه الشخصيات الرئيسية بحيث يجعلنا لا نستطيع أن نتعاطف معها، فكلها شخصيات ضالعة مدانة ملطخة بالدم.
وحتى من لم يرتكب العنف منها، فهو يجني في النهاية ما جناه من مكاسب نتيجة تغاضيه وصمته وتقاعسه، وارتضى بدور المتفرج أو الشاهد الصامت في انتظار أن تنبلج لحظة الاعتراف والتكفير.
“نهاية العالم”.. أرض بكر تفتح شهية المستوطنين
الزمان بداية القرن العشرين، وتحديدا عام 1901، ونحن في المنطقة الواقعة بين تشيلي والأرجنتين، في أقصى الطرف الجنوبي من تشيلي، منطقة بتاغونيا، ومنها سنصل إلى “أرض النار” (Tierra del Fuego)، التي يطلقون عليها “نهاية العالم”.
إنها منطقة طبيعة شديدة الجمال، حيث الوديان وقطعان الأغنام، وموسيقى تنذر بالموت، ورجال جاؤوا من بيئة أخرى مختلفة تماما، في أيام الاستيطان في الأراضي البكر بالقارة الجديدة، منهم البريطاني والأمريكي والإسباني. ونحن لا نرى سوى الرجال الذين ينتشرون في الأرض، ويكاد الفيلم يخلو من النساء، وعندما يظهرن يبدين في صورة هامشية، فهذه بيئة ذكورية جافة قاسية.
يبدأ الفيلم بلوحة ذات خلفية حمراء، تظهر عليها باللون الأسود كلمات تالية منسوبة إلى “توماس مور” من كتابه الشهير “اليوتوبيا” (1516)، إذ يقول: قطعان أغنامك الآن أصبحت نهمة للغاية، ومتوحشة جدا، لدرجة أنها أصبحت تأكل وتهضم البشر.
نحن في منطقة عمل شاق، يسيطر على أراضيها الشاسعة إقطاعي إسباني قوي النفوذ، يدعى “خوسيه منينديث”، وقد نال تفويضا من الحكومة التشيلية بامتلاكها واتخاذها مزرعة للخرفان، وهو يصف نفسه متباهيا بأنه “صاحب تشيلي”، وهو شخصية حقيقية كانت مدفونة عن عمد في تاريخ تشيلي، ولم يكشف النقاب عنها إلا مؤخرا.
“ألكسندر ماكلينان”.. ضابط فظ لا قلب له في مهمة إبادة
يوظف الإقطاعي “منينديث” رجلا أسكتلنديا يدعي “ألكسندر ماكلينان”، وكان ضابطا في الجيش البريطاني، وهو رجل فظ خشن لا قلب له، نراه في بداية الفيلم يشرف على تشغيل عمال من السكان الأصليين في إقامة سياج حول مزرعة الأغنام التي يمتلكها “منينديث”، وعندما يسقط أحد العمال أرضا بعد أن يصاب ويفقد ذراعا، يطلق عليه الرصاص ويقتله في برود، فعامل من دون ذراع لا قيمة له في نظره.
ويشهد على هذا “سيغوندو”، وهو رجل يحمل ملامح السكان الأصليين، لكنه من ذوي الدماء المختلطة، بين الإسبان والسكان الأصليين، فيبدو على وجهه الغضب، لكنه لا يستطيع أن يفعل شيئا، فهو يحتاج إلى العمل.
وسوف نرى غالبية أحداث الفيلم من وجهة نظر “سيغوندو”، فهو بمثابة عين المشاهد الصامت، لا يتحدث إلا نادرا، ولا ينطلق في الحديث إلا في الفصل الأخير، ولكن قبل ذلك ستجري دماء كثيرة في البراري.
يكلف “منينديث” الضابط “ماكلينان” بتأمين طريق يصل إلى المحيط الهادئ، لكي ينقل قطعان أغنامه، أي أن المطلوب بكل بساطة هو تطهير المنطقة حول الطريق من السكان الأصليين، أي إبادتهم، فهو لا يرغب بوجود أحد منهم في الأرض التي ترعى فيها أغنامه وقطعان ماشيته، فالحيوان أكثر أهمية لديه من الإنسان، لا سيما أن هؤلاء السكان الذين يطلقون عليهم “الهنود” مغرمون بأكل لحوم الخرفان.
رحلة التطهير.. ثلاثة فرسان تفجر الطريق تناقضاتهم
يدفع الإقطاعي “منينديث” إلى الضابط “ماكلينان” بالمرتزق الأمريكي “بيل” لإعانته في مهمته، فهو ذو خبرة في قتل السكان الأصليين، لكن “ماكلينان” يصر على أن يصطحب معه أيضا “سيغوندو”، بعد أن شهد براعته في الرماية.
يقبل “سيغوندو” على مضض، لأنه لا يريد أن يفقد حياته، ويرحل الثلاثة الغرباء على صهوات الجياد، وخلال الطريق تتفجر تناقضاتهم، لكن من غير أن يحيدوا عن الهدف، وهو إبادة كل من يقابلهم من السكان الأصليين القابعين في الظلام، عاجزين عن رد العدوان المسلح الغاشم.
