الكونت “دو مونت كريستو”.. انتقام ملحميّ من الأدب إلى الشاشة الكبيرة

الكونت دو مونت كريستو

بين السينما والأدب وشائج قديمة معقدة وعلاقة تأثير متبادل؛ لطالما اهتمت السينما باقتباس الروايات، لا سيما الناجحة منها، وتقديمها بلغة بصرية قد تضيف وتبهر، وقد تسيء وتخيّب، لكنها، في معظم الأحيان تلفت الانتباه إلى أعمال أدبية وتعيد الأنظار لأعمال قديمة.

رواية “بالذات”، هي إحدى كلاسيكيات الأدب الفرنسي، وأشهر ما كتبه “ألكسندر دوما” الأبّ بعد “الفرسان الثلاثة”، شكّلت وحيا لثلاثين عملا سينمائيا وتلفزيونيا، تعود من جديد لتُلهم السينما، مع أن تحويل رواية من 1400 صفحة إلى سيناريو ليس بالأمر الهيّن، لكن “ألكسندر دو لاباتليير” و”ماتيو دو لابورت” كاتبي السيناريو المخرجين الفرنسيين، قررا المجازفة، واقتضى منهما الأمر ثلاث سنوات بين كتابة وتحضير ليجهز “الكونت دو مونت كريستو” وليشارك في الدورة 77 لمهرجان كان 2024 خارج المسابقة.

يعرض الفيلم حاليا في الصالات الفرنسية وفي بعض دول العالم، ويحقق نجاحا ساحقا في فرنسا مع أكثر من خمسة ملايين بطاقة مبيعة خلال شهر واحد، ولم يقتصر الإقبال على دور العرض فقط، بل الفيلم الناجح المأخوذ عن الرواية، يحثّ في كثير من الأحيان لاستعادة قراءتها، وانتشالها من النسيان، وتذكير الأجيال الجديدة بها.

رواية “الكونت دو مونت كريستو”

هذا ما فعله “الكونت دو مونت كريستو. فمنذ صدور الفيلم في 28 يونيو/حزيران الماضي 2024، تضاعفت مبيعات رواية “ألكسندر دوما” عشر مرات، ما دفع الناشر إلى إعادة طباعة الكتاب بجزئيه ثلاث مرات خلال شهرين.

سر النجاح.. الكنز المخبأ

تجري أحداث الفيلم عام 1815، بداية عهد لويس الثامن عشر، حيث قام الشاب “بيير نيني” بدور الشخصية المركزية “إدموند دانتيس”، وهو ضابط بحري فرنسي شاب وشجاع، يقع في حبّ “مرسيدس” (آناييس دوموستييه) وهي فتاة من عائلة نبيلة وغنية، تثير علاقته بها حسد البعض ورفضهم، فيتآمرون عليه مع زملاء له في البحرية، فيتم توقيفه يوم زفافه ويُدان ظلما باعتباره مؤيّدا لبونابرت، ويسجن في جزيرة مقابل ميناء مرسيليا لمدة أربعة عشر عاما. وفي السجن يلتقي بالأبّ “فاريا” الذي يكشف له عن كنز مخبأ في جزيرة مونت كريستو.

يوم زفاف “إدموند دانتيس” على “مرسيدس”

بعد وفاة رئيس الدير، يتمكن “دانتيس” من الهرب، على الرغم من استحالة الأمر تقريبا، ولكن لا مستحيل في مغامرات كتلك التي تشابه الأساطير، وتنتمي فيها الشخصية إلى عالم سحري فيه الكثير من الخيال والشعر، عالم ينغمس فيه المشاهد وقبله القارئ، متقبّلا كلّ الأعاجيب.

