مهرجان السينما المعادة الـ38.. ترميم لأيقونات السينما العربية واحتفاء بأساطير تاريخ الصناعة

بعد كل هذه السنوات، بعد ما يزيد عن 38 عاما، هل أعدنا اكتشاف السينما؟ الجواب البديهي: أننا ما زلنا في حالة بحث دائم، فبعض الأقسام مثل “وطن مظلم” يستكشف نوعا قد ينتمي للأقلية أو يُعد ثانويا، لكنه يحتوي على الأشباح والمسكوت عنه في ألمانيا والنمسا ما بعد النازية، وكذلك “سينما الحريات”، فكل فيلم منها بمثابة احتفال سينمائي.

هكذا يُصرح منظمو الدورة الـ38 من مهرجان “إل تشينما ريتروفاتو” كما يُنطق بالإيطالية (Il Cinema Ritrovato)، أي “السينما المُعاد اكتشافها”، وتنظم هذه الدورة ما بين 22-30 يونيو/ حزيران 2024، وتُنظمها “سينماتيك بولونيا”.

مهرجان السينما المعادة.. سحر الفن السابع في عاصمة الثقافة الإيطالية

يقام المهرجان سنويا في مدينة بولونيا، وهي مدينة تاريخية عريقة لها 12 بوابة، وتشتهر بأنها إحدى أشهر المدن الإيطالية، وأكثرها يسارية وثقافة في شمال إيطاليا، وتتميز بالهدوء نسبيا، وفيها جامعة من العصور الوسطى، أي أنّها من أقدم 10 جامعات بالعالم، وإحدى أهم الوجهات الدراسية التي يقصدها طلاب كثيرون في أوروبا، وهم يُشكّلون نحو 58% من سكانها.

يختص هذا المهرجان بترميم الأفلام، منذ بداية عهد السينما الصامتة، مرورا بالناطقة والملونة وكافة تطوراتها، وإعادة اكتشافها بإقامة حوار بين سينما كل عصر، ومن كل خط عرض، ويُجرى الحوار بين جمهور من المتحمسين المفعمين بالشغف، يُشاركهم في مشاهدة هذه الأفلام والتقديم لها أحدُ صناع الفن السابع، ممن فازوا بجائزة الأوسكار.

مهرجان السينما المعادة الـ38

قد يكون ذلك الشخص لم يشاهد قط فيلما كان دائما يُريد مشاهدته، أو فيلما آخر يحفظه عن ظهر قلب، ولكنه لم يستطع مشاهدته في عرض مثل “ريتروفاتو”. لذلك ليس غريبا أن يراسلوا عند نهاية كل دورة الصحفيين والنقاد وصناع الأفلام، لعمل استفتاء لاختيار الفيلم المفضل لديهم، والفيلم الذي أعادوا اكتشافه خلال تلك الدورة.

هذا المهرجان -بفريق عمله- جعل “سينماتك بولونيا” مشهورا في العالم أجمع، فنال ثقة ودعم أشهر وأكبر صُناع الأفلام، وفي مقدمتهم “مارتن سكورسيزي”، وذلك لقدرته ومثابرته في البحث العميق، لجلب نسخ من الأفلام من كافة مكتبات العالم ثم ترميمها.

ومما يثير الإعجاب أيضا تنظيم المهرجان المتقن، وخططه البديلة في التعامل مع الطقس وتبدلاته، وبرنامجه المتنوع الثري، ففي هذه الدورة عُرض أكثر من 480 فيلما، جُمعت من أكثر من 140 مكتبة ومُقرضا، وقد عُرضت في 8 صالات، منها قاعة “مودرنيسمو” التاريخية التي أُعيد افتتاحها بعد ترميم استغرق نحو 10 سنوات من 2014 وحتى نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، ناهيك عن ثلاثة مسارح أخرى في الهواء الطلق، أبرزهم الموجود في “ساحة ماجورة”.

“الليل”.. احتفاء بفلسطين وإعادة اكتشاف للسينما العربية

كان هناك احتفاء كبير بالسينما العربية والأفريقية في هذه الدورة وسابقتها، ولا سيما فلسطين، فقد عرض عنها بالدورة الماضية فيلم “المخدوعون” (1972) لتوفيق صالح، بحضور زوجة الراحل غسان كنفاني مؤلف الرواية، أما هذه الدورة فقد عرض فيها فيلم “الليل” (1992)، وهو من تأليف وإخراج السوري محمد ملص.