أما “سيغوندو” فلا نراه يقتل، والواضح أنه متعاطف مع أبناء جلدته الذين يتحدث لغتهم، ويبدو في شكله وتكوينه أقرب إليهم، لكنه حريص أيضا على نجاة نفسه وتحقيق حلمه.
يسأله “ماكلينان”: ماذا ستفعل بالمال الذي ستجنيه من هذه المهمة؟ فيجيبه: “أريد أن يكون عندي حصان، وأن أبني بيتا”. وهو يبدو مدفوعا للمشاركة في مهمة قذرة رغم أنفه، وهذا ما يفعله المستعمر الغريب بالسكان الأصليين؛ فإما الخضوع أو الموت.
“المستوطنون”.. صور الطبيعة الآسرة تروي قصة الإبادة
يتحدث فيلم “المستوطنون” عن تلك “الإبادة” المنظمة المسكوت عنها طويلا، وقد وقعت هناك في ذلك المكان، وما زالت تحدث في عالمنا حتى اليوم والعالم صامت.
وتلك هي الرسالة المبطنة التي تأتينا من بين ثنايا الصور في هذا الفيلم الممتع بصريا وفنيا، الذي يوصل رسالته بهدوء من غير صراخ أو شعارات، وباستخدام لغة سينمائية رصينة.
تتعاقب الصور بإيقاع هادئ بطيء، ويتميز الفيلم بحواره المقتضب الذي يترك المجال مفتوحا أمام التعبير بالصورة، ومن خلال الألوان الجذابة، وصور الطبيعة الساحرة في تلك المنطقة، التي تجسد التناقض مع قسوة البشر.
وتلمع أشعة الشمس فوق الوديان الشاسعة التي لا نهاية لها، وتبدو حركة البشر في الخلفية وسط الضباب، وفي ظلام الليل وما يخفيه في جوفه، كأنها تصنع عالما أسطوريا غامضا بعيدا للإيحاء بالزمن.
العقيد “مارتن”.. سلطة جديدة فظة تمارس سطوتها
الشكل العام للفيلم هو شكل أفلام الغرب الأمريكي، لكنه في جوهره نقيضها، فهو لا يشيد بالشجاعة ولا بالبطولة، ولا يقدم “الصحبة” في صورة الشجعان، بل لا يصور أن للفيلم بطلا، فالجميع مدانون، وما يفعلونه لا ينطلق من الرغبة في المال فقط، بل من قناعات عنصرية، يعبر عنها “بيل” بشكل فظ، عندما يقول إنه يستطيع أن يشم رائحة أي هندي عن بعد.
أما “ماكلينان” فهو لا يتورع عن رفع بندقيته في وجه “بيل” لتأكيد سطوته عليه، ولكنه سيقابل من هو أقوى منه، وسيمارس عليه إذلاله، والمقصود هو العقيد البريطاني “مارتن”، وكان يعمل مع جماعة أخرى من المستوطنين في تأمين الحدود بين تشيلي والأرجنتين.
يصر العقيد “مارتن” على اصطحاب الرجال الثلاثة إلى معسكره، ويمارس على “ماكلينان” أقسى درجات الإهانة، ثم يقتل “بيل” بلا شفقة، حين اعترض عليه، فلا مبرر لكل تلك القسوة إلا فكرة الوجود في أرض غريبة، والتشكك في الجميع، مع الشعور الدائم بالخطر، والرغبة في السيطرة وإخضاع الآخرين.
لا يتضح العنف في الفيلم مباشرة في تفاصيل الصورة، فالمخرج ومصوره يتعمدان تصوير مشاهد تصفية السكان الأصليين في مشاهد ضبابية ذات إضاءة قاتمة.
نرى القتلة وهم يصوبون ويطلقون الرصاص، ثم نرى أشباح كائنات مسكينة تتحرك في الخلفية وسط الضباب الكثيف في ظلمة الليل، ونسمع أصوات الصرخات والرصاص المندفع. ولكن يأتي بعد ذلك مشهد يتصف بالعنف الشديد، فالمرتزق الأمريكي “بيل” يقطع آذان الضحايا لكي يحتفظ بها على سبيل التذكار.
نساء السكان الأصليين.. حضور هامشي في الفيلم
تظهر المرأة في الثلث الأخير من الفيلم، أولا في صورة ضحية جريحة أسيرة، ويتناوب “ماكلينان” و”بيل” على اغتصابها من غير أن نرى مشهد الاغتصاب نفسه، ثم يأمر “ماكلينان” رفيقه “سيغوندو” أن يأخذ نصيبه منها، لكنه يرفض ويصر على الرفض.
وبعد تهديد “ماكلينان” له يخضع ويذهب إليها في الخلف، فنراها تنزف دما وتتألم من جرحها، لكنه لا يغتصبها، بل يطلق عليها الرصاص ويريحها من عذابها.
