“باربي السوداء”.. نضال ضد الدمية البيضاء التي دمرت طفولة السود
ليست “باربي” دمية يتلهى بها الأطفال فتؤنسهم فحسب، ففي تاريخها الطويل وفي تحولات تصميماتها واختلاف أسواقها شيء كثير من خصائص مجتمعها، واستدعاء هذا التاريخ يشرح لنا المجتمع الأمريكي على نحو أفضل، فهذه الدمية الشهيرة عالميا من ابتكار “روث هاندلر” وزوجها “إليوت”، وهما مؤسسا شركة “ماتيل” (Mattel) لصناعة الألعاب، وقد استوحتها سنة 1959 من دمية ألمانية.
حول تاريخ هذه الدمية وما صاحبها من نضال لإثبات حقوق السود، أعدت المخرجة “لاجيريا ديفيس” فيلمها الوثائقي “باربي السوداء” (Black Barbie) عام 2023، وتستعرض فيه آلام الطفولة عند السود، وهم يرون الدونية التي تفرضها عليهم هذه الدمية ذات المعايير النمطية البيضاء.
“باربي”.. الابتكار الذي غيّر استعمال الدمى
من السمات المميزة لدمية “باربي” -في صيغها المختلفة- بياضها الناصع، وشعرها الطويل النّاعم، وعيناها الملونتان الزرقاوان أساسا، وجسدها النحيف، وصدرها الفخم، وخصرها النحيل، ورجلاها الطويلتان. إنها باختصار تجسيد للجمال النمطي الذي فرضته الذّائقة الغربية.
ولكن سمتها الأهم التي تجعلها مختلفة عن غيرها هي بروز تفاصيل جسدها، على خلاف الدمى الدائرية التي لا جنس لها، أما هي فتبدو سماتها الأنثوية جلية، وبعد ظهورها لم تعد الفتيات الصغيرات يقتصرن على هز دمية لملاعبتها متقمصات دور الأم، بل هن يجسّدن الآن دور الزوجة وسيدة المجتمع الرّاقي.
لهذه السمات الفارقة، مثّلت “باربي” نجاحا اقتصاديا مذهلا، وأضحت قاطرة مؤسسة اقتصادية ضخمة، فقد باعت النسخة المليار من ابتكارها وهي لم تبلغ الأربعين عاما بعد، ثم وسعت أنشطتها ضمن ما يعرف بإعادة التدوير في الصناعات الثقافية، فنشرت كتبا لليافعين كانت “باربي” بطلتها، وابتكرت ألعابا تثقيفية، واستلهمت شخصيتها في عشرات من الأفلام والسلاسل.
ظهرت “باربي” في الأفلام القصيرة بداية من 1987، ثمّ دخلت عام 2001 أفلام التحريك. فوُظفت ضمن حكايات الجنّيات بكثرة، ثم أنزلت في سياق معاصر لاحقا، فجعلتها هذه المعطيات جميعا تجسيدا للثقافة الأمريكية ولرؤيتها للحياة وللإنسان.
لفافة قماش وحبل لكسر حظر الدمى السوداء
دفع هذا النجاح الكاسح الشابة “لاجيريا ديفيس” إلى العودة إلى هذه الظاهرة، فمن ذاكرة خالتها “بيولا ماي ميتشل” التي كانت من أوائل الموظفين السود في شركة “ماتيل” العملاقة، استلهمت فكرة هذا الفيلم الوثائقي “باربي السوداء” (Black Barbie).
وانطلاقا من محاورتها بشأن علاقتها بالدّمى التي تملأ غرفتها، تأخذنا في سرد عذب إلى تاريخ الولايات المتحدة الملطخ بالتمييز العنصري، والموشح بنضال العِرق الأسود، لنيل حقه في الكرامة والمساواة.
تعود الذّاكرة بـ”ميتشل” إلى النصف الأول من القرن العشرين، حين كانت طفلة تعمل في منزل رجل أبيض من تكساس، وتزاول تعليمها بمدرسة خاصة بأصحاب البشرة السوداء.
