“أنسيلم كيفر”.. فن التحديق في الهاوية
في مهرجان كان 2023، شارك المخرج الألماني الكبير “فيم فيندرز” بفيلمين دفعة واحدة، أحدهما روائي بعنوان “أيام مثالية” عرض ضمن المسابقة الرسمية، والآخر وثائقي عرض بقسم “عروض خاصة” بعنوان “أنسيلم”.
وبينما صور “فيندرز” فيلمه الأول في 16 يوما، استغرق الأمر ثلاثة أعوام لإنجاز فيلمه الثاني. ففي ” “أنسيلم” “، يخلق “فيندرز” بورتريه شاعريا مركبا بلمسات تجريبية عن حياة وفن واحد من أهم الفنانين الألمان المعاصرين وهو “أنسيلم كيفر”.
لقاء مؤجل لأكثر من ثلاثين عاما
تعود حكاية فيلم “أنسيلم” الى أكثر من ثلاثين عاما حين التقى “فيندرز” مصادفة بالرسام والنحات المثير للجدل “أنسيلم كيفر” في عام 1991بينما كان يستعد لإقامة أكبر معرض له في المتحف الوطني في برلين.
كان “فيندرز” في هذه الأثناء يقوم بمونتاج فيلمه “حتى نهاية العالم” (Till The End Of The World) في مكان غير بعيد عن المتحف. التقيا دون سابق معرفة في مطعم قريب من مكان عمليهما وتوطدت صداقتهما سريعا واتفقا على صنع فيلم سويا.
عندما افتتح معرض كيفر، كانت المراجعات قاسية، كان “كيفر” ممزقا إلى حد كبير، لدرجة أنه غادر ألمانيا بعد بضعة أشهر وانتقل نهائيا إلى فرنسا، ولذلك فإن تعاونه مع “فيندرز” تأخر لثلاثة عقود تقريبا.
خلال السنوات التالية لرحيله، استمر عمل “كيفر” في التوسع، لدرجة أنه قام بتحويل عقار مساحته 200 فدان بالقرب من بارجاك، في جنوب فرنسا، إلى مشروع فني ضخم. وفي عام 2019، اتصل “كيفر” بفيندرز لدعوته لزيارة مشروعه الهائل.
وثائقيات “فيندرز”.. فنانون معاصرون بالغو التأثير
يحب “فيندرز” أن يعمل دون سيناريو مقيد، تاركا أفلامه مفتوحة إلى حد كبير على الارتجال والحدس، وكأن الفيلم يجد طريقه الخاص نحو الوجود، لذلك يميل “فيندرز” مؤخرا نحو السينما الوثائقية التي تسمح له بمثل هذه الحرية.
ينتمي “أنسيلم” أحدث أفلام “فيندرز” لسلسلة من الأفلام الوثائقية التي صنعها عن عدد من الفنانين المعاصرين بالغي التأثير. تأتي هذه الأفلام مثل رحلة خاصة إلى مناطق غير مستكشفة في أعمالهم.
في عام 2011 صنع “بينا” وهو فيلم صور بالأبعاد الثلاثية عن حياة وفن مصممة الرقصات الألمانية بينا باوش. وفي ملح الأرض (2014)، ينغمس “فيندرز” في أعمال المصور الفوتوغرافي البرازيلي الفذ “سيباستياو سالجادو” محاولا اكتشاف الرجل خلف قناع المصور.
وما يربط “فيندرز” بهؤلاء الفنانين هو افتتان واضح بفنهم، بالإضافة إلى شغفه بإبداع الفنون البصرية عموما، لكن عمل “كيفر” أقرب بكثير لـ”فيندرز” من فن “بينا” أو “سالجادو”؛ الرجل الذي يعتقد “فيندرز” أنه يرسم الكون ويرسم التاريخ”، إذ يثير لديه مستوى آخر من الافتتان.
