“ردهة المعلمين”.. معلمة تائهة بين فن التربية وصراع الإدارة في مدرسة ألمانية

تمثّل المدرسة أول اختلاط بين الفرد والعالم في مختلف أشكاله وتنويعاته، في المدرسة تولد المشاعر الأساسية في الحياة، مثل الحب والكره وقبول الآخر، وتولد أيضا تجسيدات أولية لمحطات تنتظر الأطفال بشكل أوسع في الخارج، مثل العلاقة بين مختلف الطبقات، وعلاقة ذلك بالتنافس المهني وتحقيق الذات.
تساهم هذه المخالطة في تكوين علاقة تبادلية بين جيل ما وما يحمل له المجتمع الذي سيستقبله لاحقا، وبها تتمثل العلاقة بين الطلاب أفرادا، وبين نظام المدرسة بوصفها مؤسسة تضع قوانين الانضباط والعقاب، وتحدد ما هو مسموح للطلبة، وما هو ممنوع.
جاءت فكرة الفيلم الألماني “ردهة المعلمين” (The Teachers’ Lounge) من حادثة قديمة، فقد كان مخرج الفيلم “إيلكر تشاتاك” -وهو ألماني من أصل تركي- مع السيناريست “يوهانس دنكر” في المدرسة الثانوية، وفي إحدى الحصص المدرسية، جاء إداريون إلى الفصل وفتشوا طالبَين، ضمن تحقيق مدرسي في عملية سرقة بالمدرسة.
لم يكن الطالبان يومئذ واعيَين بحقوقهما، ولم يعرفا هل يحق للمعلّم أن يضعهم في دائرة الاتهام من غير مبرر، وأن يفتشهما أمام الزملاء؟ وهل لذلك علاقة بكونهما أقلية عرقية في المدرسة؟ ولأي مدى ستؤثر هذه الحادثة على سمعتهما بين زملائهما؟

عبر تناول سريع ومكثف، يستعين بالدقة بدلا عن الوضوح، يدخل فيلم “ردهة المعلمين” سريعا في قلب تشكيلات السؤال عن ما يمكن أن يحدث لمجتمع مدرسة ألمانية تحفل بتعددية عرقية ودينية، إذا تسبب ادعاء ما في تسميم مناخها.
فكيف يمكن للتطورات الحاصلة بين المدرسة وبين الطلبة وأهاليهم، أن تخلق صراعا إنسانيا ومجتمعيا يقع المدرسون في منتصفه، مثل واقع في قلب أزمة يتحمّل تبعاتها، بينما هو داخليا عرضة لنظام انضباطي، ليس للمدرس حق الاعتراض عليه، ويتحمّل أمام الطلبة وأهاليهم تبعات هذا النظام.
إيجاد الحل السريع.. حيل مدرسية جائرة لفرض الانضباط
في بداية الفيلم، نرى “كارلا” (الممثلة ليوني بينيش) وهي تتحدث في الهاتف، فتبدو متوترة وعجولة بين إتمام حديثها والاستجابة لنداء زميلها، لتنضم إلى اجتماع مع أمناء الفصل الذي تدرّس فيه، نظرا لوجود حوادث سرقة متكررة، بدأت من الفصل وامتدت إلى ردهة المعلمين.
ويمثّل هذا الاجتماع مع الطلبة خطوة سريعة تدفع الفيلم إلى عرض مكثّف، يقوم على الاعتماد على أدوات سينمائية قليلة، تقدّم بتركيز شديد، وباندفاع يفرض الانتباه مبكرا.

يستخدم أحد المدرسين في الاجتماع أسلوبا مراوغا مبطنا بلهجة آمرة ومتحايلة، محاولا دفع ممثلي الفصل إلى اتهام زملائهم، حتى وإن لم يكن هناك سوى شك مبدئي لا يقوم على دليل واضح، وفي خضم ذلك التحايل الذي ينتهي باتهام أحد الطلبة من أصول تركية، تقف “كارلا” عاجزة عن رفض هذا الأسلوب السهل في التضحية بمن يسهل اتهامه.
وبنفس الدرجة من العجز لا تستطيع أن تجاري سرعة زملائها في تلفيق الأمر، والتهوّر في اتهام طالب آخر، فقط لأن المدرسة تتبنى شعارا انضباطيا، وما يهمها تحديدا هو الوصول إلى حل سريع، بعيدا عن وضع الآثار الجانبية في الاعتبار.
رغبة الرفض.. إرادة تتأرجح بين القدرة والعجز
ينذر الموقف الذي وقع في الاجتماع بما سيتشكّل لاحقا لدى “كارلا” من رغبة الرفض، لكنها غالبا ما تأتي متأخرة، وتجلب لها مزيدا من المشكلات، فتعطي انطباعا دائما بوقوفها في منتصف العلاقة بين المدرسة والأطفال، وهو وقوف تعوزه الحاجة في القدرة، وفي نفس الوقت تصبح عرضة للمساءلة، لأنها ممثلة عن قوانين المدرسة وإجراءاتها أمام الطلاب وأولياء أمورهم.

