الوجه الآخر للبوذية.. كسر الصمت عن دين يراه الغربيون فوق الشبهات
في الفيلم الوثائقي الفرنسي “البوذية.. قانون الصمت” (Bouddhisme, la loi du silence)، تقوم “إيلودي إيمري” و”واندريل لانوس” بتحقيق مثير عن الفضائح المالية والعنف الجنسي في قلب المجتمعات البوذية في أوروبا، مما أدى إلى تشويه صورة دين السعادة والصفاء الذهني في المخيّلة الذهنيّة الأوروبية.
يبدأ في لقطاته الأولى بما لا نعرف هل هو رسالة، أم مذكرات يكتبها البطل الذي ما زال مجهولا لدينا.
يعرض لنا بطل الفيلم “ريكاردو” (40 عاما) فيما يكتبه ملامح من قصة حياته للتعريف به، لدينا حتى الآن عن ذكرياته صور من جنوب فيردون بفرنسا، حيث يقطن أحد المجتمعات البوذية.
كان “ريكاردو” واحدا من بين 60 طفلا هناك، تركه والداه في مكان يسمي “شاتوه دي سوليه” وهو في عامه الخامس، فقضى طفولته في التعبد وأداء الصلوات والسجدات، ولم ير أهله طيلة سنواته في هذا المكان.
في “شاتوه دي سوليه” تعرض “ريكاردو” للضرب والحرمان من الطعام، وقضى أياما في الصقيع، ولكن بعض الفتيات اللائي ترعرعن معه قد مررن بما هو أفظع، حتى أن “ريكاردو” يخبرنا بأنهن تعرضن لما يمكن أن نسميه اعتداء جنسيا واغتصابا.
تحتوي تلك المقدمة الدرامية التشويقية على تعليق “ريكاردو” الصوتي، مصحوبا بمونتاج متنوع من الصور والمقاطع المصورة لمجتمعات وملاجئ الأطفال البوذية في أوروبا، واللقطات الأرشيفية التي تدمج بين حصول “الدالاي لاما” على جائزة نوبل للسلام، ثم مشهد آخر لمساءلته من قبل أحد الصحفيين حول ممارسة المعلمين للرذيلة مع الأطفال.
عرضت الجزيرة الوثائقية هذا الفيلم على شاشتها، ونخوض فيه على مدار 52 دقيقة رحلة في محاولة لكسر قانون الصمت، واكتشاف مآلات الهوس الأوروبي بالشرق الروحاني المتخيّل.
انتفاضة التبت.. هجرة وابتزاز باسم قضية عادلة
يعد “دالاي لاما” واحدا من الشخصيات الرئيسية ذات الدور الحاسم في مسار التحقيق من بدايته وإلى ما انتهى إليه. لم يكن الغرب ليعرف تلك النسخة التبتيّة من البوذية ويتبناها لولا شخصية “دالاي لاما” وجاذبيته وصورته التي تصدرت وسائل الإعلام الغربية، في سعيه لكسب الحقوق السياسية لشعبه، وفي نفس الوقت لعب دور المعلم الأول للبوذية التبتيّة.
بنشاطه ورحلاته المكوكية من بلد غربي إلى آخر، حاول “دالاي لاما” إنقاذ الثقافة التبتيّة ونسختها الدينية البوذية، من خلال الرغبات الروحية للغربيين، مستخدما تلك الرغبات للضغط سياسيا على الصين.
ومع أن الفرع التبتي هو الأقل في البوذية، فقد أصبح الأشهر بفضل نهج “دلاي لاما” السياسي، الذي استغله على الساحة الدولية في فرض قضية التبت، لذلك نرى في بداية الفيلم لمحة يسيرة وعابرة عن تاريخ التبت وثورته وانتفاضته ضد الحكم المركزي في الصين.
استمرت تلك الانتفاضة 13 يوما من شهر مارس/ آذار 1959، ثم انتهت بنهاية قمعية شديدة الدموية، فخلّفت تلك المواجهة بين الجيش الصيني ورهبان التبت وشعبهم 10 آلاف قتيل، وهرب “دالاي لاما” إلى منفاه في الهند، وكان يسمى يومئذ “دالاي لاما الرابع عشر”، ثم أصبحت كلمة “دالاي لاما” وحدها دليلا كافيا لتعريف صاحبها.