شارك في كتابة فيلم “الليل” أيضا المخرج السوري أسامة محمد، وكان حاضرا بفيلمه “نجوم النهار” (1988)، ومع أن الفيلم لم يُرمّم بعد، فهناك مساعٍ جدية من السينماتيك البولوني منذ العام الماضي، لكن ما يُعطلها هو موافقة المؤسسة السورية العامة للسينما، فهي الجهة المنتجة.

يُعد فيلم “الليل” تجربة شاعرية على مستوى الكتابة والكلمات والسرد، يحكي عن صبي في طور الشباب يحاول تذكر سيرة والده، وهي سيرة تختلف تفاصيلها في ذاكرته وفي حكايات الأم، وتتعدد الاختلافات ويتعدد الموت، بأسلوب خيالي.

لوحات من معرض مهرجان السينما المعادة

لكن لا يغيب عن المتلقي الهدف الأساسي للشريط السينمائي، فنرى حكايات التعاطف مع جيش الإنقاذ، وحكايات السوريين الذي لبوا النداء للجهاد في فلسطين، ضمن هذا الجيش الذي فُتت وجُرد جنوده من أسلحتهم بعد تواطؤ الحكام العرب.

وأثناء ذلك، تُطرح بعض قصص وتفاصيل الخيانة، وذلك في مدينة القنيطرة مسقط رأس المخرج، فقد دُمرت بعد الحرب الإسرائيلية عام 1967، وتدور أحداث الفيلم في عام 1936 وحروب النكبة 1948، وبعد انتهاء عرضه، صفق الجمهور طويلا حتى أن المخرج تأثر بذلك وتبدل شعوره تماما، وقد صرح للجزيرة الوثائقية بأن “شعور السجن الذي كان يُحاصره قد تلاشى، وأنه يشعر بالفرح، وكأنه قد صنع الفيلم للتو”.

فقبل عرض الفيلم بيوم واحد فقط، وأثناء حديثنا معه عن مشاريعه، كان يتحدث بقدر من الحزن واليأس وكأنه محاصر، وقد أخبرنا أن لديه عددا من النصوص، لكن النص الذي يتمنى تحقيقه ويبحث له عن تمويل، هو مشروع فيلم عن السجن والحصار الذي يُصيب الإنسان، حتى عندما يكون خارج السجن.

“نوبة نساء جبل شنوة”.. مهندسة مثقلة بآلام الحرب في الجزائر

احتفى المهرجان هذا العام بالأديبة الروائية والمخرجة الجزائرية آسيا جبار، وكانت عضوا في الأكاديمية الفرنسية، وكانت قبل رحيلها تُرشح لجائزة نوبل، وقد عُرض فيلمها “نوبة نساء جبل شنوة” (1977)، وكانت يومئذ قد توقفت عن الكتابة لاتهامها بأنها تكتب بالفرنسية فقط.

فقررت التحول إلى السينما، وهجرت الكتابة نحوا من عشر سنوات، فأخرجت خلالها فيلمين من إنتاج التلفزيون الجزائري، أحدهما الفيلم الذي ذكرنا، والثاني وثائقي أيضا، وهو “الزردة وأغاني النسيان” (1982).

تدور أحداث فيلمها الأول حول البطلة ليلى، وهي مهندسة معمارية ثلاثينية، تجد نفسها في ربيع 1976 غير قادرة على تجاوز ذكريات الحرب التي فقدت فيها أخاها، فتعود إلى جبال شنوة، وهناك تكتب مشاعرها وخواطرها، وأثناء ذلك تلتقي بنساء جبل شنوة، ويدور حوار مع عدد منهن.

المخرج التونسي محمد شلوف يترجم لمحمد ملص أسئلة الجمهور الإيطالي

يبدو الفيلم تقدميا من الناحية الفكرية والفنية، وتدور الأحداث في إيقاع سينمائي متمهل، يجمع بين الخيال الأدبي والصور الوثائقية، كما يمزج بين الذاكرة والتاريخ والحاضر، ويعد ترسيخا للتضامن الشعبي ودور النساء في ذلك.

وجدير بالذكر أن الموسيقى التصويرية المصاحبة للفيلم هي للموسيقار المجري “بيلا بارتوك”، وكان قد زار الجزائر عام ١٩١٣ لدراسة الموسيقى الشعبية، وقد أهدت المخرجة الفيلم له، وأيضا للمناضلة زليخة عدي، بطلة المقاومة الجزائرية ضد المستعمر.