“فيندرز” وكيفر”.. سر الانجذاب
يتحدث “فيندرز” في أحد حواراته الصحفية أن الإنسان دائما ما يبحث عما هو منجذب إليه بالضرورة. فليس من الصعب إدراك أسباب انجذاب “فيندرز” لكيفر وعالمه الفني. إنهما مثل شقيقين ولدا في بيت واحد قبل أن تأخذهما الحياة في اتجاهين مختلفين.
فقد ولد كلا الفنانين في عام 1945، في بلدتين صغيرتين على ضفاف نهر الراين. يقول “فيندرز”: “لدينا نفس الذكريات تماما، نشأنا تحت أنقاض الحرب العالمية الثانية، وتعلمنا على يد مدرسين نازيين، وعشنا في بلد أراد إعادة اختراع نفسه بإنكار ماضيه القريب وكأنه لم يكن”.
وفي الوقت الذي كرس “كيفر” فنه للتنقيب عميقا في الماضي لمواجهة الصورة الذاتية المشوهة لألمانيا، كان كل ما أراده “فيندرز” هو مغادرة ألمانيا. فعاش في أمريكا لـ15 عاما قبل أن يشعر أنه مستعد لمواجهة ماضي بلاده. فقد استغرق وقتا طويلا للتصالح مع حقيقة كونه ألمانيا.
حين عاد “فيندرز” بعد ترحال لوطنه نهاية الثمانينيات، صنع فيلمه “أجنحة الرغبة” (Wings of Desire) وفي طرف منه، يعود إلى ساعة الصفر، لحظة صعود الفاشية في ألمانيا باعتبارها أصل الشر الذي اجتاح العالم.
علاقة “فيندرز” بـ”كيفر” وفنه أشبه بقاعة مرايا يرى فيهما ذاته وتحولاتها، ويمنحنا فيلم “فيندرز” عدسة آسرة يمكن من خلالها رؤية كيف تعامل “كيفر” مع تاريخ بلاده.
فن التحديق في الهاوية
في واحد من مشاهد الفيلم نشاهد “كيفر” يكتب على حائط أبيض “خفة الوجود التي لا تحتمل”، وهو عنوان للكاتب التشيكي “ميلان كونديرا” الذي تتمحور روايته بشكل أساسي حول سؤال الخفة والثقل هل نعيش حياتنا متخففين من كل ثقل، أم نخطو في العالم تحت ثقل التاريخ والمعنى والمشاعر؟
ويخبرنا “كيفر” في فيلم “فيندرز” أن البشر يسعون للخفة هربا من ثقل الأعباء، لأنها تجفل من التحديق في الهاوية. ففن “كيفر” هو فن التحديق في الهاوية، هاوية تاريخ بلاده.
يوضح فيلم “فيندرز” المعقد والمتعدد الطبقات أن فن “كيفر” في أحد مستوياته هو استجواب طويل لألمانيا التي ولد فيها كل منهما، ألمانيا الأطلال والصمت وظلام السنوات النازية. ألمانيا التي تعبر عنها قصيدة الشاعر “بول سيلان” الملهم الأكبر لـ”كيفر” ويتكلم فيها عن ” الذئاب، وحليب الفجر الأسود، وعن أولئك الذين يحفرون مقابر في الريح، وعن الموت أزرق العينين القادم من أرض الألمان”. ثم يلقي التاريخ بثقله على أعمال “كيفر”، كما يتضح من منحوتاته ولوحاته، أو كتبه الضخمة المصنوعة من الأسمنت والرماد والفروع المحروقة التي قام بتجميعها في مكتبة مؤقتة ضخمة.
فن “كيفر” ومقاومة النسيان
يفتتح “فيندرز” فيلمه بتماثيل “نساء الأزمنة القديمة” لـ”كيفر” حيث تطفو كاميرته بينهم بحرية. تماثيل بفساتين بيضاء دون رؤوس، وقد بدل “كيفر” الرؤوس بأثقال من الخشب، أو الحجر أو القش أو الشجر. يأتي صوتهم عبر شريط الصوت همسا غامضا قبل أن يتحول لبيان واضح النبرة: “قد نكون مجهولات أو منسيات، لكننا أبدا لم ننس شيئا”.
