“بانزو”.. الموت وثيقة احتجاج ضد الاستعمار
مع بدايات القرن العشرين، فقدت الإمبراطورية البرتغالية في أفريقيا قدرا لا يستهان به من قوتها، فقد تصاعد منسوب الوفيات بين أعداد السكان الأصليين، دون سبب واضح أو علة يسهل الإمساك بأعراضها، وهنا تم الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن ما يجري، فقد شخصت تلك الظواهر المرضية تحت عنوان “حنين العبيد”.
من هذه النقطة البعيدة، تنسج المخرجة البرتغالية المرموقة “مارغريتا كورسادوا” (Margarida Cardoso) خيوط فيلمها الأحدث، (Banzo) “بانزو”، إنتاج عام 2024، وهو من أفلام الإنتاج المشترك، بين كل من هولندا والبرتغال وفرنسا، والذي جاء عرضه العالمي خلال المسابقة الرسمية للدورة 58 من مهرجان “كارلوفي فاري”، حيث تستكمل المخرجة ما دأبت عليه في العديد من أفلامها، الوثائقي منها أو الروائي، في الاشتباك المباشر مع القضايا ذات الإرث التاريخي المعقد والإشكالي، ولا فكرة أعمق تأثيرا من الماضي الاستعماري للبرتغال، لتصبح هي المادة الخام لهوية الفيلم الفكرية.
بعد وصول الطبيب “أفونسو بايفا” (الممثل كارلوتو كوتا) “Carloto Cotta” إلى السواحل الأفريقية، والواقعة تحت سيطرة القوى البرتغالية آنذاك، يشرع على الفور في فحص الحالات المستعصي علاجها، لكنه يصطدم على نحو مفاجئ، بما يعوق معه استكمال مهامه الطبية، لتسقط روحه بين براثن فجوة عميقة، قوامها الصراع بين القبول بما يحدث حوله، والتسليم به كأنه أمر واقع، أو العمل في الاتجاه المضاد، نحو تفعيل منظومة الدفاع عن الحرية الشخصية المنتهكة قواعدها.
هكذا تدور أحداث الفيلم، الذي اختار أن يدثر مضمونه الفكري الشائك، بحكاية قد تبدو اعتيادية المحتوى، لكنها تملك بين طياتها ما يكفي ويفيض من القراءات المتباينة، لا عن المسكوت عنه في التاريخ الاستعماري فحسب، بل ما ينطلق نحو ما هو أعمق، إلى رصد تداعيات تلك التأثيرات والتفاعلات على الذات، بما يصبغ تكوينها بتشوهات وبثور، لا يبدو الزمن وحده كفيلا بمداواة ثقوبها.
عوالم متوازية لكنها غير متكافئة
تنفتح الشاشة على لقطة متسعة للبحر الملاصق لحدود الجزيرة، يعقبها لقطة أخرى مطولة لرجل أفريقي يسقط فجأة، بينما هو يحدق بثبات نحو الجبل المترامي الأطراف في البعد، فقد حل الموت بغتة، بهذا التتابع الغامض يبدأ الفيلم مشاهده، والذي ستتفكك شيفراته تدريجيّا مع توغلنا المنتظر في السرد.
اعتمد السيناريو على أن يدخل المتفرج مباشرة في صلب موضوعه، دون أدنى تمهيد أو تقديم، فما سيدور أمامنا على الشاشة، سيساهم في إرساء قواعد البيئة العامة للأحداث، والتي تمثل ضمنيّا عقد التزام بين طرفي المعادلة المرئية، صانع العمل الذي يضمن تدفق حكاية جذابة الشكل، قيمة المضمون، مقابل لجوء المتلقي إلى تقنيات العقل والبصيرة، للوصول إلى تأويل دلالات ما يدور من أحداث.
