“ماكسين”.. الفصل الأخير من ثلاثية دموية في عوالم هوليود المادية
بعد نحو عامين من الانقطاع، يعود المخرج الأمريكي “تاي ويست” هذا العام بفيلم “ماكسين” (MaXXXine) المكمّل لثلاثية “أكس”. ويحافظ على حكايته الرئيسية التي تناولها في فيلميه السابقين “أكس” (X) و”بيرل” (Pearl)، ولكنه يأخذها إلى مستوى مختلف.
فالجسد ما زال يشغل الحيز الأكبر من السرد بوصفه نقطة مركزيّة يؤسس عليها المخرج أفلامه الثلاثة في حقب سينمائية وتاريخية مختلفة، ولكنه هُنا يحاول تصعيد الشخصيّة إلى درجة أعلى، لينقل بطلته “ماكسين” (ميا غوث) في فصلها الأخير، ويطورها من أداة في الصناعة الإباحيّة إلى ترس في الأستوديوهات الهوليودية الضخمة.
والحقيقة أن الأفلام الثلاثة، إنما هي استجابة لرغبة “ماكسين” في أن تصبح نجمة، كما لقنها والدها في طفولتها، وذلك حلم بتحقيق الذات في عالم حداثي لا يؤمن إلا بالمفاهيم الروحانية، بقدر ما يعمل بنظام مادي يسحق الجميع تحت عجلته.
المدينة التي تسع كل شيء
ينتقد “ويست” نظام الأستوديوهات بطريقة غير مباشرة من خلال الحكي، ويتفرد عن أفلامه السابقة التي دارت في الريف أو على هامش المدينة بسياق مديني كامل يؤسس لهوليود كاليفورنيا، ويظهرها على أنها المدينة التي تسع كل شيء، أشبه بمدينة الرذائل “غوثام” في ثمانينيات القرن الماضي، ذروة أيام شرائط الفيديو الإباحية وأفلام الدرجة الثانية التي كانت تعرف بأفلام “بي” (B-Movies).
يحوم اللصوص والقتلة في كل منعطف وعند كل زقاق، لكن “ويست” تعمّد خلق شخصية مادية وبرغماتية تماما، تطوّرت في تسلسلات من القتل والجرائم التي تعكس طموحا وحشيا، فالقتل دافع مهم ووجه آخر ينتمي لعالمه، لكنه ينافي في طبيعته ما تروج له الشخصية في عملها الإباحي أو السينمائي.
فالقتل يعني الانتهاء التام، وفعل القتل ذاته هو نموذج مصغّر لطبيعة النظام الاجتماعي الذي يؤسسه “تاي ويست”، ولكنه في الوقت ذاته يمنحه طبيعة مضادة، فإذا كان يعني الانتهاء فإن “ويست” يطوّع الفعل داخل سياق من المتتاليات، التي تمنح القتل وجها معاكسا معنيا بالاستمرارية، لأنه يضعه في سياق عالمه الذي يسير بدستور غير أخلاقي، فإما أن تقتل وتنال فرصة جديدة، أو تُقتل وتنتهي للأبد.
نظام هوليود.. عالم يلفظ الدخلاء الرافضين للتكيف
لا يختلف عالم هوليود الليلي عن نظام أستوديوهاته، فهو يسير بنموذج الفرصة الواحدة، إما الخسارة أو الفوز، ويجب أن تكون حياتك متوالية من الانتصارات، بغض النظر عن معنى تلك الانتصارات وتكلفتها، لأن السقوط يعني الانسحاق تحت عجلة المخاض لنجمات ونجوم وعاملين جدد.
لذلك فهو عالم يلفظ الدخلاء الذين لا يتكيفون، وليس من المفاجئ أن تتعامل “ماكسين” كأنها واحدة تنتمي لهذا النوع من العوالم، ويتضح ذلك في الربع الأول من الفيلم، فيصورها ابنة لشراهة الليل، فطنة لكل ألاعيبه الخطرة وزواياه المظلمة.
وبوصفها واحدة من صنّاع نشوة الليل، ترى “ماكسين” نفسها في جزء مرحلي ومؤقت، فتصعد إلى النجومية والبطولة في منظومة لا تختلف كثيرا عن منظومة الليل، ولكن بنمط شكلي أكثر جاذبية.
