رنين.. حين يتجسد الخوف فتغرق السفينة ببطء
يحظى الخوف بعلاقة مركزية وواسعة مع البشر على امتداد التاريخ، وبوازع تجاه الخوف من الأشياء غير المرئية، خلقت الأساطير بحثا عن شعور كوني بالأمان. عادة ما يكون الخوف آمن حينما يؤطر خارجا عن حدود حياتنا، ويأتي من حيز آخر وعالم آخر، وتحظى تمثيلاته باستثناءات متجاوزة لمحدودية واقع البشر، وعلى هذا الأساس تكون جانب رائج من أفلام الرعب في السينما.
بالعودة إلى إحدى نقاط بدء السينما، نرى الفزع من الآخر عالم الشاشة عند الجمهور في فيلم “وصول القطار إلى محطة لاسوت- 1895″، فزع الجمهور من اقتحام القطار حدود شاشة العرض، وتخوفوا من أن يخرج منها ويصطدم بهم.
تمثل هذه التفصيلة علاقة إشكالية بين المتفرج والفيلم، بخاصة حينما يكون التطلع المحفوف بالقلق هو ما يربطهما، لأن السينما في أحد أشكالها قطعة مجازية تحرف الزمن، والمشاهد مهما اشتبك مع حكاية الفيلم، أو تورط فيها، يظل هناك فضاء من الفراغ بينه وبين زمن الفيلم.
في الاتجاه المعاكس لاستهلاك اللغة السينمائية الرائجة في تقديم أفلام الرعب، يتحرك المخرج الياباني “كيوشي كوروساوا” وفي خلفية حياته زخم من الخبرات، وتأثيرات الظرف الاجتماعي، حيث ولد منتصف الخمسينات، ونشأ مع جيل عاصر انهيار الحركات السياسية والطلابية في اليابان، هذه المرحلة يراها “كيوشي” بأنها خلفت “هوية غير مؤكدة”، لذلك ارتكز في إثقال خبرته السينمائية على السينما الأمريكية في السبعينيات، ثم انتقل إلى إخراج أفلام بميزانية منخفضة، ساعده إتمامها على تكوين دراية واسعة بالتعامل مع تحديات الإنتاج، ليتمثل مخاض هذه التجربة في فيلم “دواء” (cure) في 1997، والذي أكسبه اهتماما عالميا، وشكل قطبا من نمط عمله السينمائي.
وفي فبراير/شباط 2024، وضمن فعاليات مهرجان برلين السينمائي، عرض أحدث أفلام كيوشي وهو فيلم “كايم” (Chime) مادة بصرية تلتزم بنمطه السينمائي المعتاد، المفعم بالقلق والريبة ووهمية الحياة العادية التي تحفظ تماسكا قشريا من الخارج، بينما داخلها يشهد نزاع ضخم وتداع مهلك، أكبر من قدرة هذه الحيوات العادية على التحمل أو التجاوز.
رغم التزامه تجاه النوع السينمائي، الذي يقتبس من أفلام الرعب ملمح الخوف فقط ويعيد توظيفه في صورة أكثر نضجا وفاعلية وامتدادا. يجيد “كيوشي” تجاوز ذاته، سواء في نوعية الأفلام أو مدتها، قناعة منه بأنه ليس هناك زمن قياسي للفيلم، ولذلك عرض “رنين” بمدة 44 دقيقة، يمكن تسميته فيلما متوسط الطول، لكنه يحمل بعدا كثيفا ودقة في عكسِ التطورات الخفية والحادة تشهدها الشخصيات تشير إلى عامل جديد وداخلي في الزمن الفيلمي، منوط بالحكاية وسابقا على زمن الواقع.
القاتل داخل السياق
ترتكز أفلام الرعب الرائجة، رغم اختلافها، على مشترك أساسي؛ أن تضفي على الشخصية الممثلة لمصدر الخوف كلية أسطورية أو ملمحا منها، فالقاتل أو المخيف حينما يكون وحشا، عادة ما يقتل البشر، ويهدد حياتهم وأمانهم، بينما القاتل البشري، ينتمي إلى عالم المتخيل أكثر من عالم الواقع، وغالبا ما تأتي دوافعه عبر ماض استثنائي ومتطرف.