ومع ذلك لا يبدو السرد في حاجة إلى بناء حداثي لبثّ مضمون أفكاره، فقد جنح الهيكل العام إلى التقليدية، حيث الاتكاء على الفصول الدرامية الثلاثة، البداية والوسط والنهاية، في تقديم وقائع حكايته، مع الاتفاق على وحدة الزمان والمكان، فنحن في العام 1907، نرافق بطلنا الطبيب “أفونسو” القادم حديثا إلى جزيرة “بوا أسبيرانكا”، بحثا عن علاج فعال لحالات الموت، المتفشي رائحته بين صفوف سكان المستعمرة، ومن هنا تنشأ حبكة الفيلم، التي تتبلور شيئا فشيئا.
فقد خلق السيناريو أحداثا تدور بين رحى عالمين، أحدهما بالغ الوضوح والجلاء، في حين يقبع الآخر متواريا خلف الظلال، فالعالم الأول الذي يحوي بين أضلاعه طبقة المستعمرين والنبلاء، يبدو مسيطرا بأريحية على مفاصل السرد، فالرقعة الزمنية للفيلم، والتي يبلغ إطارها نحو الساعتين أو ما يزيد قليلا، يحتل هؤلاء منها النسبة الأكبر، سواء عبر استعراض نمط حيواتهم رتيب الإيقاع، أو مع متابعة عالم الطبيب، الذي يرغب في مساعدة أهل العالم المقابل.
هذا العالم الآخر، الذي لا يتضمن سوى الأصناف المتباينة من السكان الأصليين للقارة الأفريقية، يشمل مجموعات العبيد التي دأبت البرتغال على جلبهم من ديارهم، وقد جرى تراكم أعدادهم بمرور الوقت، إلا أنه على الرغم من سطوتهم العددية، لا تعمد الكاميرا إلى اقتناص ما يجب من حيواتهم، ومع ذلك فإن جرعة الإحساس بهم تطغى على ما عداها، وبين هذا العالم وذاك، يبدو البطل محاصرا في هذا الحيز المكاني، فالواقع أن أحقية وجوده تنبع أهميتها بوجود هؤلاء، فكل منهما مقترن مصيره بالآخر، وفق دائرة محكمة السياق.
الموت بسبب “البانزو”
مع وصول الطبيب إلى محل إقامته، يبدأ على الفور في متابعة ملفات المرضى؛ سعيا منه نحو فهم كوامن هذه الحالة الغرائبية، التي تدفع عددا لا حصر له منهم لإبرام عقد شراكة دائمة مع الموت، فما على المريض منهم سوى ممارسة الزهد اللاإرادي للطعام، أو معانقة أمواج المحيط، ومن يمتلك شجاعة أكبر، يقدم على حصار عنقه بحبل غليظ الملمس، مسلما جسده كأرجوحة بين جذوع الأشجار، فيا ترى ما الذي يدفع هؤلاء حقّا إلى هذا المصير؟
لا يوافينا السيناريو مباشرة بالجواب، بل يعمد إلى إلحاق البطل في دروب وعرة من البحث والتحليل، سعيا للفهم والإدراك، فالملاحظة العضوية للمرضى، لا تشي بأي معرفة يقينية، وهنا يفاجأ الطبيب، بأن الأصل يكمن في الداخل، فسبب كل ما سبق ذكره من أعراض، لا يخرج عن الحنين إلى الوطن، أو “بانزو” طبقا لمرجعية الاصطلاح الطبي، والمكتشف قديما في البرازيل، مع بدء موجات جلب العبيد في القرون الوسطى، والذي يعاد تدويره في فيلمنا على نحو أكثر دقة، إلى التوق للحرية.
فالحنين إلى الوطن يبدو معادلا موضوعيّا للحرية، كلّ منهما في عِداد المفقودين، فلا فرق بين أحد منهما، وحتى يكتمل رسم البيئة العامة للسرد، فقد بدت الطبيعة الجغرافية والشكلية للحيز المكاني أقرب إلى السجن، بالذات من ناحية جغرافية المكان الذي يحيط به الغابات والمحيط، ولا يطأ سواحله أدنى شبح لسفينة عابرة إلا مع حلول بداية كل شهر، وكذلك يداوم الحراس على الاعتناء بحدوده.