لقد حُظرت حينها صناعة الدمى السوداء في الأقاليم الأمريكية التي تهيمن عليها فكرة العبودية، مما دفعها إلى صناعة دماها بنفسها، فكانت تستخدم لفافات من القماش الأسود، ثم تقتطع الحبال لتصنع منها الشعر المجعد.
ولم تدرك إلا لاحقا أنها كانت تبحث -من غير وعي- عن دمية تمثلها وتجد فيها صورة لنفسها، وحين أتيحت صناعة الدمى السوداء في مرحلة لاحقة، كان مصنّعوها يجعلونها قبيحة عن قصد، لتختزل كل القيم الفاسدة في عالم الأطفال السود.
وتدعم هذا الرأي أيضا “ماكسيين ووترز”، وهي عضو في الكونغرس ومهوسة بجمع الدمى السوداء، ففي مرحلة الوعي أصبحت الدمى السوداء شغفا يستبدّ بها، وتحديا وجوديا تبحث من خلاله عن تعويض ما كانت تفتقد إليه في يفاعتها.
إحباط الأطفال السود.. مواجهة أنماط الجمال الأبيض
تمثل “باربي” محفزا يدفع الأطفال نحو الخيال، ويجعلهم يقتحمون عالم الكبار على طريقتهم التي تتسم بكثير من التلقائية والبراءة، فتضطلع بوظيفة تربوية. هذا من حيث الوجه، أما من حيث القفا فتلك هي الزاوية التي تغيب عنّا، ويعمل الفيلم على إبرازها، وتتمثل في كيفية تقبلها من قبل غير البيض.
فقد كانت تحبط الأطفال السود أكثر ممّا تسعدهم، وهي تفرض نمطا محدّدا للجمال، وتقصي ما يختلف عنه، ويرجع هذا الإحباط إلى يقينهم بعدم قدرتهم عند الكبر، على أن يكونوا بذلك التناسق الجسمي، وتلك الملامح والشعر الناعم.
هكذا تخلق فيهم تلك الغبطة -بملاعبة تلك الدمية- مشاكل مع أجسادهم لاحقا، وتعسّر عليهم قبول أنفسهم على الصّورة التي هم عليها. تقول إحداهنّ: أمي كبرت ولم تصبح مثل باربي.
كما يكشف الفيلم في حواراته حالة الاغتراب التي كان يعيشها السود، فأغلبهم لم يكن يفكّر في المسألة بدايةً، فكل ما تتضمنه “باربي” هو من البديهي أو المسلّم به، فالجميل والمثالي هو أبيض بالضرورة.
ولكن حين يتسرّب الوعي تبدأ المشاكل في قبول الذّات، وهذا ما يراه الباحثان “كينيث” و”مايمي كلارك”، فعلى مدار التجربة التي يعرضها الفيلم، يضعان دمى بيضاء وأخرى سوداء على طاولة، وكانت متطابقة تماما، فلا تختلف إلا من جهة اللون.
“أي الدمى تشبهكم؟”
في التجربة التي أجراها الباحثان “كينيث” و”مايمي كلارك”، سألا أطفالا سودا حول أفضلها بطريقة غير مباشرة، نحو: بأي الدميتين تريد أن تلعب؟ أو أي الدمى تريد أن تهدى إليك؟ فكان الأطفال ينسبون ما هو إيجابي إلى الدمى البيضاء، وما هو سلبي إلى الدمى السوداء.
ثم طرحا السؤال التالي: أي الدمى تشبهكم؟ تحفيزا لهم ليدركوا عدم تقديرهم لذواتهم ووقوعهم في حالة من الاستلاب.
وقد ولّد هذا السؤال ردود فعل عدائية وكارهة لهما، وهما يفسرانها ببداية تحرر الأطفال من اغترابهم وإدراكهم للرسالة التي تبعث بها باربي البيضاء لهم ومختزلها أن “لا وجود لكم بيننا”.
من هنا نفهم ما تحدثت عنه أكثر من طفلة مستجوَبة، عن محاولتها تجعيد شعر “باربي” النّاعم، فقد كنّ يحاولن إيجاد موقع مرموق لهن في المجتمع المتخيّل، وهن يتماهين مع “باربي” أخرى غير التي تفرضها آلة الدعاية البيضاء والطبقة المهيمنة.