هذه الكيفية تدفع الخوف بعيدا عن عالم البشر، لأنه آت من أساس غير واقعي، وبالتالي متحقق فقط في مجاز الزمن الفيلمي، وهنا يصبح الخيال قائما على خوف يدفعنا، كمشاهدين، ناحية التطهر، والتشويش على مخاوفنا الواقعية، والتي لا تبتعد كثيرا عن هذا الخوف المؤطر.
يصيغ “بيتر بيشلين” هذه الحالة في مقدمة كتابه “الفيلم كسلعة”، عبر ربط حرمان الناس في الواقع وتوظيف الخيال في تعويض ذلك، باعتباره وسيلة لإشباع الرغبات، عبر الإيهام البليغ الذي تنتجه الصورة السينمائية، والقادر على خلق واقع بديل، يبدأ الخوف فيه وينتهي بعيدا عنا، و نكون في الحكاية ضحايا تهديد خارجي، لعالم البشر المستقر والآمن.
يستند فيلم “رنين” على الخوف نفسه، الشائع والذي يسهل تقديمه للمشاهد، لكنه خوف لا يستقر بالخارج بقدر ما يحوم بسخرية وهدوء، وفجأة، يستقر بداخلنا. نرى هذه الحالة في مسار “أكوجي” (موتسو يوشيوكا)، مدرس طبخ يعيش انفصالا غامضا، في حياة شخصية تتداعى رغما عنه وعن افتعاله الهدوء والثبات.
يبدأ تسلسل التداعي من طالب ضمن فريق “أكوجي”، يخبره بسمع ضجيج غامض أشبه بالرنين، ويستمر الطالب في حضوره الغريب، حتى يخبر معلمه أنه يحمل نصف مخ آلي، ثم يطعن نفسه في رقبته. خلال موت الطالب، تظهر دواخل “أكوجي”، على السطح، ويترجم حضوره الموحي بالبعد والانفصال عن العالم إلى اشتباك جحيمي معه ينتج نسيجا غريبا وسريع التداعي للواقع، الذي يشير إلى حيرة في فهم أي طرف يتفكك، هل حياة “أكوجي”، أم العالم من حوله؟
لا يتمثل خوف “أكوجي”، في “رنين” من طالب غريب في مكان العمل بسبب بعد عالميهما أو لأنه يخشى أن يلوث مناخ عمله الطبيعي، بل يأتي الفزع الكبير من وجود مشترك بين الغرابة في ظاهرها الدخيل، وبين شيء ما داخل “أكوجي”، يفشل في مقاومته بافتعال الهدوء، لذلك يسارع بقتل طالبة أخرى تحمل أسئلة وغرابة قريبة من الآخر الذي قتل نفسه، لكن “أكوجي” يفاجئ بعد ذلك، بأنه دخل قلب عالم دفعه للقتل ولم تعد هناك فرصة للخلاص.
منذ بداية الفيلم يظهر المعلم بشخصية عادية، لديه زوجة وابن ووظيفة مستقرة وفرصة للارتقاء المهني طاهيا في مطعم شهير، ومع تفحش الرغبة في القتل بداخله، يظل شكل الحياة ذاته قائما من الخارج. ولا يأتي “أكوجي” من خارج السياق، ولا يحمل نموذج لأسطورة، أو أي استثناء عن كونه فردا عاديا، نسخة من كثير بلا صخب ولا تاريخ شخصي به أحداث مختلفة، أي بشكل ما ينتمي إلى العالم العادي المنوط بالمشاهدة، أكثر من عالمه المجازي.
يقدم “كيوشي” أساس شخصيته عمدا من قلب العادي، ليبدو فعل التهديد داخلي، ومحتمل أن يكون هناك الكثيرون، بذات الهموم والمخاوف والهواجس، مع الاعتماد على فضاء زمني لا يحمل إشارة بالخطورة إلى موت جديد، أو تقديم تشويقي لعمل إجرامي، ليست هناك نزعات انتقامية جاهزة، لذلك يتحرك الزمن السينمائي بهدوء وثبات صوري يجعله بالشراكة مع المكان الذي يحمل نفس الهدوء، ينتميان إلى مساحة من التواطؤ.
يأتي الخوف في “رنين” من شيء إنساني مجرد، مبطن بالتشويش والرغبة البشرية في الحفاظ على الأشياء، بظاهر متسق حتى وإن كان وهميا، ولذلك يكون تشريح هذا التجريد شديد الصعوبة، لأنه ينتهى عند حالة من عدم الفِهم، لكن “كيوشي” يستعين، مثلما يقول، بـ”خلق هذا الخوف العميق لدى الجمهور” لأنه دافع لتخيل شيء لا يمكن رؤيته أو فهمه.