“ألبير سمامة شيكلي”.. باقة من أعمال رائد السينما التونسية

للعام الثاني على التوالي، يهتم المهرجان بالسينما التونسية، ويحتفي بأحد أبرز روادها وهو “ألبير سمامة شيكلي”، وذلك بعرض مجموعة من أفلامه القصيرة التي رُممت حديثاً، وبعضها يوثق عمليات صيد السمك في المدن التونسية.

كما عُرضت النسخة المرممة من فيلمه الروائي الطويل الثاني “عين الغزال”، ويحمل في نسخته الفرنسية عنوان “فتاة قرطاج” (La Fille de Carthage).

ورجحت “ماريان ليفنسكي” -وهي المسؤولة عن كل ما يخص برنامج ترميم أعمال “سمامة شيكلي” ومؤلفة الكتاب الضخم الذي صدر عنه- أن تكون “هايدي” ابنة المخرج هي من كتبت له السيناريو، لأن “شيكلي” لم يكن يُجيد الكتابة بالفرنسية.

وبعد انتهاء العرض تحدثت “ليفنسكي” عن “هايدي”، ووصفتها بالذكاء وتقدم فكرها المناصر للمرأة، كما يتضح في هذا الفيلم الذي قامت بدور البطولة فيه، وقد شاركت والدها أيضا في عدد من أعماله الأخرى، تأليفا وأداء تمثيليا.

ملص وشلوف بصحبة “سيشليا سينسياريلي” عقب عرض الفيلم

ثم تطرقت للحديث عن عملية الترميم وأسباب صعوبتها، وكيف أضيفت بعض اللقطات الفوتوغرافية الثابتة لشريط الفيلم حتى تستكمل القصة، لأن هناك أجزاء مفقودة من الشريط السينمائي، وكل تلك الإضافات كانت بعد الاطلاع على نص الفيلم الأصلي.

يُذكر أنه حين عُثر على اللقطات الأولى من ذلك الفيلم لم يكن معروفا أنها من توقيع “سمامة شيكلي”، وظن المسؤولون هناك أنها لمخرج آخر، إلى أن تواصلوا مع المخرج التونسي محمود بن محمود، وكان قد صنع فيلما وثائقيا عن “سمامة شيكلي”، وقد اطلع على نص الفيلم من بين وثائق أهدتها ابنته إلى السينماتيك البولوني.

“كوستا غافراس”.. تكريم مخرج صنع تراثا فنيا ثوريا

يتجلى الحضور العربي أيضا -لكن بطابع ثوري قادم من الماضي- في الحوار الذي أُدير مع “كوستا غافراس” وزوجته “راشيل غافراس” حول فيلمه “زد” (1969) ورحلة إنتاجه، فقد واجه صعوبات، ولم يجد منتِجا يتحمس له، في ظل الظروف السياسية التي أحاطت ببلده اليونان، وبأغلب دول العالم آنذاك.

وبعد فشل محاولات أخرى للإنتاج والتصوير في مدينة براغ، نصحه أحد الأصدقاء بضرورة التواصل مع المخرج محمد الأخضر حامينة، وكان يعمل يومئذ للحكومة الجزائرية المؤقتة، وقد تحمس جدا للفيلم قائلا: تلك الدول التي رفضت إنتاجه دول فاشية، لكننا ثوريون، وسوف ننتجه.

الحقيقة أن حديث “غافراس” كان ذا شجون، لأنه يطرح قضية الفساد بعالم السياسة والمقاومة واغتيال رموزها، مع وجود بعض الشرفاء الذين كانت لديهم الشجاعة لمواجهة الفاسدين، مثل القاضي في فيلم “زد”، فقد استطاعت الشخصية الحقيقية كشف تواطؤ السلطة والجيش وجميع المتورطين في اغتيال البطل، ولم يتراجع القاضي عن موقفه فعوقب بالسجن.

السينمائي الفرنسي اليوناني “كوستا غافراس”

لكن أيضا يوضح حديث “غافراس” التناقض بين تاريخ عربي ثوري، وبين حاضر راهن قمعي، لا يسمح بإنتاج أعمال تنتقد السلطة، وإن بشكل عابر أو رمزي.