فتجربة الباحثين تكشف دور الدمى في استبطان الطفل للتقييم الاجتماعي للعرق المهيمن سياسيا واقتصاديا (الرّجل الأبيض المثالي والكامل مقابل الأسود الوضيع)، وتمثل ذاته على أساسه. ولا بدّ أن ننزّل ظهور الدمية في سياقها السياسي والاجتماعي، لنفهم أبعاد الفيلم، فظهور “باربي” ارتبط بأوج الصدام العرقي بين البيض والسود، الذين كانوا يناضلون من أجل فرض حقوقهم.
ندوب الطفولة.. بقايا شعور الدونية وتحقير الذات
نحن نتمثّل العالم وفق الفلسفة الظواهرية انطلاقا من ذواتنا، من أجسادنا ومن تجاربنا في الحياة ومن ثقافتنا الموروثة. والفيلم يدافع عن الفكرة نفسها، فيطرق تمثل سود أمريكا لذواتهم، ولكنه يتناوله من زاوية مختلفة وعميقة في الآن نفسه.
فيبرهن على أنّ القوي يفرض تمثيله للعالم على من هو أضعف منه، فلا ينجح في ذلك إلاّ إلى حين، ولكن بما أنّ هذا السلوك مفارق لطبيعة الكائن البشري، فإنه لا يتحقّق إلا وهو يخلّف ندوبا غائرة في الكيان.
فكثيرا ما انهارت المستجوَبات السوداوات وهنّ يتذكرن لعبهن البريء بدمية “باربي” البيضاء، فذاكرتهن تستدعي ذلك الشعور بالدونية وتحقيرهن لذواتهن. ومن الطبيعي أن يولّد هذا الفعل آلاما نفسية عميقة، وأن يفقد المرء توازنه النفسي.
لهذه العوامل جميعا قررت خالة المخرجة “بيولا ماي ميتشل” صناعة دمى سوداء، فبلورت الفكرة واشتركت فيها مع زملائها في العمل، ومع “روث هاندلر” نفسها صاحبة شركة “ماتل”، فكان الحدث عظيما، وفق روايتها. وهكذا أطلقت الشركة في نهاية الستينيات دميتي “كريستي” و”جوليا”، وقُدمتا على أنهما صديقتا “باربي”، ولكن ملامحهما كانت غربية على سوادها.
ذات الشعر المجعد والشفاه الكبيرة.. الدمية السوداء
الثورة الحقيقية التي لامست الهوية الزنجية مباشرة، ودفعت إلى كسر نمط الجمال الذي فرضه البيض، والتسليم بمعايير جديدة لا تقصي الجمال الأسمر، لم تتحقّق إلا عام 1976 عبر “كيتي بلاك بيركنز”، وهي أول مصممة سوداء تنضم إلى صفوف شركة “ماتيل”.
فقد أجيزت فكرتها القائمة على تصميم نسخ سوداء تحمل اسم “باربي”، وتختلف عن سَميّتها البيضاء وعن “جوليا” و”كريستي” صاحبتي الملامح المزيفة. وقد اختارت لها مصممتها “كيتي بلاك” شعرا مجعدا قصيرا، وجعلتها ذات شفتين أكبر وأنف أعرض، ثم زينت ملابسها بنقوش مستمدّة من الذائقة السوداء وأصولها الثقافية البعيدة.
كانت تلك الدمية مصدرا لابتهاج النساء السوداوات وفخرهن، فقد وجدن في الحدث انتصارا وجوديا واعترافا بهنّ من مجتمعهنّ.
معركة التسويق.. دمية السود تنتزع حقوق الجميع
يمثل التسويق معيارا مهمّا لنجاح “باربي” السوداء، فإذا لم تصل لمستعمليها فسيكون الحدث نخبويا فحسب، ويبقى أسير الصالونات والحديث الزائف عن تقدير المجتمع الأمريكي للعرق الأسود، ومساواته بالعرق الأبيض. ويُطرح السؤال عندئذ: هل بُذل ما يكفي من الجهد لتسويق باربي السوداء؟
تظهر هنا عقبة أخرى أمام الدمية الجديدة، تستدعي عملا نضاليا خاصّا، فكثير من المستجوبات لم يعلمن بوجودها عند ظهورها، والإعلانات الإشهارية كانت تخصّص لنظيرتها البيضاء، لتعيش هي في ظلها، مثلما عاشت “كريستي” بوصفها صديقتها وجليستها، لا بوصفها كيانا مستقلا قائم الذّات.