كل شيء وعكسه.. صراع الرغبات الفردية والسياق الاجتماعي
يحاول المخرج “تاي ويست” في أفلامه الثلاثة أن يرصد القلق الكامن بين الرغبات الفردية المتمردة والسياق الاجتماعي المحدد، فالإشكالية تكمن في غياب التوافق بين طموح “ماكسين” والتوقعات الاجتماعية، ولكنه هنا يصل بالشخصيّة إلى السياق المديني المنفتح، في حقبة زمنية تتسم بفائض في كل شيء.
والإفراط في الانفتاح إلى درجة المبالغة، أو المحافظة إلى درجة التطرف، ومراقبة ذلك التعارض على الشاشة حتى لو بشكل هامشي، يمنحنا فكرة عامة عن السياق المديني الذي يتفرد به الفيلم الأخير عن سابقَيه، على ما يواجهه من تشتت في بناء حبكته، لاعتماده على تسلسل الأفلام الزمني.
وقد تعمد المخرج أن يبرز ذلك التعارض في أول تسلسل مشهدي، لنفهم أن “ماكسين” قد تحررت من النموذج القيمي الاجتماعي، فتجري في البداية اختبارات أداء لفيلم سينمائي في أحد أستوديوهات مدينة هوليود، ثم تخرج فتركب سياراتها.
وفي تلك الأثناء يتظاهر حشد من الناس احتجاجا على طوفان العنف والجنس الذي يغزو الأفلام، ويدعون الجميع للعودة للمسيح المطهر، بيد أن السياق التبشيري أو الحشود الغاضبة لا تحتل سوى لقطات قصيرة وهامشية في الخلفية، مع أن التطرف الديني أساس أولي للحبكة.
فيديو الكنيسة.. مقطع قديم يلخص تناقضات الفيلم
يحرك الفيلم بافتتاحية تستحضر مقطع فيديو قديما لـ”ماكسين”، صوّره والدها في إحدى فعاليات الكنيسة، والحقيقة أن ذلك الفيديو القصير هو نواة كل شيء يحدث الآن، أو هكذا صدّره المخرج، لأنه يجمع بين طبيعة التدين وجوهرية الطموح وحب الذات في الوقت ذاته، وهما متناقضان، فالطبيعة الروحانية للتدين -ذي الطابع المكاني هنا- تميل للزهد.
ولكن الحديث الذي يدور في هذا المقطع يتنافى مع طبيعة التدين أصلا، فالفيديو يحفز لتضاد واضح، ويبرر الشخصية الوجودية، مدعومة بسلسلة من الوقائع والصدمات الدموية في الأفلام السابقة، التي تجسد هذا الصراع بين ما هو خارجي راسخ وما هو داخلي متمرد.
كل تلك الفرقعات ذات الحدة المتباينة، تحيلنا إلى مفارقة البحث عن شيء هو في الأساس قائم على بنى وهميّة، فصناعة النجوم ليست إلا آلية قائمة على التسليع والبيع والشراء، وهو يفتقد للأصالة، ونقصد ذلك الهدف الذي تبحث عنه البطلة.
فكل محاولات “ماكسين” لإثبات الذات تسقط في فخ محاولة التوافق مع النماذج والمعايير التي تضعها المؤسسة السائدة والمتفوقة سلعيا في ذلك الوقت، وذلك الفيلم هو الشكل أو النمط الذي تحتاجه عجلة الأستوديوهات، حتى لو وضع في سياق فني متغطرس يحوم حول التسلق للوصول.
منهج القوة.. مفهوم جوهري يتفرع منه كل شي
ينتهج “تاي ويست” منهجا عنيفا في عرض أفكاره، فإطاره الحكائي يعتمد في بنائه على استعادة الوسائل الأوليّة لاكتساب القوة والتحقق، وذلك منهج يرى القوة مفهوما أموميا وجوهريا يتفرع منه كل شيء، فالعنف هنا متجاوز للمشهدية والمنظر، بل متغلغل في المسامات والكينونة.
كما أنه وسيلة للاختبار والتحقق، تطبع صبغتها على الهيكل السردي كله، فيتبدى كشيء فوضوي وحشي غير مرتب، وقد يكون في بعض الأحيان عشوائيا، كأن إرادة القوة هي التي تُسيّر العالم، وكل مسعى للترقي ينبع من الجوع والجشع للقوة والسطوة، ثم يتحول لا إراديا إلى عنف.