جدير بالذكر أن الحوار مع السينمائي الفرنسي اليوناني كان في إطار تكريم مهرجان “ريتروفاتو” له تحت عنوان “عصر كوستا غافراس”، وقد قدّم لفيلم “نابليون” (Napoleon)، وهو من تأليف وإخراج “أبيل غانس” بنسخته الكبرى التي تبلغ 5 ساعات ونصفا، وقد أُنتج عام 1927، وأشرف على ترميمه “غافراس” بنفسه رئيسا لسينماتيك فرانسيس.

كما نُظم له حوار عن مسيرته السينمائية، أداره “جيان لوكا فارينيلي”، وهو أحد رؤساء المهرجان، وفي اليوم التالي عُرض فيلمان وثائقيان عن كواليس اثنين من أبرز أعمال “غافراس” ضمن قسم “الوثائق والوثائقيات”، الأول عن فيلم “زد” (Z) بعنوان “كل الأفلام سياسية”، والثاني عن فيلم “اعتراف” (The Confession) بعنوان “الحقيقة ثورية”، وقد قدّم لهما “غافراس” مع زوجته “راشيل” في قاعة بازوليني.

مخرجون معاصرون يحملون رائحة السينما العتيقة

تميزت دورة هذا العام بعدد من المستجدات والآفاق، منها حضور مخرجين معاصرين يتحاورون مع الأيقونات الخالدة.

فقد قدّم المخرج “داميان شازيل” فيلم “مظلات شيربورغ” (Les Parapluies de Cherbourg) للمخرج “جاك ديمي” (1964)، وكان قد استلهم منه “شازيل” فيلمه “لا لا لاند” (La La Land) عام 2016، وأحدث أفلامه “بابل” (Babylon) عام 2022، ويعد هذا الفيلم بمثابة تكريم لعصر الأفلام الصامتة الأسطورية.

فيلم “لا لا لاند” للمخرج “شازيل”

كما كُرم المخرج الألماني “فيم فيندرز” بتنظيم محاضرة له مع عرض ثلاثة من أفلامه، وهي:

فيلم “باريس، تكساس” (Paris, Texas) الذي أخرجه عام 1984، وذلك بمناسبة مرور 40 عاما على إنتاجه. فيلم “الإخوة سكلادانوسكي” (Die Gebrüder Skladanowsky) الذي أخرجه عام 1995. فيلم “نادي بوينا فيستا الاجتماعي” (Buena Vista Social Club) الذي أخرجه عام 1999.

ومن المفارقات أن “فيندرز” في الليلة التي سبقت عرض فيلم “باريس تكساس”، كان قد شارك المخرج “ألكسندر باين” في تقديم فيلم عتيق هو فيلم “طريق بري” (Wild Path) للمخرج “جون فورد”، فقال “فيندرز” ليلتها: حين شاهدت فيلم “فورد” سحرتني مشاهده، فقلت لنفسي: سأزور هذه الصحراء، سوف أذهب إليها، وقد زرتُها وصورتُ فيها الثلث الأول من فيلم “باريس، تكساس”.

“بيترو جيرمي”.. تكريم أحد أيقونات السينما الإيطالية

“50 عاما بدون بيترو جيرمي”، بهذا العنوان كُرّم أحد أعظم أساتذة السينما الإيطالية، وقد ولد في 14 سبتمبر/ أيلول 1914، ووافته المنية في 5 ديسمبر/ كانون الأول 1974.

حصد “بيترو جيرمي” أوسكار أفضل كتابة لقصة وسيناريو كُتب خصيصا للشاشة، وذلك عن فيلمه “الطلاق على الطريقة الإيطالية” (Divorzio all’italiana) الذي أخرجه عام 1961. كما حصد جائزة السعفة الذهبية عن نفس الفيلم، لكونه أفضل عمل كوميدي في مهرجان كان السينمائي.

فيلم “رجل وامرأة” 1966

وكان له نصيب آخر من السعفة الذهبية، فقد حصدها عام 1966 عن فيلمه “السيدات والسادة” (Signore & Signori)، بالمشاركة مع فيلم “رجل وامرأة” (Un homme et une femme)، كما حصد 31 جائزة أخرى، ورُشح لـ21 جائزة إضافية.