يكاد هذا البيان الموجز أن يلخص جوهر مشروع “كيفر”، فهو ينهض بشكل جوهري على مقاومة ما تم وصفه على أنه نوع من فقدان الذاكرة الجماعي تجاه فترة الحكم النازي. إنه يحفر عميقا في الرغبة في إبادة فعل النسيان.
أراد أن يضع إصبعه على الجرح، أن يفتحه مجددا، أن يبقى الذكرى حية كندوب مؤلمة، أراد أن يفخخ الرغبة في النسيان. من الناحية المباشرة والضمنية، يغرقنا “فيندرز” في استكشاف “كيفر” لـ”الجرح المفتوح وهو يتجلى بشكل يكاد يكون حرفيا في الفيلم من خلال الاستعراض المتواصل لفنه. وفي معرضه الهائل، يعيد “كيفر” المدن في حالة خراب ما بعد الحرب، كما عاشها طفلا ثم يمزج “فيندرز” هذه الصور مع لقطات أرشيفية لطفل يسير في شوارع أحد الأحياء المدمرة. إن ” “أنسيلم” ” كفيلم هو في النهاية امتداد لـ”احتجاج “كيفر” ضد النسيان”، لأنه يذكرنا بأن الفن هو عمل من أعمال التذكر.
سيرة ذاتية أم نزهة شعرية؟
يتبع الفيلم مسارا خطيا فضفاضا لحياة “كيفر”، يعيد تمثيل بعض من وقائع حياته ومع ذلك فهو ليس سيرة ذاتية مباشرة. يستخدم “فيندرز” بعض اللقطات الأرشيفية وبعض المقابلات مع “كيفر” إلا أنه لا يصنع فيلما وثائقيا تقليديا على الإطلاق. إنه يحاول أن يذهب بعيدا في أعماق خيال كيفر، يحاول أن يمزج حكايته الشخصية مع نظرته للعالم وفلسفته الفنية. إنه نزهة شعرية في حياة وفن كيفر.
ويعزز التعليق الصوتي هنا من طبيعة الفيلم الشعرية، فيأتينا أحيانا على شكل همهمات غير مفهومة أو مقاطع من قصائد لشعراء وكتّاب منحوه الإلهام، حتى طارد “كيفر” شعر الروماني اليهودي “بول سيلان” الناطق بالألمانية في لوحاته.
هناك العديد من لوحاته مستلهمة من قصائده أو مهداة إليه، وهناك أيضا “إنجيبورج باخمان” و”مارتن هيدجر” و”ميلان كونديرا”. وهذا ليس فيلما سيكولوجيا، فنحن أمام بورتريه هائل يمنحنا صورة مبهمة لـ”كيفر” كإنسان، لكنه يستفيض أيضا إزاء “كيفر” كفنان وكيف يتعانق فنه وإلهامه واهتماماته.
إنه فيلم عن عمل “كيفر” أكثر من كونه دراسة قياسية لسيرته الذاتية. إنها دراسة خاصة جدا لروح رجل فريد، يتم سردها من خلال صور أعماله، معززة بالاستخدام المثير للأرشيف المقدم بتقنية ثلاثية الأبعاد.
آفاق جديدة للسينما ثلاثية الأبعاد
لا يشرح “فيندرز” في فيلمه أسرار فن “كيفر” أو يفسرها بل يغمرك بها ومن هنا يأتي اختيار الأبعاد الثلاثية لفيلمه جوهريا لإيصال التأثير الكامل لأعمال “كيفر” وطموحه الفني إلى الجمهور.
هذا الفيلم لا يعد اللقاء الأول بين “فيندرز” وتقنية الأبعاد الثلاثية التي يرى أن هوليود حولتها لموضة تستخدم حصرا في أفلام الحركة وفي سينما الأبطال الخارقين والفانتازيا. فقد استخدم “فيندرز” هذه التقنية في فيلم وثائقي مثل “بينا” بالإضافة لفيلم قصير عن فن “إدوارد هوبر” بعنوان “شيئان أو ثلاثة أعرفها عن إدوارد هوبر” (Two or Three Things I Know About Edward Hopper).
