“البرابرة”.. عائلة سورية تجابه عقبات اللجوء في قرية فرنسية
لطالما دأبت السينما العالمية على اقتحام الأفكار الشائكة المؤرقة، فلكل زمن همومه وقضاياه، ولا إشكالية أشد تعقيدا من الاغتراب والصدام الحضاري، فهي المادة الأبرز حضورا على مائدة كثير من الأفلام، وقد تصاعدت أعدادها في السنوات الماضية، في تناسب طردي مع تفشي موجات العدائية والإسلاموفوبيا، وغيرها من الصيحات التحريضية المناهضة للآخر.
ولذلك تتباين زاوية الرؤية، وفقا لموقع التناول ذاته، فالمعتاد أن تصبغ هذه الأعمال السينمائية بتوقيع مخرج عربي، أو تخرج من عباءة أصحاب الأصول العربية أو الإسلامية، وهذا على أكثر تقدير، لكن مباغتة تلك النظرة الموضوعية من أهل الدار أنفسهم، فهذا هو الجديد المغاير عن المألوف.
ينتمي الفيلم الفرنسي “البرابرة” (Les Barbares) إلى هذه النوعية المفاجئة من الأفلام، وقد انطلق عرضه العالمي في الدورة الـ49 من مهرجان “تورنتو السينمائي بكندا (2024)، ولا تنبع المفاجأة من واقع موطن الرؤية فحسب، بل من هوية صانعته كذلك “جولي دلبي” ذات الإسهام الفني المتنوع، بين التمثيل وكتابة السيناريو والإخراج.
وفي فيلمنا هذا تطالعنا بأوجهها الثلاثة، بالاشتراك في كتابة السيناريو مع “ليا دومنيك” و”ماثيو روماني”، وهذا عملها الحادي عشر في مجال الإخراج، ويقترب عمر تجربتها من 30 عاما، محملة بكثير من الأنواع السينمائية، الدرامي منها والتاريخي، لكن على تنوع اتجاهاتها الفكرية، يمكن أن نلاحظ حضور تلك النظرة المتأملة للحياة، بما تكنه من مفارقات تستدعي الوقوف عليها.
هذه المرة تدعونا “دلبي” إلى تأمل المواقف المتباينة، لسكان مدينة بيمونت الفرنسية، على إثر وصول عائلة سورية نازحة من نيران الحرب المستعرة، قد يبدو الحادث ذاته مكررا، ولا يشي بأي جديد طارئ، لكن عندما يحسب أهل هذه القرية أن من سيصلون إليهم لاجئون أوكرانيون، فهنا تكمن المفارقة، بل والمعضلة ذاتها، إن شئنا الحقيقة.
ترى كيف سيكون الحال؟ هل سيرحب بهؤلاء الضيوف؟ أم سيقع وجودهم في دائرة المحظور التي تستوجب التجاهل؟
تكمن الإجابة على هذه التساؤلات المشروعة بين نسيج الدراما، المبطنة بداخلها أفكار عدة، لا عن حقوق اللاجئين وغيرها من تلك المرفقات الأخرى فحسب، بل تمتد إلى ما هو أعمق نحو قبول الآخر، وكيف ينظر كل طرف إلى نقيضه المقابل؟
عائلة عربية في قرية فرنسية.. عوالم الفيلم
يبدأ الفيلم بلقطة مقربة من وجه الرئيس الفرنسي الحالي “إيمانويل ماكرون”، ثم لقطة أخرى مطولة من عمدة مدينة بيمونت، وهو يلقي أمام الكاميرات خطابا ترحيبيا بالفوج الأوكراني الذي سيحل ضيفا على المدينة، ثم تتوالى مشاهد يطالعنا فيها بعض سكان القرية، وهم يطلقون العبارات الترحيبية بجيرانهم الأوكرانيين الجدد.
هذه المشاهد المصورة بكاميرا التليفزيون المحلي هي افتتاحية الفيلم، فكل ما سبق ليس إلا مقطعا ترحيبيا، لبث الطمأنينة في قلوب الوافدين المرتقب وصولهم بين لحظة وأخرى، وهكذا يتدفق السرد، ويقوم قطاع كبير منه على المزج بين المشاهد الواقعية، وما يقابله من أخرى مصورة بكاميرات التليفزيون أو الهاتف، وذلك تطبيق حداثي لمفاهيم الصورة.
