“العودة إلى الأسوَد”.. فيلم روائي يخفي مأساة أيقونة موسيقى السول “أيمي واينهاوس”

بعد مرور 13 عاما على وفاتها، تعود مغنية السول الشهيرة “أيمي واينهاوس” إلى الحياة العامة من جديد، فصورها تزيّن جدران الصالات السينمائية منذ مايو/ أيار الماضي (2024)، هنا في المدن الفرنسية، وعلى الحافلات واللوحات الإعلانية الكبرى، للترويج للفيلم الروائي الذي يعرض قصة حياتها “العودة إلى الأسوَد” أو (Back to Black).

هذا الترويج الضخم يجعلك تشاهد الفيلم وأنت تحمل كثيرا من التوقعات والأفكار، أمام حياة قصيرة مليئة بالأحداث كما كانت حياة “أيمي واينهاوس”، فقد عاشت في سلسلة من الأزمات، ملأت صفحات الجرائد العالمية.

لكنك تخرج محبطا من المشهد الأول، ليس لأنه قطعة فنية فقيرة فحسب، بل لأنه أيضا يخالف كل ما كنت تقرأه عن حياتها وما كان ينقل حيا، وما تتذكره من صور “الباباراتزي” الشهيرة الجنونية لتلك الليالي التي تكون فيها “واينهاوس” خارج تركيزها وغارقة في حزنها.

أنانية المخرجة.. معالجة مغرورة أضعفت قيمة الفيلم

يبدو أنّ المخرجة البريطانية “سام تايلور جونسون” مخرجة الفيلم المثير للجدل “خمسون ظلا من الرمادي” (Fifty Shades of Grey)، قد قررت أن تُحوّل حياة “أيمي واينهاوس” إلى حياة عادية، سواء ما مرت به من أزمات، أو التأثير السام لمَن حولها، وحتى موهبتها.

فقد صورتها شخصية ضعيفة، لا شخصية قوة وعبقرية كما كانت “واينهاوس”، وهذا الخط الدرامي غير المتصاعد ذو الإيقاع الواحد، قد جعل الفيلم فقيرا فنيا ومحل كثير من النقد، سواء من المتخصصين أو من الجمهور نفسه.

المخرجة البريطانية “سام تايلور جونسون”

فقد كانت “جونسون” قد صرحت في لقاءات إعلامية، أنها تريد نقل السيرة الذاتية لـ”أيمي” من وجهة نظرها، ومن غير المفهوم أن يقدّم مخرج وجهة نظره الخاصة في شخص وثّقت الصحافة كل خطوة في حياته.

ربما كانت تريد أن تقدم صورة خيالية وواقعية معا عن حياة “واينهاوس” التي علقت في ذاكرة أجيال، ولا تزال أجيال جديدة تقع في حبها، لكن غرور المخرجة هذا وأنانيتها لم يساهما بنجاح الفيلم، بشهادة نقاد من موطنها، مع إجماعهم على مديح أداء الممثلة “ماريسا أبيلا” في أداء الدور الرئيسي.

الأب والزوج.. شخصيات سامّة لمّعتها مخرجة الفيلم

عرض الفيلم تيه وضياع “أيمي” ومعاناتها مع الكحول والشره المرضي، لكنه صوّرها عنيفة أيضا، فقد ضربت في الفيلم بعض المعجبين، وكذلك زوجها “بليك فيلدر سيفيل” الذي يصوره الفيلم رجلا في منتهى الجاذبية ومقتنعا بالمخدرات، لكنه غير مقتنع بـ”أيمي” نفسها.

يظهر “بليك” صاحب شخصية متميزة، فهو الذي عرّف “أيمي” بموسيقى الجاز وروّادها، وهو ما وصفته صحيفة “نيويورك تايمز” بأنه مشهد غير قابل للتصديق، ويقلل من مكانة “أيمي” الموسيقية، وأنه بمثابة إهانة، فقد كانت لديها معرفة موسيقية واسعة، وتحدثت في كثير من لقاءتها كثيرا عن موسيقى الجاز.