هذا التحول التدريجي الذي يصل إلى ذروته في نهاية الأفلام الثلاثة، يعيد خلق “ماكسين” من جديد، لتصل في الفيلم الثالث إلى نسخة ربما هي الأرقى في السلم الاجتماعي والوظيفي، وهي نسخة متوافقة مع متطلبات صناعة الترفيه، بكل ما فيها من تسليع واغتراب وإلغاء للذات.
الشخصية الرئيسية.. محورية تغطي كل أرجاء الحكاية
من خلال إعادة خلق “ماكسين” من جديد، يخلق المخرج “تاي ويست” جسورا بين الماضي والحاضر، خاصة مع قصدية تأسيس عوالمه داخل حقب سينمائية ذات مزاج وذائقة فيلمية مختلفة وثورية في تلك الأوقات، فـ”ماكسين” تسير بمحاذاة نوبات وانفجارات متمردة وغير مألوفة، كأن “ويست” يبغي أفلمة عصر كامل، ولكن في بعض الأحيان تتشتت حركة شخصيات من أفلامه الثلاثة.
بالإضافة لكون الشخصية الرئيسية أصبحت أقل إثارة للاهتمام من الفيلمين السابقين، فحتى دوافعها وهلاوسها أصبحت غير كافية لملء فراغات القصة التي تعمل على استحياء في توفير مبررات للشخصية.
فالمخرج “تاي ويست” يهتم بالشخصية الرئيسية، لكنه لا يمنح الشخصيات الأخرى وقتا حقيقيا على الشاشة ليحدث نوع من التطور، بل هم مجرد وظائف على الشاشة، سواء كانوا يساعدون البطلة أو يحاولون قتلها، وهم في الحقيقة مهمشون لدرجة أن استبدالهم أو تغيير سياقاتهم وخطوطهم لن يحدث فرقا حقيقيا، فـ”ويست” يسلط كل الأضواء على “ماكسين” وحكايتها وعقدتها.
بيد أنه على الناحية الأخرى يحاول أن يمنح قصته عمقا زمانيا، من خلال تسلسلات بصرية، أو بنية شكلية في هيئة تكريم أو تحية لأفلام أيقونية سابقة، فنجده يقحم منزل “سايكو” (Psycho) للمخرج “هيتشكوك” في الحكي، بطريقة لا أرى أنها أضافت كثيرا للفيلم من ناحية الحكي، بقدر ما أضافت حيوية للنمط البصري.
“تاي ويست”.. سينما عنيفة ذات نزعة تدميرية
يتميز المخرج “تاي ويست” بأنه يخلق مشاهد دموية تجعل الفيلم مميزا بصريا، كأنها إعادة صياغة للنموذج الاجتماعي، بأدوات وأنماط بصرية قديمة.
لكن التركيز على الجانب البصري جاء على حساب الشخصيات الأخرى، فربما يصنع “ويست” مشهدا دمويا مربكا وجماليا في الوقت ذاته، ولكن الشخوص الذين يقتلون ويتحركون داخل الإطار في الحقيقة لا يتحركون سرديا، بل يقفون في انتظار أن تأتي البطلة، فيشتبكوا معها على هامش العقد الثانوية التي تواجهها، أو العقدة الأم التي تحاول حلها، ولكنهم في الحقيقة غير مرئيين بما يكفي.
ربما لهذا يفرط “ويست” في القتل والدماء، لأن العنف نفسه -في عالمه- هو علامة تحقق الوجود. ولكن في ظل تلك النزعة التدميرية التي يخلقها ببراعة تضيع الأشياء الأخرى، فجماليات رسم المشاهد الدموية، ربما تذوب وسط الأصوات والأفكار غير المكتملة.
كما أن الشخصيات قد لا تفهم دوافعها تماما، وهذا يحمّل الشخصية الرئيسية حملا مضاعفا، لأنها المسؤولة الوحيدة عن تحريك السرد للأمام، وهي عالقة بين كونها تعرض لشخصية مركبة، وبين قدرة تلك الشخصية على منح الدوافع لكل الشخصيات الأخرى.