لا يعتمد الفيلم في تشكيله على الإطار التقليدي، فقد لجأ السيناريو إلى تقديم أحداثه مستندا على الفصول المتلاحقة، لكل منها اسمه الدال على ما سيطرأ من أحداث، تتبلور سياقاتها المتشابكة استنادا على 5 فصول، يسبقها تمهيد، وتعقبها خاتمة، وكأننا أمام حركات درامية أقرب إلى القوالب الموسيقية.
ومن رحم هذا البنيان المتماسك، يتدفق الحكي وفق متوالية سردية، قوامها حالة التضاد بين الأصل والفرع، أو الفرنسيين أهل القرية السكان الأصليين لهذه البقعة المكانية، في مقابل العائلة العربية القادمة إلى هذا الحيز المغاير.
ومن ثم يضع السرد المتفرج أمام عالمين متوازيين، لكل منهما مشتقاته وعناصره المختلفة عن الآخر، وبهذا الاحتكاك المتوقع والمنتظر بين كينونة كل عالم، تتبلور الحبكة الرئيسية، ومنها تنطلق الخيوط الدرامية المشكلة للأحداث.
أجواء الترحيب.. ضجيج مفتعل ودعاية زائفة
يعرض التليفزيون المحلي تقارير إخبارية عن المدينة، أثناء استعداد قاطنيها لاستقبال أشقائهم الأوكرانيين، وفي ظلال هذه الأجواء المرحبة، وبينما يرفع العلم الأوكراني في الميدان الرئيسي إحياء لشعارات الإخوة، يكتشف فجأة أن القادمين ليسوا أوكرانيين، بل عائلة عربية سورية.
وهنا يدخلنا الفيلم في صلب موضوعه، فتتجول كام
يرات التلفزيون بين أهل المدينة، اقتناصا لردود الأفعال بعد ظهور حقيقة الضيوف الجدد، ثم تتدفق المشاهد التي تتضمن ترحيب أهل المدينة بأصدقائهم العرب. وبين هذا المقطع وذاك، يأتي تعليق ساخر أو مازح عن هؤلاء الجيران المنتظر قدومهم، وإن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على الجهل المعتم بالآخر.
يضعنا السيناريو أمام تلك الحقيقة التي لا تقبل الشك، وهي أن كل هذه الجرعات المكثفة من الترحيب، لم تكن إلا صيحات دعائية، تخفي بين سطورها ما لذ وطاب من ادعاء وافتعال ممزوج بريبة وكره سيتضح معالمهما فيما بعد، فالحقيقة أن الفيلم يطرح عالما سرديا تدور الأحداث بين أسواره، محاصرة بورود المحبة والمودة، لكنه يطمر بداخله ما هو عكس ذلك.
سخرية المكان.. حقائق أخفتها الكوميديا السوداء
يقدم السيناريو صورة ساخرة للمكان، لكن الكوميديا عادة ما تخفي بين طياتها بصيصا من الحقيقة، فالضغينة والحذر والشك كلها مرادفات ملائمة تماما لوصف أنماط العلاقات بين السكان، فما يظهر على السطح مغاير لما يدور في العمق تماما، ومن ثم يمكن الإمساك بقدر -ولو يسير- من هذه الاحتكاكات، من خلال نسيج العلاقات المتشابكة بين أبناء المدينة.
لا يتأخر السرد في تقديم حال أبطاله العرب، فبعد أن تصل عائلة مروان السورية، وتنتهي مراسم الاستقبال الرسمية، يفاجأ الجميع بوجود بعض العبارات المسيئة على باب المنزل المهدى إليهم، فعلامات الحقيقة بدأت بشائرها في الظهور.
ولا يكتفي السيناريو بهذا، بل يكمل مصفوفة الواقع بمشهد يتشاجر فيه مسؤول المتجر الرئيسي مع مروان (الممثل الفلسطيني زياد بكري)، بعد أن حاول تذوق بعض المعروضات قبل الشراء، وتلك عادة عربية أصيلة.
وهكذا يزيح الفيلم الستار عن مواطن الخلاف بين العرب والغرب، لا من تلك الزاوية المستهلكة عن العادات والتقاليد وغيرها من الصور النمطية، بل من واقع رؤية أكثر اتساعا وعلى نحو أكثر عمقا.