يرى “فيندرز” سينما الأبعاد الثلاثية كلغة شعرية قادرة على نقل إمكانات جديدة للواقع، فيخلق من التصوير ثلاثي الأبعاد تجربة مختلفة تماما عن معايشة الأعمال واكتشاف طبقاتها ومداها مع اتساع مساحة الرؤية.
ويأخذنا “فيندرز” إلى عالم “كيفر” بطريقة مؤثرة وعاطفية، ليضمن للمشاهد شعورا بأنه يقف أمام القطع الفنية في عرض حي، كما يتيح لنا الفرصة لاستيعاب الحجم الملحمي للوحات الفنان معززا التجربة التأملية.
ويتنقل الفيلم بين لقطات حميمية قريبة ولقطات بعيدة تلتقط القطعة بأكملها. ويستخدم “فيندرز” بمهارة وحساسية انتقالات الذوبان أو المزج الناعم التدريجي dissolve (وهو امتزاج صورة جديدة بالصورة الجارية حيث تختفي الأولى بالتدريج لتحل محلها الجديدة) ما يلفت النظر لطبقات الصورة ومستويات الإدراك المتعددة التي تنبثق من الشاشة. تشتمل اختيارات الموسيقى التصويرية الكلاسيكية الجديدة أيضا على أصوات المحيط المتداخلة وغناء هامس يؤكد مرة أخرى على بنية الفيلم القريبة للكولاج.
العنف بين التصوير والتمجيد
في بداية اهتمامه بفن الرسم، كان “كيفر” مولعا بفن “فان غوخ” وتصويره الساحر للمناظر الطبيعية وذلك قبل أن تتضح ملامح مشروعه الفني القائم على التحديق في ظلام التاريخ. ساعتها صرح أن بإمكانه فقط رسم المناظر الطبيعية وقد دهستها الدبابات. العنف في فن “كيفر” ليس عنف الموضوع الذي يتجلى في هوسه بالخرائب والدمار فقط، بل عنف الأسلوب أيضا.
يصور “كيفر” الفاشية والحرب، باستخدام مواد عضوية مثل القش والشعر على لوحاته الضخمة ثم حرقها. وهو يطبق أسلوبا مشابها على كتبه اليدوية الهائلة، حيث تكون كل صفحة ثقيلة مثل لبنة أو اثنتين.
في كتابه عن ” مارتن هايدغر” فيلسوف ألمانيا الكبير الذي لم يعتذر أبدا عن تأييده للنازية، نشاهد في الصفحة الاولى منه عقل “مارتن هايدغر” والى جانبه فطر سرطاني سام، وفي الصفحات التالية يبدأ الفطر السرطاني في التهام مخ الفيلسوف كعفن قبل أن يقضى عليه تماما.
يخصص “فيندرز” مساحة من فيلمه لإظهار كيف يمكن أن يكون التدمير أيضا جزءا من ممارسة الفنان. فنرى “كيفر” يستخدم قاذفات اللهب لإشعال المواد التي يستخدمها ونختبر وحشية المعدن المنصهر الذي يدمر أسطح لوحاته. ونراه يصفع ويجرح سطح لوحته بقطعة من المعدن يستخدمها كفرشاة بديلة.
ويرينا “كيفر” كيف يمكن للفن أن يصور العنف دون تمجيده عكس الكثير من الأفلام مثلا التي تناولت برلين في الثلاثينيات مستفيدة من مظاهر الفاشية كجمالية مثيرة نوعا ما، ويتجنب “كيفر” نهائيا في فنه الجاذبية البصرية للفاشية.
يمنحنا فيلم “فيندرز” تجربة معايشة غامرة لفن “كيفر” وفهما واضحا لحجمه وطموحه الهائل عبر جمالية مركبة وشاعرية.