ينطلق تكريم “بيترو جيرمي” من الإيمان بكونه مؤلفا حقق نجاحات دولية، وكان محوريا في بعض اللحظات الحاسمة في السينما الإيطالية، لا سيما تيارات “الواقعية الجديدة”، و”الكوميديا الإيطالية”، مع أنه لم ينل مكانته اللائقة بين عظماء السينما الإيطالية إلا بعد بضعة عقود فقط من وفاته.

“أناتول ليتفاك”.. إحياء مخرج الليل الباحث عن الضوء

خصص المهرجان هذا العام برنامجا احتفاليا للمخرج الأوكراني “أناتول ليتفاك”، بعنوان “رحلات إلى الليل: عالم أناتول ليتفاك”، وقد عُرض فيه أكثر من 20 فيلما من توقيعه، بعضها أنتجتها هوليود التي وصفها ذات يوم بأنها “مكة السينمائيين”.

وقد كتب إحسان خوشباخت -وهو مدير مشارك في المهرجان- متحدثا عن “ليتفاك”: لقد تغيرت قاعدة إنتاجه مع تبدل تهجئة اسمه، عندما انتقل من موسكو إلى برلين وباريس ولندن وهوليود، لكن جوهر سينماه ظل على حاله، فالحياة كناية عن المرور عبر الليل، بحثا عن ضوء النهار. كان “ليتفاك” مخرجا متحفظا وغير عاطفي، وكانت أفلامه تنضح بجو ليلي كما ينعكس في بعض عناوينها:

فيلم “البلوز في الليل”

“البلوز في الليل” (Blues in the Night)، الذي أخرجه عام 1941. “الليل الطويل” (The Long Night)، الذي أخرجه عام 1947. “القرار قبل الفجر” (Decision Before Dawn)، الذي أخرجه عام 1951.

أصبح “ليتفاك” مواطنا أمريكيا عام 1940، فانضم إلى الجيش الأمريكي، وتعاون مع “فرانك كابرا” في الفيلم الوثائقي “لماذا نقاتل” (Why We Fight) الذي أخرجاه عام 1942 في زمن الحرب، ثم في نهاية الحرب ترك الجيش وهو عقيد، وعاد إلى هوليود ليخرج فيلم الإثارة الكلاسيكي “آسف، رقم خطأ” (Sorry, Wrong Number) عام 1948، من بطولة “باربارا ستانويك”.

أفلام النساء.. احتفاء بإبداعات الجنس اللطيف

يُذكر أيضا أن 8 أفلام من البرنامج التكريمي لـ”أناتول ليتفاك” تدور حول 8 نساء، ولذلك تدخل ضمن حصة الاحتفاء بالنساء، فقد ركزت مضامين عدد من الأفلام في المهرجان على المجتمعات الأبوية وخضوع الإناث.

فيلم “الملاك الأزرق” 1930 للمخرجة “مارلين ديتريش”

كما احتُفي بعدد من النساء، في مقدمتهن شخصية أنثوية أسطورية أخرى، هي دلفين سيريج (1932-1990)، وكانت ممثلة ومخرجة وناشطة فرنسية في السينما والمسرح بين نهاية الخمسينيات والثمانينيات.

وقد أعاد المهرجان الحياة إلى مبدعة من عصر النهضة، وهي المخرجة “إستر كرومباتشوفا” (1923-1996)، وذلك بعرض فيلمها “قتل المهندس سيرتا” (Vrazda ing. Certa) الذي أخرجته عام 1970.

وضمن قسم التكريمات، احتُفل بالأسطورة “مارلين ديتريش” بإقامة معرض فوتوغرافي خاص بها، جُمعت لقطاته من مكتبات فنية حول العالم، منها الأرشيف الألماني والسويسري والبلجيكي، إضافة إلى عرض بعض أفلامها، ومنها “الملاك الأزرق” (Der blaue Engel) الذي أخرجته عام 1930.

“السينما قبل مئة عام”

من الأقسام المهمة بالمهرجان قسم “السينما قبل مئة عام”، وتصفه المخرجة والباحثة السويسرية “ماريان ليفنسكي” بأنه “وكالة سفر تُنظم رحلات إلى الماضي”.

ففي هذه الدورة يُسلط الضوء على إنتاجات من عام 1924، فقد عُرضت مجموعة مختارة من كلاسيكيات وأفلام نادرة أقل شهرة، انتُقيت من الأرشيف، ومنها أفلام رائدة من المشهد الطليعي المزدهر في فرنسا وهوليود وإيطاليا.