ينغمس مسار الشخصيات في “رنين” داخل اللحظة الراهنة، حيث الماضي موجودا في صدى الحاضر، لكن بياناته مجهولة وغير قابلة للكشف، وحينما تكشف يكون ذلك خِلسة، ونقطة التحول تأتي من داخل الشكل الاجتماعي المسالم.
“دواء”.. من خارج سياق النظام الاجتماعي
في فيلم “دواء” تفصيلة مختلفة، رغم أن الفيلمين لهما نفس الهوية البصرية والحكائية، لكن الطرف الذي يقلب الأمور في “دواء”، يأتي من خارج سياق النظام الاجتماعي، إذ أنه بلا ذاكرة، ولديه حضور شبحي، لكنه قادرٌ على المحاورة، ويمتلك قدرة استثنائية في تنويم ضحاياه ودفعهم إلى القتل، عبر نقاشات عادة ما تبدأ بسؤال بسيط ومباشر: من أنت؟
لا ينشغل “دواء” بملاحقة “ماميا” الذي ظهر على الشاطئ فجأة، ونتج عن حديثه مع الناس سلسلة من الجرائم، لا يعرف أصحابها سببا للقتل، ولا يملك أي منهم في ذاكرته شيئا واعيا عن وقت الحادثة. ويأتي التركيز على المحقق “تاباكي” (الممثل الكبير كوجي ياكوشو) وما يعكسه هدوء “ماميا” على إحداث تصدع حاد في حياته، يجعله مهووسا بفقدِ زوجته، ويكشف له جانبا من عطب ما ينتشر داخله ويجهز على حياته العائلية والمهنية دون أن يدري.
الصوت يكمّل الصورة
يبدأ فيلم “رنين” بلقطة واسعة، حيث يقف المتدربون خلالها بصحبة المعلم في المطبخ، ويتحرك الجميع ديناميكيا، بعيدا عن أي إيحاء بقلق منتظر، لكن الصوت الداخلي الناتج عن حركة الأشخاص، والخارجي الآتي من حركة القطار، يحوّلا الزمن العادي إلى آخر منطوٍ على إزعاج مجهل وقلق مجرد من التعريف أو السببية.
يزع “كيوشي” إلى لغة سينمائية تعتبر الصورة “ضعيفة وفقيرة”، بينما الصوت -العنصر الأصيل المتراجع في تراتبية أدوات اللغة السينمائية- يحمل ألقا وسعة يمكنهما دفع الحكاية إلى حيز أكثر ثراء.
ويحظى الصوت في فيلم “رنين” بحضور أكبر من بقية أفلام “كيوشي”، ويكمل بالتتابع أساس الارتكاز السينمائي على شريط الصوت في فيلم “دواء” الذي اعتمد على تكوين انطباعات وتوصيفات بصرية تجاور الصوت بنفس درجة الأهمية، مع الحفاظ على توطين أصوات شائعة، لها باع كبير في الوعي البشري ويمكن فهم مدلولاته بسهولة، مثل صوت البحر والمطر.
في “رنين” الصوت سابق على الصورة، في الأهمية والتجاوب مع المحيط الشخصي والمكاني، ويوظف “كيوشي” بذكاء ملفت شريط الصوت المزعج والقِلق، رفقة إطارات صورية متوسطة وثابتة، للتعبير عن العطب العاطفي والاجتماعي الذي يتضح شيئا فشيئا خلال جلسات عائلة “أكوجي” على المائدة.
في الفيلم للخوف صوت، و للفزع صوت، لكن الغضب كتيم وصامت ينتج عنه نادرا صراخ شديد، وكل هذه الأصوات لها قدرة على التعبير، ليس كعامل مساعد، بل كلغة بشرية تطفح عنوة من فمِ “أكوجي” وتعكس مدى الانفصال الحاد الذي يعايشه داخليا، وفي علاقته مع العالم.
يعتمد “كيوشي” على لغة سينمائية أساسها الصوت، حيث الصورة لا تحمل سوى كمية منخفضة من المعلومات، وكذلك قدرا ضئيلا من الثقة، بينما الصوت قادر على تجاوز جارته في القدرة على التعبير.