ولا تقف حدود نسج هوية المكان على ما سبق ذكره، لكن يتم تطعيمه بدلالات أكثر اتساعا، حيث تصحبنا الكاميرا في جولات خاطفة لأروقة البناية الرئيسية، والتي يستعير المستعمرون فيها الطوابق العلوية، بينما يهبط العبيد والعاملون إلى القبو بقبول تام، هذا من ناحية الهيئة الشكلية للمكان، والذي يسهم دراميّا في التعبير عن الفكرة العامة.
أما الجانب الآخر والمعني بتصميم الأحداث، فالمسؤول فعليّا عن تحريكها ودفعها نحو الأمام هي طبقة المستعمرين الأثرياء، ويطالعنا فيها على استحياء حضور العبيد الهامشي، وتتجلى فلسفة المكان في نسق معاملة هذه الطبقة لتلك، فالسوط هو لغة التخاطب الفعلية بينهم، لا حدود مفهومة للتواصل غير هذه الأداة، ومن ثم يمكن القول بأن مضمون الفيلم لا يبدو مهموما برصد تبعات الماضي فحسب، ولكن بالإشارة المبطنة إلى الزمن الحاضر كذلك، فكل من هذا الزمن وذاك مرتبط كل منهما بالآخر، وفق سياقات أكثر تعقيدا.
عبودية.. لكن في طبقة أخرى
رغبة في حل إشكالية هذا المرض العضال، يلجأ الطبيب إلى الوسائل السلمية، ألا وهي عودة هؤلاء العبيد إلى مواطنهم الأصلية، فيرسل إلى الإدارة الخطاب تلو الآخر، والتي بدورها تتجاهل الرد، فما يطلب لا قدرة لأحد عليه، وهنا يبدو الجميع سواسية أمام هذه السلطة اللامرئية، بينما يخضع المواطنون بدرجاتهم المتفاوتة إلى قوانينها الصارمة.
يحيلنا هذا بطبيعة الحال إلى بيان أنماط تلك الشخصيات، التي تنقسم فعليّا إلى شقين لا ثالث لهما، أحدهما فاعل، ويقع في هذه الدائرة المستعمرون أصحاب البشرة البيضاء، ويقبع على الناحية الأخرى العبيد المفعول بهم، وهنا يصبح السؤال عن الموضع المناسب للطبيب في هذه المعادلة واجبا لا بدّ منه.
تطلعنا الكاميرا على الإجابة الراسخة، حيث نرى بطلنا يشاهد من نافذة غرفته حراس المستعمرة أثناء تعذيبهم للسكان الأصليين، عندئذ تنقسم صفحة الشاشة إلى نصفين، أحدهما يكشف بزاوية مقربة تعبيرات وجه الطبيب، بينما الشق الآخر يعرض في انعكاس زجاج النافذة مشاهد التعذيب المشوشة معالمها، فكل منهما ينعكس على الآخر ويمثل امتدادا له، السكان الأصليون وحياتهم المكبلة بأصفاد العبودية، لا يختلفون كثيرا عن “أفونسو” الذي لا يملك قدرة حقيقية على تبديل سلطان ما يرى، سوى ممارسة الاعتراض الداخلي، الذي يتحين الفرصة المواتية والمناسبة نحو الانطلاق إلى واقع التنفيذ الفعلي.
ومن أجل تقديم صورة بانورامية واقعية التأثير لما حدث، لا يبخل السيناريو بما يستحق من سرديات تدعم هذا الاتجاه، الذي يعني ضمنيّا الكشف عن الماضي دون أدنى مواربة، إذ تتناثر المشاهد التي تزيح اللثام عن نمط التعايش بين المستعمرين، وما يقابلهم من السكان الأصليين، والتي تدور جميعها في فلك النظرة الاستعلائيّة، بل وتبطن بداخلها قراءات أكثر عمقا عن إشكاليات العلاقة مع الآخر.