سيل من الأسئلة يعكس صورة نمطية
بينما أهل القرية منهمكون في إعداد منزل الضيوف الجدد، تطالعهم دلالات الاختلاف بينهم وبين جيرانهم العرب، في البداية لا يدركون ما هي لغة التواصل المناسبة؟ هل هي الفرنسية مثلهم؟ أم أن لهم لغة أخرى لا يعرفون عنها شيئا؟
تمتد هذه الحالة من الجهل إلى عالم النساء العربيات، فهل جميعهن يضعن حجابا على رؤوسهن أم لا؟ وهكذا تتوالى دفقات الأسئلة تباعا على ألسنة الشخصيات، بما يفجر الضحك بالتأكيد من ناحية، لكنه على الجانب الآخر يدعو إلى التأمل في تلك الصورة الحقيقية.
ولا يبخل الفيلم في تقديم الوقائع والبراهين بكل ما أوتي من صراحة وقوة، مما يعكس رغبة لدى صناع العمل في تعرية الواقع وكشف فداحته، في سبيل إزاحة اللثام عن مزيد من الرؤى داخل هذا المجتمع، الذي ما هو إلا تجسيد للغرب عموما.
وهنا يصل السرد إلى مكمن مضمونه، ألا وهو التعبير عن الاختلاف الثقافي والمعرفي، فذلك ما يؤدي بطريقة أو بأخرى إلى خلق صورة نمطية زائفة عن هذا الآخر المختلف، نراها في مشاهد عدة تُظهر وخزات الكُره المطمور ناحية العرب، أو التوجس والريبة والمبالغة في الحذر، مثلما نرى أحد السكان وهو يسقي طفله سموما تحذيرية من العرب والمسلمين.
خطوط سردية ترسم ثنايا الحكاية
للتعبير الأمثل عن تلك الحالة العامة من الجهل، يخلق السيناريو بذكاء وحرفية عالمين، أحدهما يحيط بالآخر، يمكن حصر حدود العالم الأول داخل الأسرة العربية، وهي مكونة من زوجين وطفلين وجد، بالإضافة إلى أخت الزوج التي فقدت إحدى ساقيها في الحرب.
كل فرد من هؤلاء ذو قصة ما، تجعله يغزل خطا سرديا منفردا، لكنه يشتبك بأريحية مع الخطوط الدرامية المقابلة، التي يتكون من نسيجها العالم المقابل، الذي يدثر بتكتلاته وتنوعه البشري حياة أسرتنا العربية.
ولأن بثور الاختلاف تطغى على مناطق الاتفاق، تواجه الأسرة سحبا داكنة من مشاق الحياة، يقع جزء كبير منها تحت طائلة شح المعرفة بالآخر، ثم يرافق ذلك الجهل بزوغ بعض من نقاط الصراع المنطقي.
صراعات الحياة اليومية.. فخاخ تخلق أجواء مضطربة
تقدم القرية مساعدات يومية لعائلة مروان، لكن رياح الرفض يعلو صوتها، فكل فرد من الأسرة يمكن أن يمارس عمله الذي دأب عليه وحقق فيه إنجازا، فالأب مهندس معماري والأم مصممة غرافيك، ويمكنهما العمل، لكن المدينة ذات حيز جغرافي محدود نسبيا، وليس بها فائض من الوظائف المتاحة، إلا للأطباء، وتلك مهنة لا تتقنها إلا أخت الزوج “ألما” (الممثلة ريتا حايك)، وهنا يصبح القبول بالأمر الراهن هو الحل الأنسب، فتقبل الزوجة فرصة العمل في الزراعة، إلى أن تتحسن الأوضاع.
ومع توغل الجميع وانصهارهم في مزيج الحياة الجديدة، تتوالد أشواك الخلاف، وتنبثق منها إشكاليات الصراع الدرامي الدائر حول الحق في الوجود، فالعائلة الجديدة ترغب بممارسة أدنى حقوقها في الحياة العادلة الكريمة، لكن الفخاخ المحيطة بها تخلق بُعدا محصور الأركان والزوايا، فالعيون محدقة ومسلطة عليهم، تلتقط كل شاردة وواردة، ولا يكاد يمر نسيم اختلاف إلا وُضعوا على إثره تحت مجهر الكراهية.
لذلك يبدو الصراع الدرامي محملا بإرث أكبر من التأويلات، يمكن بيان دلالاته على نحو أكثر عمقا، مما يشير إلى الصراع العقائدي والثقافي بين قوتين، لكل منهما رصيد من التاريخ والحضارة.
ولا تقف حدود هذه القراءة عند الصراع بين التضادات الثقافية، بل تقدم صورة شاملة للنماذج البشرية في المجتمع الفرنسي، فالاتجاهات السياسية المتنوعة تلقي بظلالها على الحياة هناك، وهنا يصبح السؤال عن ماهية عنصر التوحيد فرض عين لا بد من مجابهته.