في هذا السياق، يتعاطى المخرج “تشاتاك” مع شخصية “كارلا”، عبر تشريح قائم على الإنكار وقصدية التجهيل، فنحن لا نعرف عنها شيئا من حياتها الخاصة، وإنما هناك إشارة لكونها بولندية الأصل، لكن لا نشتبك معها خلال تعبير عاطفي يخصّ حياتها خارج المدرسة، وأما ردود أفعالها داخل المدرسة فتبدو ملتبسة وقائمة على تكهّنات تتأرجح بين القدرة والعجز، الاتصال مع الحدث في وقته الراهن والانفصال عنه.
وثمّة تعمّد في تضييق المجال البصري، يستبعد الأمتعة العاطفية الخاصة بالشخصية، وينزع عن المشاهد أي ملمح للإشارة إلى شيء بعينه، حتى لا تحال الحكاية إلى معنى توجيهي أو خطابي، نظرا لأن مختلف العلاقات العملية والإنسانية داخل المدرسة محفوفة بهواجس أخلاقية، يمكنها أن تجعل الفيلم “مدرسيا” ومتورطا في تناول أحادي.
قراءة الفيلم.. دلالات سردية متعددة تُورط المُشاهد
خلقت العلاقة الأولية بين أطراف الفيلم حالةً من السعة والامتداد في التفاعل مع تطوّر كل طرف، وكيف يقع الخروج عن حدود المنظومة صاحبة القرار، وأيضا عن حدود الحصر في التلقّي.
بهذه الشكلية يحمل الفيلم تعددية في القراءة، يشارك المُشاهد في تكوينها، عبر وفرة في نثر دلالات التصاعد الحاد في سردية الفيلم، ويمكّنه من وضع رؤى متعددة يتناسق معها الفيلم على اختلافها.

سواء كانت رؤية داخلية، منوطة بمحاولة فهم “كارلا” وما تعكسه من تمثيل أزمة نفسية وإنسانية في القدرة على التواصل والاعتراف، أو تقديمها نموذجا لعكس تبعات القرار المؤسسي الذي تمارسه المدرسة، من دون حاجة إلى تحويل الفيلم لمادة سينمائية يفسد لغتَها علوُّ صوت النقد السياسي والثقافي للمدارس، وللمجتمع الغربي وكيفية تعامله مع تعدد الهويات.
معلمة الفصل.. قناع يخفي صراع الشخصية الخارجي
في ظهور “كارلا” الأول في الفصل، يبدو الفصل حافلا بأطفال من جنسيات وديانات متعددة، ويكتفي الفيلم خلال التزامه بالدقة وتتابع الإشارات بالتعريف بهؤلاء الأطفال، عبر مظهرهم وتفاعلاتهم الخارجية، من خلال ملابسهم والتباين في دقّة النطق اللغوي، وموضعهم من ثنائية الغالبية والأقلية عند حدوث أي أزمة.
يمثل الدخول إلى الفصل أداة نتعرف بها على “كارلا” أكثر، فتترك انطباعاتها المعتادة خارج الفصل، وما يحمل وجهها من غضب مكتوم وانطباع بالرفض وشيء من العجز عن إدراك لحظتها الراهنة، لكنها تصبح داخل الفصل إنسانا آخر، وبشيء من الإجبار تحت وطأة مسؤوليتها الأخلاقية بوصفها مدرّسة، تلزم نفسها بالهدوء والابتسام والتحلّي برحابة الصدر أمام التقلبات الحرجة والطبيعية للأطفال.