مثلما نرى؛ الحراس أثناء تكميم أفواه العبيد بكلابات حديديّة خشية تناولهم الحشائش الأرضية، بينما يقف الحراس أمامهم بلا أقنعة تخفي ملامح وجوههم البيضاء، ولا تكتفي الكاميرا بهذا، لكنها تواصل استعراضها للعديد من الوقائع، فالعبيد المرضى لا وسيلة لإطعامهم، سوى عبر الأنبوب الذي يقتحم أفواههم دون رحمة، فالرغبة في ازدياد معدلات القدرة الإنتاجية لمزارع الكاكاو، لا تسمح بأي تقاعس مرضي، سيؤثر حتما على تعاظم الثروات المتوقعة للاستعمار.
وهنا يلجأ السرد إلى إنشاء شخصية المصور الأفريقي “ألفونسو” (الممثل هوجي فورتونا) ” “Hoji Fortuna، فهو الوحيد من بين هؤلاء العبيد الذي يتمتع بحريته، ويطالعنا على الدوام حاملا معدات كاميراته، التي تقتنص كل ما تقع عليه عيناه من صور تحوي بين تسلسلها أدلة إدانة للاستعمار لا تسقط بالتقادم، بما يكشف عن شجاعة إخراجية، أو بالأحرى رغبة في التحرر من عبء مخجل ثقيل الوطأة، ومن ثم يمكن استنباط شرعية وجود هذه الشخصية، والتي تعادل دراميّا سلطة التاريخ أو الزمن.
العلاج.. العودة إلى الوطن
العبء التاريخي بكل ثِقله انتقل تلقائيّا إلى بطلنا، الذي يبدو محملا بشيء ما لا يدري كنهه، ولا يكشف عنه توالي الأحداث المتدفقة وفق إيقاع متمهل مقصود تماما، بما يناسب الحالة العامة للحياة بين جدران المستعمرة، ومن ثم فالسؤال هنا عن هوية الطبيب يبدو منطقيّا وله ما يبرره.
لا يوافينا السرد للفيلم بإجابة كاملة، لكن ثمة دلالات، يمكن مع قراءتها تأويل ماهية الشخصية وماضيها، والأهم رمزية وجودها في السياق الدرامي، فالطبيب المرسل على وجه السرعة إلى الجزيرة، لا يقوم على علاج المرضى بمهنية وإنسانية فقط، لكنه يقدم على إرسال هؤلاء عبر القارب إلى مواطنهم الأصلية، دون أن يكترث بقرارات الإدارة وقوانينها، وكأننا أمام صورة رمزية لمسيح عصر جديد، مرسل لإرساء قبسات من نور العدالة الإلهية.
ولأن لكل مسيح عقباته ومعضلات وجوده، فالصراع الدرامي يمكن حصره بين قوسي الحرية والعبودية، وحينها سيتضح ما غلق من أفعال، ليبدو الموت المفاجئ للعبيد ما هو إلا وثيقة احتجاج سلمية ضد الواقع، الذي تضافرت العناصر الفنية والإخراجية في خلق أجواءه.
أما الموسيقى التصويرية المليئة بالغموض، والمتناغمة مع شريط الصورة العريضة القوام (سكوب)، فتسعى إلى الولوج على نحو أكثر شفافية لواقعية الفيلم، والمطعم صورتها بالألوان الخافتة، المعبرة لا عن سياق الزمن الماضي فحسب، لكن عما يدور كذلك في ذات البطل، لتبدو العلاقة الحساسة بين مضمون الفيلم الشائك، والشكل العام متناسقة الهيئة، ممشوقة السياق، وتكشف بين طياتها، عن فيلم مثير سينمائيّا، يدفع مشاهده إلى البحث والتأمل، وهذه سمة الأفلام الكبرى.
وفي هذا الإطار تقول مخرجة الفيلم عن الاستعمار “أردت أن أغلف الفيلم بمظهر معاصر، لأن العبودية لم تندثر، هذه الحقيقة يجب أن نستكشفها ولا ننساها”، وبدورنا نستكمل المتبقي من الحوار، ومن يعيد للمهدور حقه؟