إن فكرة البطل تثير المخيلة على الدوام ومعها رغبة في حصول شيء خارق يسمح بتحقق ما لا يمكن وقوعه، وبعد التمكن من الفرار، يعود “دانتيس” باسم الكونت “دو مونت كريستو” إلى باريس؛ مسرح ماضيه وحياته التي تحطمت بسبب المؤامرة، وسيستخدم الكنز للانتقام من الخونة الثلاثة الذين دمروا شبابه، ويبدأ بتنفيذ خطته بمساعدة الأميرة اليونانية “هايدي” (آنا ماريا فارتولومي) وشاب آخر، كانا هما أيضا ضحية نفس الأشخاص.

الكنز كان مخبأ في جزيرة مونت كريستو

بثّ هذا الفيلم الملحمي خلال ساعتين و58 دقيقة حياة جديدة في قصة الانتقام تلك، وسلّط الضوء على البعد النفسي للشخصيات، والبعد النفسي لشخصية “إدموند دانتيس” أولا وقبل كل شيء، وهذا سرّ نجاحه.

صراع بين الحب والانتقام ومواجهة النفس

اعتمد الاقتباس رقم 24 لهذه الرواية في السينما على أسلوب إخراجي يقدم وجهة نظر “دانتيس”، الشخصية الرئيسية لمفهوم الانتقام، ومواجهة المشاهد لنفسه حول رؤيته الخاصة لها ودفعه للتفكير بها، من هنا برزت الفكرة الأهمّ التي يقوم عليها الفيلم، والتي يجسدها المخرجان على نحو يتيح إيصال هذا الشعور الذي ينهش صاحبه، والذي ترتكز عليه كل خطواته وتتمحور حوله حياته بأكملها، حتى بات وكأنه يستمتع به وينجذب نحوه ليصبح أسوأ ممن أساء ودبر المكيدة له.

“مرسيدس”

بعد بدايات مشرقة، واستعداد لحياة سعيدة انعكست في أسلوب التصوير والإضاءة التي زهت بألوان الطبيعة، تحوّل الفيلم ليغدو مشحونا بالغضب والتوتر أكثر فأكثر، وكانت الإضاءة مهمة للتعبير عن هذه الأجواء الخانقة التي يعيشها المنتقمون، باستثناء فترة السجن التي مرت بشيء من البطء لضرورة إبداء معنى ضياع الزمن في مكان كجحر الحيوان، اعتمد الفيلم وتيرة محمومة لتتناسب مع وفرة الأحداث في فيلم قاتم المحتوى.

ومع تطور السرد من إعداد خطط الانتقام، ومواجهة بين الضحايا والجناة، تطرأ أسئلة عديدة يجد المشاهد نفسه في خضمها؛ ما موقفنا الشخصي في مواجهة إنسان أساء إلينا أو آلمنا أو سبب لنا خسارة فادحة؟ هل من الممكن العفو عنه؟ وهل تفرض ظروف القرب بين الطرفين، مجالا لإعادة النظر وحيزا لعواطف قد تنمو بالرغم من فكرة الانتقام نفسها؟

أسئلة مهمة يثيرها الفيلم من خلال خطة بطله المحكمة وتصميمه عليها، فالانتقام لن يكون فقط وبالا على المنتقَم منه فقط، بل على المنتقِم أيضا.

استعدادا للانتقام، يحضر “دو مونت كريستو” قناعه ومكياجه

أسئلة مصيرية؛ فالعفو قد لا يعني النسيان أو إعطاء العذر لهذا الذي سبب الجرح وأهان وأذلّ وشوّه السمعة، وهذه العلاقة مع فكرة الانتقام، وارتباطها بالحب تبدو معقدة، ولقد أبرزها السرد جيّدا في تركيزه على الكراهية وما تسبِّب من معاناة، وفي تركيزه على الحب وما قد يفرضه من مراجعة للذات والمواقف، سواء في تخفيف حدة الانتقام أو في استخدامه كذريعة له.