فمن تلك الأفلام “أين تذهب؟” (Quo Vadis?) الذي أخرجه “أنتوني مان” و”مارفين ليروي” (1951)، وأدى إلى إفلاس صناعة السينما الإيطالية، بالإضافة إلى رقمنة جديدة تماما لفيلم “القصر والحصن” (Dvorec I Krepost)، الذي أخرجه “ألكسندر إيفانوفسكي” (1951)، مع عروض لنشرات إخبارية تسلط الضوء على بعض الأحداث الكبرى والشخصيات السياسية والثقافية الرئيسية للعام 1924.

ويضم المهرجان فريقا من الموسيقيين المشهورين عالميا، ممن لديهم خبرة جيدة في مهارات دعم الأفلام على الشاشة، وهم يصاحبون جميع العروض الصامتة بموسيقى حية.

كما عُرضت مجموعة كبيرة من الأفلام الموسيقية لـ”دوك إلينغتون”، وهو من أبرز عباقرة موسيقى الجاز. واستضافت أيضا “ساحة ماجوره” 4 حفلات موسيقية ضخمة، وذلك إلى جانب الفرق الموسيقية الأخرى التي رافقت العروض الصامتة، سواء في قاعة مودرنسيمو أو بازوليني.

آفاق المهرجان.. معبد لمريدي السينما العالمية

مع كل ما سبق، فإن “سينما ريتروفاتو” ليس مهرجانا فقط، أو عروض أفلام تزيد عن 480 فيلما في هذه الدورة، وليس سردا لقصص خيالية أو وثائقية، بل هو متحف كبير للأفلام، أو معبد لمحبي السينما ومريديها كما يحلو للبعض أن يصفه، ومنتدى ثقافي تفاعلي وتعليمي أيضا.

فقد تميزت هذه الدورة بوجود ورشة ضمت نحو 40 باحثا وسينمائيا، يدربون على مبادئ عمليات الترميم، ومنهم السينمائية اللبنانية ليانا القصير، وبعد هذه الورشة يساعد كل باحث على الالتحاق بمكان أو أرشيف يستطيع من خلاله اكتساب مزيد من الخبرة.

على صعيد آخر، أتاح المهرجان فرصة لعشاق السينما من الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16-20 عاما، أن يشاركوا بأفكارهم واقتراح وجهات نظرهم الشخصية حول عالم السينما، بصفتهم سفراء السينما للأجيال الجديدة، وقد اختيرت 5 أفلام من برنامج المهرجان كان القاسم المشترك بينها هو التمثيل النسائي في السينما.

“باستر كيتون”.. نافذة على ألق عصر السينما الصامتة

يُعد معرض كتاب “سينما ريتروفاتو” مكانا فريدا للقاء القراء والكتاب والباحثين والنقاد ومحبي السينما، ويقدم مجموعة مختارة من أهم وأعرق الكتب العالمية وأقراص (Blu-Rays) وأقراص (DVD) والتسجيلات.

ومن بين الأسماء الحاضرة هذا العام بقوة، يتقدم “جوزيف فرانك” الشهير باسم “باستر كيتون” الذي كان ممثلا كوميديا ومخرجا سينمائيا أمريكيا، اشتهر بأفلامه الصامتة في عشرينيات القرن الماضي، وقد أدى فيها الكوميديا البدنية والحركات المثيرة.

إذن، بفضل المشروع الذي نظمه “سينماتيك بولونيا” على مدار عدة سنوات، كانت أفلام المخرج الأمريكي “باستر كيتون” -القادم من عصر السينما الصامتة- من أكثر الأفلام التي أعيدت طباعتها في أحدث أشكال التكنولوجيا “بلو راي” و”دي في دي”.

“تشارلي تشابلن”.. في أكناف الصامت العميق الذي أضحك العالم

أتاح المهرجان للجمهور هذا العام اقتناء فيلم “أضواء المسرح” (Limelight) الذي أخرجه “تشارلي تشابلن” (1952)، ويعد أحد أهم أفلامه، فهو فيلم شديد العمق به كثير من الإنسانية.

يدور الفيلم حول ممثل كوميدي يلتقي راقصة باليه شابة، لكنها يائسة مقدمة على الانتحار، فيكون هذا اللقاء ونظرة كل منهما للآخر بمثابة فرصة للعثور على الهدف والأمل في حياتهما، وحتى عندما تبدأ حياته في التلاشي ويحتضر، فإنه يظل يُشجعها على الاستمرار في فنها.