رغبة التلصص على الآخر
تقيم بلدية المدينة احتفالا تعريفيا، رغبة في توطيد المعرفة بهؤلاء الجيران الجدد، وفي تلك الأثناء يطلب منهم عرض مقطع مصور مقتنص من الحرب السورية، وعندئذ تطلق “ألما” سؤالها المفخخ بالألم، هل كل هذا الحصار المدجج بالاهتمام الزائف يعود سببه إلى أصولهم العربية؟ وكيف سيكون الوضع لو أنهم أوكرانيون؟
عندها يفاجئنا الفيلم بحقيقة واضحة، ليس لها إلا وجه واحد يحمل من المرارة قدرا لا بأس به، وهي أن كل هذه المحاولات الاستعراضية تحوي بين طياتها رغبة مطمورة في التلصص على الآخر، ومن ثم تفقد كل مساعي الخير المبذولة بريقها، وتتحول إلى صورة فجة من المتاجرة، كما يطالعنا عمدة المدينة قائلا إن المواطنين الأوكرانيين ترتفع معدلات الطلب عليهم هذه الأيام في سوق اللاجئين، فالسياسة تتحكم في بوصلة كل شيء.
ولأن مضمون الفيلم يبحث في سياقه عن جسر تواصل بين هذا الطرف وذاك، نجده ينشئ الحل من زاوية لا خلاف عليها، وتكمن هذه الرؤية من واقع شقين لا ثالث لهما، أولهما يقبع بين إطار التلاقي الإنساني، في حين تشكل المشتركات الثقافية الشق الآخر.
فقد طعّم السيناريو أحداثه ببعض من المشاهد لإثبات هذه النظرة، فنرى مروان محتجزا في مركز الشرطة، بعد شجار مع جاره الفرنسي المتعصب لقوميته “ريو” (الممثل لوران لافيت)، ونسمعه يردد كلمات من أغنية المطربة “داليدا” بالفرنسية، فيتفاجأ الضابط بمعرفته لصاحبة الأغنية، ثم تنشأ بينهما وسيلة تواصل تقربهما فكريا.
وكذلك يتوالد الشق المقابل من معادلة التقارب الإنساني، عندما تساعد “ألما” بخبرتها الطبية زوجة جارها “ريو” في وضع طفلتها، ومن ثم نصبح أمام عالم جديد مثالي، تنصهر فيه الطوائف كافة، من غير اعتداد بأدنى خلفية عقائدية أو ثقافية، فهذا ما يرغب السرد في التعبير عنه، لكن هل تذيب هذه المعادلات جليد الخلافات؟
“نساء بلاد الغال”.. لوحة عتيقة تختزل صراع الهوية
تجيب خاتمة الفيلم على التساؤل المذكور آنفا، فنرى “ريو” أثناء مروره بجوار عائلة مروان، ووجهه لا يزال يحمل علامات الامتعاض، فقد ساهمت العناصر البصرية في تدعيم المعنى المقصود دراميا، ثم نرى في أحد المشاهد مروان أثناء عبوره الباحة المقابلة لمنزله، يلتقي بجاره “ريو”، وهنا تصعد الكاميرا إلى أعلى وتلتقطهما من زاوية عين الطائر، وكأنهما في ساحة معركة من أفلام الغرب الأمريكي، كل منهما في انتظار انطلاق الشرارات النارية ضد الآخر.
يُعبر عن هذا الآخر مع بداية كل فصل درامي، ويدون عنوانه على خلفية لوحة “نساء بلاد الغال” للفنان التشكيلي الفرنسي “أوغست بارتيليمي غليز” (1807-1893)، وهي تصور هجوم جنود “يوليوس قيصر” على بلاد الغال قديما (فرنسا وبعض بلدان الغرب الأوروبي حاليا)، ولذلك فإن اللوحة تبطن إشارات حول الهوية الحقيقية لهؤلاء البربر.
فالفيلم -على صراحته في التعبير- يحمل من الإيحاءات والدلالات المستترة ما يجعله أكثر عمقا وأقوى دلالة، ويدفع إلى التفكير والتأمل في معادلات الصراع الدائم بين الشرق والغرب، ثم في الواقع بطبقاته المتباينة، وما تحوي بين ثناياها من دليل لقراءة أوسع وأشمل لمرادفات الحياة بكل دروبها وتناقضاتها.