المرأة الأخرى هي أيضا من السكان الأصليين، وتدعى “كبجا”، وقد أهداها العقيد البريطاني الفظ “مارتن” إلى “ماكلينان” لتكون بديلا عن “بيل” الذي قتله، وتكون مرشدة له في الطريق، وستصبح منذ تلك اللحظة رفيقة “سيغوندو”، ثم تصبح زوجته كما نرى في الفصل الأخير.
محاكمة ملك الذهب الأبيض.. تحقيق حكومي
ينقسم الفيلم إلى عدة فصول تحمل عناوين محددة، وكأننا نقرأ كتابا قديما من كتب التاريخ أو الروايات التاريخية: “ملك الذهب الأبيض” (أي الخرفان)، و”الدم المختلط”، و”نهاية الأرض”، والخنزير الأحمر”.
يرحل الثلاثة على الخيل في لقطة عامة، فتتهادى الخيل فوق صفحة مياه متجمدة، وفي خلفية الصورة يظهر المحيط، لقد بلغا نهاية الطريق الآن، وهي لقطة طويلة تنتهي بظهور نغمات أغنية على شريط الصوت، ترددها امرأة: “اذهب لتنام أيها الطفل الصغير، وعندما تستيقظ ستنال كل الخيل الصغيرة الجميلة”. وتظهر على الشاشة هذه الكلمات “بونتا أريناس- بعد 7 سنوات”.
إننا داخل فندق يمتلكه “منينديث”، وبجواره القس، وتغني ابنته وحفيدته، وهو مسترخٍ في مقعده، ثم يأتيه خبر وصول محقق يدعى “فيكونا”، أوفدته حكومة تشيلي للتحقيق في المجازر التي وقعت قبل 7 سنوات.
هنا يختلف أسلوب الفيلم، ونصبح أمام شبه محاكمة يقصد منها إسدال الستار (أخلاقيا) على بقعة سوداء في التاريخ التشيلي. ونعرف خلال ذلك أن “ماكلينان” قد غادر الحياة، كما يقول “منينديث” للمحقق، ويعترف بأنه قد عمل لديه عدة سنوات، لكنه يرفض تحمل أي مسؤولية عن ارتكاب جرائم الإبادة.
يقول له المحقق “فيكونا” إن “ماكلينان” ورجاله سمّموا 200 طن من اللحم، وتركوها لكي يلتهمها السكان الأصليون، فمات منهم 100 شخص. وإن الصحف أطلقت على “ماكلينان” لقب “الخنزير الأحمر”.
“الصوف المبتل بالدم سعره يهبط”
يبدو القس متواطئا مع دون “خوسيه منينديث”، وتدافع ابنته بكل قوتها عنه، وتتباهى أمام المحقق بما قدموه من تبرعات للبيوت التي تعول اليتامى، وما قدموه للفقراء من أطعمة. وأما هو فيرفض كل الاتهامات، بدعوى أنها قصص صحفية.
ولكن المحقق “فيكونا” يتساءل: وماذا عن مزاد بيع السكان الأصليين الذي أقيم في ساحة “بونتا أريناس”؟ وماذا عن دفعك جنيها مقابل كل أذن مقطوعة من جثث السكان الأصليين؟
لكننا نكتشف أن كل هذا المشهد ليس إلا “تمثيلية” شكلية تماما، فحين يختلي المحقق مع “منينديث”، يقول له إن ما يهم السلطات هو “الجماليات”، أي تجميل القصة أمام الرأي العام، وذلك يعني بكل بساطة إغلاق الملف بهدوء ونسيان الماضي.
ثم يطلب منه أن يساعده في الوصول إلى بعض السكان الأصليين لتسجيل رواياتهم، ملوحا له بأنه سيحصل على تجديد لعقده الموقع مع الحكومة، لإدارة الأراضي الواقعة تحت يديه في تلك المنطقة قبل عشر سنوات، ويلوح له بالعبارة التالية: “الصوف المبتل بالدم سعره يهبط”!
“سيغوندو”.. لقاء شكلي لإخراج لقطة ترضي الحكومة
نفهم من أحاديث المحقق “فيكونا” أن السلطات مستمرة في دعم “منينديث” وأمثاله، لكنها تريد بعض التحقيقات الشكلية التي تدين بعض الراحلين، وتترك الباقين الأقوياء على حالهم، لذا يصبح كل همّ المحقق أن يصوّر “سيغوندو” وزوجته “كبجا” التي يعيش معها الآن على شاطئ المحيط.
يستغرق “سيغوندو” في رواية الأحداث التي وقعت في الماضي، لكن المحقق لا يهتم إلا بضبط الصورة وإخراج اللقطة. أما “كبجا” فترفض أي استجابة، لأنها بفطرتها تتشكك في هذا الإسباني الغريب القادم من العاصمة.
وهكذا يدين الفيلم السلطات ويكشف تواطؤها مع الإقطاع، وتسترها على ما وقع من مجازر بالتظاهر بالتحقيق في الماضي، ويكون الفيلم قد كشف عن آلية الاستيطان، وعرّى الفكر الاستعماري الذي يشترك فيه رجل الدين والعائلة مع الإقطاع والسلطة السياسية. وينتهي واحد من أفضل أفلام العام.