فيلم “أضواء المسرح” الذي أخرجه “تشارلي تشابلن” (1952)

كما نُشر كُتيّب به تفاصيل عن منع “تشابلن” من العودة إلى الولايات المتحدة بعد جولة الفيلم الأوروبية، فقد استهدفته المكارثية في أمريكا، ويتضمن الكتيب إضافات أرشيفية ومواد وثائقية نادرة، بذلت فيها جهدا كبيرا “سيسيليا سينسياريلي”، وهي من المديرين الأربعة للمهرجان، وكانت تلك الإضافات بعنوان “تشابلن ريتروفاتو: أضواء المشهد”.

وضمن المجموعة أيضا نسخة من فيلم “شابلن اليوم” (Chaplin Today) الذي أخرجه “إدغاردو كوزارينسكي” عام 2002. ويتضمن الكتيب كذلك مساهمات حول التعريف بالفيلم، منها تفسيرات “تشابلن” النقدية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

“لوتشينو فيسكونتي”.. مجلدان يرسمان قصة رائد الواقعية الجديدة

أصدر المهرجان أيضا مجلدين ضخمين عن أيقونة السينما الإيطالية المخرج “لوتشينو فيسكونتي”، نطالع من خلالهما رسائله التي كتبها، وتلك التي تلقاها خلال مسيرته، وقد تركت مسيرته بصمة لا تمحى عن الفن والمسرح والأوبرا والسينما في القرن العشرين.

يغطي المجلد الأول ما بين عام 1937 إلى عام 1961، مع مقدمة قصيرة من عام 1921. إنها حقبة حاسمة تُغطي تطوير أسطورة “فيسكونتي”، من تدريبه مع المخرج الفرنسي “جان رينوار” إلى المقاومة خلال الفترة الفاشية، واتجاهه الذي لا يُنسى للمسرح والأوبرا.

فيلم “روكو وإخوته” للمخرج “لوتشينو فيسكونتي” عام 1960

ثم نستعرض أول نجاحاته في السينما، من “اختراع” الواقعية الجديدة مع فيلم “هوس” (Ossessione) الذي أخرجه عام 1943، حتى تحفته النهائية “روكو وإخوته” (Rocco e i suoi fratelli) الذي أخرجه عام 1960.

في حين يتضمن المجلد الثاني أكثر من 700 رسالة، يتحدث فيها “فيسكونتي” مع شخصيات منها مغنية الأوبرا “ماريا كالاس”، وعضو مجلس الشيوخ الإيطالي المخرج “فرانكو زيفيريلي”، والممثل “فيتوريو غاسمان”، والممثلة “إنغريد برغمان”، والمخرج “مايكل أنجلو أنتونيوني”، والرسام “سلفادور دالي”، والكاتب “سيزار زافاتيني”، والكاتبة “سوسو تشيتشي داميكو”، وغيرهم الكثير.

دعوة التضامن بين الفن والتجارة.. تعاون لصالح الإنسانية

تبنى المهرجان دعوة للتضامن والاتحاد بين الفن والتجارة، فدعا للتعاون بين الجهتين -الأرشيفات الوطنية والكيانات التجارية الكبرى- لصالح الإنسانية.

وذلك من خلال ورشة عمل تكونت من حلقتي نقاش سمعي بصري، يدعو إلى كيفية جعل التراث أكثر سهولة، من خلال التعاون بين أرشيفات الأفلام، وبين الأنواع المختلفة من الكيانات التجارية، مع تناول النماذج الاقتصادية لهذه المساعي، وقد استكشفت الجلسة الثانية أساليب جديدة لعرض مجموعات الأفلام في مساحات المتاحف، وإشراك كليهما للجماهير التقليدية والجديدة.

بقي أن نشير إلى أن هذا الجهد يقف وراءه فريق عمل ضخم، بل جيش متفانٍ مكون من 4 رؤساء للمهرجان، و12 أمينا مسؤولين عن الأقسام الستة عشر المختلفة التي يتألف منها البرنامج، بالإضافة إلى فريق عمل مكون من 81 محترفا يعملون طوال العام من “سينماتيك بولونيا” ومن “مودرنسيمو”، ناهيك عن 110 من المتعاونين المؤقتين، وأكثر من 300 متطوع يساهمون بجهدهم لإنجاح المهرجان.


إعلان