“إيمي واينهاوس” وزوجها “بليك”

ولا أحد يدري لماذا تريد المخرجة أن تقدم “بليك” بهذه الجاذبية، وما كان إلا “مدمنا أحمق” وقعت بحبه “أيمي”، بحسب التقارير والأخبار الأرشيفية الموثقة عن الفترة القصيرة التي عاشاها معا، فقد كان شخصية سامة أخذها إلى طريق المخدرات، ولم يستحق حبها، وفي النهاية تركها تحت ادعاءات أخلاقية، وطلقها لتكوين عائلة أخرى، وأنجب طفلا طالما تمنته “أيمي”، مما قادها بطريقة أو أخرى نحو الموت.

وذلك أيضا ما فعله والدها “ميتش واينهاوس”، فقد سرّع حتفها، حين قرر عام 2005 أن تكمل جولتها الفنية، ولا تذهب إلى مصحة لعلاج الإدمان، لكن المخرجة قدمته في الفيلم مراعيا لطيفا، وقد أدى دوره الممثل “إيدي مارسان”.

“تحفة المأساة”.. محاولة لمسح وثائقي فضح أسرارا قاتمة

لا يغامر الفيلم بنقد الأشخاص الذين لا يزالون أحياء، ممن ساهموا في مفاقمة معاناة “أيمي”، وهو عكس ما فعلته “أيمي” نفسها، فقد انتقدت بسخريةٍ مَن حولها في أغانيها.

يقدم الفيلم قصة عاشقين يعانيان من مشاكل وبيئة متهاوية كأي قصة أخرى، وربما يعود ذلك إلى كون والداها “ميتش” هو من أعطى إذنا لصناعة الفيلم وتابَع السيناريو، فيبدو أنه كان يريد فيلما يثير سعادة الجميع، إلا الذين أحبوا “أيمي” حقا.

فمن السهل أن نلاحظ أن المخرجة ووالد “أيمي” سعيا بكل الطرق لمسح الفيلم الوثائقي “أيمي” (Amy) من الأذهان وربما الذاكرة أيضا، فقدّما القصة بعكس ما جاء عليه الفيلم الوثائقي الشهير، الذي كان وقتها طلقة إبداعية موجعة لكل من آذى “أيمي”، وقد صدر عام 2015، وأخرجه البريطاني “عاصف كاباديا”، وخلص إلى أن إنقاذ حياتها كان ممكنا.

بوستر فيلم “العودة إلى الأسوَد”

وقد أطلقت عليه يومئذ بعض الصحف العالمية وصف “تحفة المأساة”، وهو يعرض حقيقة ما حدث لها في أكثر من 100 مقابلة أجراها ودمجها معا، وكانت إحداها مع والدها الذي اعترف في الفيلم أنه منعها من دخول المصحة، ولكنه بعد عرض الفيلم اتهم المخرج أنه اقتطع من المقابلة ما يريده، ووصف فريق الفيلم بأنهم وصمة عار.

ولم يكن الأمر يحتاج كل ذلك الاعتراض، فقد غنّت “أيمي” ما حدث في أغنيتها الشهيرة “مصح التأهيل” (Rehab)، فقالت: أجبروني على الذهاب إلى مصح التأهيل، ولكني قلت لا لا لا.. ليس لدي الوقت ولو كان أبي يرى أنني بخير، أتخيل أنني في البيت مع “راي”، وليس لدي 70 يوما.

وقد كانت “أيمي” تنقل تفاصيل ما يحدث في حياتها إلى الأغاني التي تكتبها بتعبيرات ساخرة قاتمة وذكية ولحن جذاب، فتفجر بها شغف الجمهور، وجنون صانعي الموسيقى الذين منحوها 5 جوائز “غرامي”، وترشحت لسادسة عن ألبوم “العودة إلى الأسوَد” (Back to Black) عام 2006، فقد صنعت من مأساتها في الحب والحياة أيقونة موسيقية أبدية.