يتعمّد الفيلم التعاطي مع الأطفال خارج السياق المعتاد، المنوط بكونهم في هذا السن عرضة للتلقي والتأثر بما يحيط بهم من عوامل تشكّل شخصياتهم وعلاقتهم بالمجتمع لاحقا، فالأطفال في الفيلم ليسوا نتائج ولا فئران تجارب، ولا يمثلون أيضا شخصيات استثنائية ذات مهارات غير عادية.
فالملمح الأصيل في أداء أطفال الفصل يظهر أن لديهم رفضا مستحقا، ويتجاوز أحيانا بالمساهمة في تعزيز الضغط على “كارلا”، بوصفها نموذج المؤسسة التي تلزمهم بنظام انضباطي عقابي، لديهم الحق والقدرة على رفضه بصوت جماعي.
كاميرا الحاسوب.. خطة مرتجلة تزيد الطين بلة
تحاول “كارلا” أن تجد حلا لتكرار السرقات في المدرسة، فتترك كاميرا حاسوبها مفتوحة على مكتبها، وتترك في سترتها المعلقة على الكرسي مبلغا ماليا، فتوصلها محاولتها المرتجلة إلى اكتشاف السارقة.
يظهر بشكل غير أكيد أن السارقة هي إحدى زميلاتها من القطاع الإداري في المدرسة، وهي أيضا وليّة أمر “أوسكار” أكثر طلابها ذكاء، فتجعل هذه الحادثة “كارلا” خصما، حين تنكر زميلتها الأمر وتتعامل معه بعدائية شديدة، وتحفز ابنها ضد “كارلا”، ليجعل الطلبة ينقلبون عليها وعلى قرارات المدرسة تجاه اتخاذ إجراء قانوني.

في هذه المرحلة من الفيلم، يظهر الجانب الفاعل من قبل الطلبة، والتعامل معهم على أنهم طرف درامي ذو تأثير أدائي، يشكّل جهة صراع فاعل ومبادر، بدلا من حضور جانبي.
وتتجلى هذه النقطة في جانبين، الأول منوط بالحضور الجماعي للطلبة، وكيفية تكوين صوت معارض يضع “كارلا” في مأزق يحمّلها مسؤولية نزاهتها، ويقحمها في نتائج عكسية لما حاولت فعله، وأما الجانب الثاني، فيظهر بشكل فردي في أداء الطفل “أوسكار”، فقد كان إصراره وكسب دعم زملائه ضد “كارلا” وإدارة المدرسة، تحركا مبررا ومدفوعا بعاطفة البنوّة.
جلسات الإفطار مع الأطفال.. خطة أثرت الفيلم
خلال تصوير الفيلم، اعتاد المخرج فتح نقاش واسع مع الأطفال، محاولا فهم ما يدور في رؤوسهم، لقناعته بأن ذلك سيمكّنه من توظيفهم بفاعلية أكثر.
وقد خصص المخرج “إيلكر” صباحات التصوير للحديث مع الأطفال عما يحدث لهم في أيامهم العادية، عن علاقتهم بأولياء أمورهم، وخلال هذه المحادثات حاول فهم ردود أفعالهم عن أشياء ستحدث في الفيلم، مثل القدرة على الاعتذار، وعلى رفضه.

وقد ساعدت هذه الآلية في تقديم فصل دراسي به أكثر من عشرة طلّاب، على اختلاف مدى حضورهم، هناك ملمح استقلالي وواضح لكل شخصية، بحيث تتجاوز الوجود العددي الكافي، لخلق صورة واقعية عن فصل مدرسي.
“بين الجدران”.. فيلم ينتقد الصورة المؤسسية للتعليم
في فيلم “بين الجدران” (Entre les Murs) الذي أخرجه “لوران كانتيه” (2008)، وحصد السعفة الذهبية في الدورة الـ61 من مهرجان كان، تقع الأحداث في مدرسة ثانوية بضواحي باريس، ينتمي طلابها إلى عائلات مهاجرة. والفيلم مبني على رواية كتبها بطل الفيلم وكاتب السيناريو “فرانسوا بيغودو” عن تجربة امتدت 10 سنوات، قضاها معلما بمدارس ريفية في فرنسا.
ولأنه كان جزءا من مشروع “بيغودو” في نقد الصورة المؤسسية للتعليم، فقد انطلق الفيلم من سؤال العدالة في المدارس، فهل هو متعلق بالمعيار أم بالنتيجة؟ هل معاملة الطلبة بالمساواة تكفي لإعطائهم الفرصة الكاملة في التعلم؟
ففي فيلم “بين الجدران” نرى دورا اجتماعيا للمدرسة أكثر تعقيدا من فيلم “ردهة المعلمين”، الذي يتبنّى موقفا نهائيا في نقد المدرسة، لكونها مثل أي مؤسسة أخرى تتسلّح بالسيادة والبرمجة الذهنية، وتعمل في سبيل الحفاظ على النظام الاجتماعي والسياسي، بمعنى أن الطلبة يُجهَّزون للخروج طيّعين إلى سوق العمل في الخارج، أي أن يكونوا أشخاصا مطابقين لرغبات “السوق”.
عالم المدرسة.. تعددية ثقافية في بيئة تسعى للتعايش
موقف الكاتب “فرانسوا بيغودو” النظري من المدرسة في فيلم “بين الجدران”، لم يمنعه من تأليف فيلم بنص مميز، ينطلق من المعطيات المتاحة للواقع، ويجيد التعبير عن أزماته من قلب بنية سينمائية تحتفظ بجمالياتها الفنّية، بحوارات مطوّلة ذات طابع أدبي، وتقديم طلبة لديهم مساحة نديّة ودفاع مستند إلى تنوّع عرقي متنافر أحيانا، يبيّن أن القدرة على التعايش والمواطنة ليس أمرا يعتمد على الأفراد فقط، بل يبدأ بالأساس من مختلف مؤسسات الدولة.