وكان على مصمّميها أن يحاكوا تجارب نساء سوداوات ناجحات، مثل راقصة الباليه النجمة “ميستي كوبلاند”، والمبارزة المحجبة ابتهاج محمد، والعارضة الموهوبة “شوندا ريمس”. وكان على مناصريها أن يخوضوا المعركة بأنفسهم، لإقناع تجار الجملة بتوزيعها لتصل إلى مستهلكيها.
وبعد عمل شاق فقدت باربي البيضاء هيمنتها على العقول وعلى السوق، فظهرت اليوم في 35 لونا، و97 تصفيفة شعر، منها التي تستعمل الكرسي المتحرك أو المصابة بالبهاق.
فخلف عقلية الاستثمار ومبدأ الربح الأقصى الذي يحكم المنظومة الرأسمالية، ويتجسّد من خلال الدمى والألعاب الترفيهية، كان السود يخوضون معركتهم الشرسة لفرض احترام كيانهم وبعدهم البشري، وبنضالهم قلبوا المعايير الجمالية.
فلكي تكون الدمى ناجحة اقتصاديا، فلا بد أن تكون جميلة وملهمة، و”باربي” السوداء اكتسحت السوق، وانتزعت معجبيها من نظيرتها البيضاء. وأثبتت أن لها جمالا لا يقلّ قيمة عن الجمال الأبيض الذي تفرضه الطبقة المهيمنة، بوصفه النموذج الوحيد للحسن والجمال.
“لاجيريا ديفيس”.. السينمائية الشابة تربح تحدّي الفيلم الوثائقي
فيلم “باربي السوداء” هو أقرب إلى تمرين سينمائي، فكاتبته ومخرجته الأمريكية الشابة ذات الأصول الأفريقية “لاجيريا ديفيس” كانت تبحث عن موضوع لتثبت كفاءتها، وكان في منزل خالتها تراث كامل من الدّمى السوداء، ينتظر من يبعثه إلى الحياة من جديد.
يقول منظّر السيناريو “سيدْ فيلد” إنه في اللحظة التي نبحث فيها عن سيناريو، يكون سيناريو آخر في مكان ما يبحث عن كاتب. وجليّ أنّ منزل الخالة قد تولّى الوساطة على أفضل وجه بين الباحثين، ليكون النّجاح نجاحين.
أما النجاح الأول فهو نجاح الدمية في ردّ الاعتبار للعرق الأسود، فقد صنعت نماذج كثيرة من باربي السوداء مستوحاة من نساء سود ناجحات، أصبحن مثالا يحتذي ومصدرا للإلهام. و”باربي” هي الملكة في حفلات الأطفال، فتبتكر مخيلاتهم السيناريوهات التي تجعل الجميع يتودّد للسوداء سيدة المجتمع الراقي، ويتقرب منها ليكسب رضاها وصداقتها. وانتزاع الاسم “باربي” من الدمية البيضاء على المستوى الرمزي، هو فرض للمساواة بين العرقين.
وأما النجاح الثاني فهو نجاح المخرجة، فقد اهتدت إلى وثائقي يدافع عن قضية عادلة جادة، بوقار لا يخلو من الابتكار والطرافة.
ويكمن تميّز الفيلم في مواكبته لقضايا المجتمع الأمريكي، وفي استئنافه لمعركة الاندماج، بعد أن أثبتت وقائع كثيرة أن الأسود لم يتخلّص كليّا من المرتبة الدونية التي تُراد له. فيجعل صناعة الدمى واجهة للعرق الأسود يخوض من خلالها نضاله، ليضبط بطريقة ناعمة سلسة باتة أن العقل الأبيض متلبّس بإقصاء العرق الأسود ومتورّط في إيذائه، مستفيدا من البون الشاسع بين التشريعات والممارسة.