“جانيس واينهاوس”.. أمّ تخلّد الذكريات قبل انهيار الذاكرة

يبقى فيلم “العودة إلى الأسوَد” في الجانب الآمن، لا يخاطر بنقاش العلاقات نقاشا عميقا، لكنه أظهر بشكل سطحي دعم محيطها، لا سيما والدها، بل إنه أنهى الفيلم بمشهد يجمعهما.

ومع ذلك فإنه لم يقدم علاقتها بوالدتها “جانيس واينهاوس”، وكانت قد كتبت مذكراتها “في حب أيمي.. قصة أمّ” عام 2014، وقالت يومئذ إن فقدانها للذاكرة تدريجيا بسبب مرض التصلب العصبي يجعلها تشعر بالقلق “بشأن اليوم الذي تتوقف فيه أيمي عن الحياة في رأسي وقلبي، لا أريد أن يأتي هذا اليوم على الإطلاق”.

والدة “إيمي” تصدر كتابا عن إيمي يضم رسوماتها وقصائدها وصورها

كما أنها ظهرت في فيلم وثائقي أنتجته “بي بي سي” يتحدث عن “أيمي” من وجهة نظر نسائية عام 2021، حمل عنوان “أيمي واينهاوس.. 10 سنين مضت” (Amy Winehouse: 10 Years On)، وقد أرادت والدتها أن تنتج أكبر عدد من الأفلام والكتب، لتقول كل ما تتذكره عن “أيمي” قبل فقدان الذاكرة.

وقد شاركت أيضا والدة “أيمي” في إصدار كتاب رقيق عنها بعنوان: “أيمي واينهاوس.. بكلماتها”، ويضم رسوماتها وقصائدها وصورها، فكانت جائزة هذه الأم الحزينة على ابنتها أن همّشتها المخرجة “تايلور” تماما في الفيلم الروائي الأول عن حياة “أيمي”، وكان ظهورها نادرا وهامشيا.

“خيالي واقعي”.. إخفاء الحقيقة تحت ستار الفيلم الروائي

لا شك أن هذه الانتقائية في إظهار الشخصيات، وتبييض صفحتها في حياة “أيمي”، هو ماجعل المخرجة وطاقمها يختارون الابتعاد عن صناعة فيلم وثائقي سيظهر الحقائق كلها، ولن يُخفف المأساة على الإطلاق.

كما أنّ تعنت والدها أمام خروج ذاكرة مصورة عن ابنته، جعله يخطو نحو الخيارات الأسهل كي تقدم الأحداث بشكل مخفف، وهذا ما جمع بينه وبين المخرجة “تايلور” ليصنعا هذا الفيلم، فالأفلام الوثائقية لا تستطيع إخفاء الجانب المعتم الحقيقي المدمر من حياة “أيمي” واللحظات التي عانتها، وإلا اتُّهمت بالكذب، على عكس الأفلام الروائية، فكل ما فيها سيقال إنه “خيالي واقعي”.

“إيمي واينهاوس” مع جدتها

يبدأ الفيلم بمشهد للبطلة وهي تتجه لتناول وجبة عائلية مع جدتها وأقاربها، وهناك يتصرف معها الجميع بلطف شديد، ويبدون كأنهم يعرفون أنها ستموت مبكرا، وهذه نقطة ضعف الفيلم الرئيسية أنه يسير دراميا، وتتصرف شخصياته من نقطة المصير المعروف لبطلته، مما يجعله مفتعلا، وبه تجمُّل كثير.

فالحقيقة تقول إنه لم يبق أحد لم يقسُ عليها، سواء شركات الإنتاج التي حاربت تلقائيتها، أو عائلتها، أو صحف بلدها، أما الجمهور فلم يفعل ذلك قط، وبقي مخلصا لذلك الصوت الشجي، كما أخلصت هي له بعبقرية أغانيها التي تعيش في الذاكرة الموسيقية للأبد، لكن يبدو أن هذا الإخلاص لم يعد منقذا لها في يوليو/ تموز 2011، حين وُجدت ميتة بسبب تسمم الكحول.


إعلان