وعلى الرغم من غرابة قناعة “كيوشي” تجاه الصوت والصورة، وما تحمله الأخيرة في تاريخ السينما من حمولة جمالية وحضور مركزي، يمكن فِهم أسبقية الصوت عبر الخروج من السينما دون الانفصال تماما عنها، لأنها جزء تاريخي من تطور قابلية البشر على الحكي، التي ارتكزت في البدء على حمولة جمالية ودلالية، كانت من نصيب الصوت، والصورة طوعت كجزء منه. الحكاية انطلقت من الصوت، والفضاء بينها وبين السامع، شغل بالتخيل البصري.
ربما خلال استنطاق هذا الشكل شديد الأولية من الحكي، أجاد “كيوشي” أن يحكي بصوتي الطبيعة والبشر، مادة سينمائية فريدة، الصوت فيها، مزعج ومألوف، يحيل إلى شيء ما داخل الشخصيات، ويبدو أن القدرة على فهمه ممكنة.
سوناتا طوكيو.. حكاية واحدة بأصوات مختلفة
يحكي فيلم “طوكيو سوناتا” (Tokyo Sonata) عن موظف ياباني، في منتصف العمر، يفصل من عمله الإداري بإحدى الشركات الكبرى، لا يجد بديلا سوى أعمال مؤقتة ومتواضعة، وخلال حالة التهديد المادي تتفكك كل روابط العائلة. يقدم الفيلم بلغة واقعية رصينة، صورتها تحتفظ بنفس نمط الصورة في أفلام “كيوشي”، لكن الصوت متراجع تماما، والتداعي الحر لدى الشخصيات يحدث في إطار محدد مكانيا وله مدلول واقعي واضح.
رغم الاختلاف النوعي بين الأفلام الثلاثة “دواء، سوناتا طوكيو، رنين”، هناك مشترك مركزي يجمع الحكايات، وهو وجود وقت ما تكون الحياة فيه خارجه عن السيطرة، ويكون الفرد –رغم التعاطف الحقيقي- أحد أدوات تعزيز هذا الخروج.
يمكن في هذا السياق أن تنتقل أفلام “كيوشي” من عدة مساهمات سينمائية ناجحة، إلى مشروع نوعي به إدراك جيد للنوع السينمائي وكيفية توظيفه دون استهلاك، إضافة إلى رؤية سينمائية مختلفة، صدى جودتها تكمله الأفلام بالتتابع عبر ملمح واحد لحكاية واحدة، تقدم باختلاف طازج.
ونرى تشابهات لا تستهل التكرار في أفلام “كيوشي”، تدخل في إطار تكوين وثيقة اجتماعية عن الحياة المعاصرة العليلة بالتفكك. يسكن شيطان التفاصيل في النظام الاجتماعي والمكانة التي تقع فيهما الشخصيات، ففي فيلم “دواء” تتداعى حياة المحقق “تاباكي” حينما تسقط قيمة وظيفته وقدرته على كشفِ الحقيقة، مثلما تتداعى شخصيات مجتمعية نموذجية (طبيب، ضابط شرطة، مدرس) أمام الهدوء وحكمة القتلة التي يتمتع بهما “ماميا”، بينما فيلم “رنين” يبشر بوحش مهووس بذاته، يجاور هوس القتل بداخله وهاجس التحقق والعمل في مطعم شهير. يأتي “سوناتا طوكيو” ليؤطر نفس حالة التداعي في حكاية أكثر قابلية للتعريف، عبر السقوط الفردي والعائلي الحاد لدى “ريوهي ساساكي” (تيرويوكي كاجاو) حال أن يفقد وظيفته.
وتنحبس شخصيات أفلام “كيوشي” داخل زنانين منفصلة، بنفس الكيفية، ويبدؤون في السقوط مع الانغماس في الهواجس الخاصة، وفي تركيز محموم على سلطة الزمن المعاصر علينا، لذلك تفتقد الشخصيات المؤثرة في الأفلام إلى ذاكرة فعلية، أو تاريخ شخصي، ومكانهما يحل اغتراب كلي عن العلاقة بالآخر غير المادي وغير الآني، وفقد طوعي إلى طابع الأنسنة، كأنها لم تعد تحتاجه، لكن للمفارقة، تعكس نفس الشخصيات صورة تشريحية للفرد المعاصر، وما يحمله من مخاوف ذاتية وعامة، تبدو مثل قنبلة مؤقتة.