فها هي “مرسيدس” التي تزوجها أحد المتآمرين تُستخدم وسيلة لكسر حلقة الانتقام المفرغة، من خلال توسلها إلى الكونت الذي تعرفت عليه، من أجل إنقاذ ابنها من انتقامه، كما تجسد “هايدي” التي ترتبط بالكونت وتتبعه في منفاه في المشرق، الولاء والعدالة، وتذكّر الكونت بأهمية الرحمة والمحبة بعد أن تنقلب مواقفها.

“هايدي” التي ترتبط بالكونت وتتبعه في منفاه في المشرق

طوال المرحلة الثانية في الفيلم، و”دو مونت كريستو”، ينتقم ويدفع بالخصم نحو الجحيم فهل نال سعادته؟ فمع كلّ هذا البغض والأذى يحثّ الفيلم أبطاله، ومشاهده كذلك، على التفكير بثقل الحقد وكونه سمّا ينهش صاحبه، وبالتالي لا يبقى إلا شعور واحد هو ضرورة التخلص من ثقله لنيل شيء من الارتياح النفسي، وإيجاد سلام داخلي يحرر الفرد من هذه المشاعر المسيئة -هذا ما يقوله علم النفس أيضا.

مغامرة وإثارة وقصة حب

فيلم “الكونت دو مونت كريستو” هو مزيج من أنواع سينمائية من مغامرة وإثارة، وقصة حب، ومأساة ​​إنسانية وسياسية، وتفاعل هذه الأنواع يعطي نفسا ساخرا أحيانا، ومخيفا في أحيان أخرى؛ لما بمقدور إنسان مظلوم على فعله.

وجسّد الممثل “بيير نيني” هذه الشخصية على أفضل صورة؛ فقد نجح في رسم الشخصية وكأنها خارجة من الأساطير، كما أرادها الروائي “ألكسندر دوما”، وعمل المخرجان على استعادتها من خلال الحفاظ على هذا الجانب فيها، وقد قررا طرح كل القضايا في جزء واحد، مع أن الرواية جزءان، فمثلا لم يفضّلا التوقف عند خروج “إدمون” من السجن، والمتابعة في جزء آخر من مرحلة مختلفة بشخصيات هرمت، وأحداث تتطلب ايقاعا أكثر حركة، كما فعلا في فيلمهما السابق “الفرسان الثلاثة” (2023) ، ولكنهما رغبا في أن تحدث القصة بأكملها في نفس الفترة الزمنية، وهكذا فإن التوتر المتراكم في الجزء الأول من الفيلم، بانت نتيجته في نفس العمل وهذا أفضل.

لوحة الأدوات التي استعملها “دو مونت كريستو” في سبيل التخفي

ولعب الماكياج أيضا دورا مهمّا ومذهلا أغنى المخرجين عن الاستعانة بممثل آخر للمرحلة الثانية التي تتطلب عدم تعرف المتآمرين على “إدمون” في شخصيته الجديدة، فاختفى خلف أقنعة مذهلة للغاية، تطلبت ما لا يقل عن أربع ساعات من الماكياج كل مرة، مع أنه من الأسهل إحضار ممثل شبيه، ولا سيما أن “إدمون” خرج من السجن محطما هرما رغم شبابه بسبب معاناته الشديدة، ولكنِ المخرجان قررا المحافظة عليه؛ لتكون الشخصية قابلة للتصديق بحيث إنّ شخصا لم تره منذ عشرين عاما يعود دون أن تتعرف عليه، وكان عناصر الديكور والأزياء والماكياج -وهي غالبا ما تكون الحلقة الأضعف في الإنتاجات الفرنسية الكبيرة- من العوامل التي أضفت على الفيلم نجاحا مؤكدا كما فعلت مواقع التصوير المذهلة.

يعتبر الفيلم من الإنتاجات الفرنسية الضخمة فقد كلّف 43 مليون يورو، وقد نجح في أن يكون “طموحا ومتواضعا، وشعبيّا، ومصنوعا بشكل جيد”، كما وصفته الصحافة الفرنسية.


إعلان