ويمثّل فيلم “بين الجدران” مرجعا لفيلم “ردهة المعلمين” في نقاط كثيرة، كالزمن السينمائي المقدّم بنفس الآلية، والمشاهد الطويلة، والتصوير ضيّق الحيّز داخل المدرسة بوصفها صورة للعالم، والتعاطي مع أفكار الطلبة ومواقفهم بوصفها صورة للأفراد في الخارج.
وعلى مستوى التعبير عن الهوية والتعددية الثقافية في المجتمع الأوروبي، تحضر المرجعية في كيفية التعبير عن حاجز اللغة، وصعوبة وجود طالب يمثّل الأقلية، وتكون له فرصة في الاستقلال والتعبير عن رأيه بشجاعة، والأمان في الانكشاف أمام زملائه.
من فيلم “الصف”
سؤال الهوية.. حكاية تستنطق ردود فعل جميع الأطراف
تعامل الفيلم بذكاء ومراوغة مع مدى حضور سؤال الهوية وأثره على الانسجام المجتمعي، عبر تضمين الفكرة في خلفية الشخصيات، وإظهارها طبقا لحاجة الزمن الفيلمي، الذي يلتزم أولا بالتخلّص من مباشرة الإسقاط الواقعي، ويتعامل مع الحكاية عبر استنطاق ردود أفعال الأطراف كلها، طبقا لما تحمله من تشكيل عرقي وموقع مجتمعي.

وبذلك يظهر جانب الهوية من ناحية حاجتنا إلى تعريف تطبيقي تعكسه حالة الفيلم، وهو تأكيد صورة متسقة للهوية، من خلال الاعتراف بالآخر بوصفه كيانا موجودا، وله الحق في وجود بنية حوارية وتعايش ديمقراطي والحق في الاختلاف.
وحينما تنزع هذه البنية الحوارية، أو تتمثّل في وجود شكلي، فإن الحقيقة تصبح بعيدة المنال، بشكل يقارب بُعدها الأشبه بهاجس أساسي شكّل الفيلم.
صناعة الصورة والموسيقى التصويرية.. لغة الفيلم الخفية
لعب فيلم “ردهة المعلمين” على تقديم حكاية متعددة، تتمسّك بالظاهر التشويقي القائم على نتائج أحداث غامضة تملأ المدرسة، ولم يجهل البعد الواقعي والمعيشي للحكاية، فضلا عن الإتقان البصري في جعل التصوير السينمائي مادة كاشفة لتنويعات “كارلا” الشعورية.
كما أن حضور الموسيقى التصويرية كان ذكيا، فقد مثلت بديلا عن القصور البصري والإدراكي لدى الشخصيات المختلفة، ولأنهم دائما يتحركون في إطار حرج يقوم على الاتهام والتكهّن والتبطين، تأتي الموسيقى باعتبارها مسموعا “شاملا”، ولغة أكثر حدّة من محدودية الرؤية البصرية، ولها قدرة على استنطاق الجوانب غير المرئية –أو المخبأة عمدا- من قبل شخصيات الفيلم.

وخلال إحدى نقاشاتها مع الطلبة حول ما يحدث من خلافات ونزاعات في ردهة المعلمين، تقول “كارلا”: ما يحدث داخل ردهة المعلمين، يبقى بداخلها.
والفيلم يسحب هذه الجملة إلى مساحة تناول واسعة تصل أحيانا إلى تفنيدها، فما يحدث داخل المدرسة ويعيشه الطلبة، لا يبقى بالضرورة داخلهم، بل يشكل ردود فعل في الخارج، والعكس صحيح فيما يتعرّض له المدرسون من مؤسسة المدرسة والطلبة في آن واحد.