كانت الهند يومئذ معادية للصين، فاستقبلت “دالاي لاما” ولاجئين من شعبه، وقاد منها نضاله وحلمه بالاستقلال، ثم استقر البوذيون التبتيون في مخيّمات ومجتمعة فقيرة الخدمات جدا في الهند، لذلك كانت التبرعات الدولية مصدرا رئيسا لمعيشتهم، تلك التبرعات التي تلعب دورا هاما في الفيلم، ستعوق “ريكاردو” في رحلته لكسر قانون الصمت البوذي في قضيته ضد المعلم البوذي الأوروبي “روبرت سباتز”.
“دين يراه الغربيون فوق الشبهات”
يعتمد المخرجان في تحقيقهما الوثائقي على عدد من المصادر، منها شهادات بعض الحقوقيين الذين يمثلهم “ريكاردو”، وهو راوي الحكاية وضحيّتها، وشهادات بعض الضحايا، وشهادات مجموعة من المعلمين الرهبان البوذيين الأوروبيين، ويرِد على لسان أحدهم تلخيصا لاستمرار الصمت عن الجرائم البوذية، بأنه “دين يراه الغربيون فوق الشبهات”.
لقد جاء الهيبيون في البداية إلى الهند بحثا عن ملاذ روحي من المادية التي استفحلت في الغرب وحياة ما بعد الحداثة في الدول الصناعية الكبرى، وكانت تلك الموجة الأولى من هجرات الهيبيين تشكل الاحتكاك الأول، الذي سيتسبب في نقل البوذية وغيرها من الأديان البراهمانية التأملية إلى الغرب، حيث سيعتنقها كثير من الغربيين.
يصف أحد المعلمين البوذيين الآسيويين داخل الفيلم ذلك المشهد قائلا: يتميز الغربيون بالفضول الشديد وحب المغامرة واكتشاف أشياء جديدة، ففي البداية جاء الهيبيون إلى الهند -وهي مقر منفى البوذيين التبتيين- لتعاطي الحشيش. وكان البدء من فضول الهيبيين، ثم انتقل الأمر كالعدوى إلى الأجانب السياح عموما، ممن لديهم فضول لاكتشاف دين روحاني جديد.
وتؤكد كلماتِ ذلك المعلم الآسيوي كلماتٌ أخرى ينطق بها أحد الغربيين، ممن انجرفوا وراء تلك الموجة الهيبية وتأثروا بها، فيعرض حالة الهوس بالبوذية كما عايشها بقوله: إنه البحث عن الحقيقة والحكمة ومعرفة الذات، أدركت أننا في الغرب لم نفكر قط في أنفسنا، بل إننا لسنا واضحين بشأن أنفسنا، ولا نفكر فيما يحدث حولنا، نريد السيارات والسلطة والمال وأجهزة التلفاز، ونريد السفر، نحن دائما نريد المزيد، ولا نهتم لما يحدث في داخلنا.
“أوشو”.. فلسفة إلحادية حاربها كهنة البراهمانية
لم يرتبط ذلك الهوس بالبوذية وحدها، ففي الشرق -حيث مصدر كل ما هو ساحر في نظر الغربيين- اتبعوا الفلسفة الإلحادية التي أطلقها الفيلسوف الهندي “أوشو”، فقد جاؤوا به من بلده الهند، بعد أن غضب عليه كهنة البراهمانية لأفكاره الإلحادية، واستقبلوه في بلدة نائية بالولايات المتحدة.
وفي المسلسل الوثائقي “بلاد غريبة جدا” (Wild Wild Country) الحائز على جائزة “الإيمي” لأفضل عمل وثائقي لعام 2018، نتوسع أكثر فأكثر في استكشاف جذور ما يسمى “الفتشية” للأديان التأملية الشرقية للشرق.
فالمدينة الفاضلة التي أسسها “أوشو” في بلدة صغيرة طرفية بمدينة أوريغون، أصبحت في نهاية المطاف “طائفة” (Cult)، مع أنها نشأت في الأساس ضد سطوة الأديان، ودعت إلى التحرر الكليّ للإنسان، ولكن ذلك التحرر من سلطة الدين بوصفه مؤسسة روحانية، انتهى لأن يكون عبودية متسلسلة في مجتمع عُرف باسم “الراجناشيز” أتباع “باغوان شري راجنيش” المعروف أيضا باسم “أوشو”.
المدينة الفاضلة.. وكر الجريمة المنظمة والمخدرات
قامت على تأسيس مدينة “أوشو” الفاضلة جماعات هيبية، ممن آمنوا بـ”أوشو” من كل مكان في الغرب، لا في الولايات المتحدة وحدها، لكنها أصبحت مقرا للجريمة المنظمة، فانتشرت فيها المخدرات والأسلحة التي كدسها “الراجناشيز” لحماية أنفسهم من أهالي المدينة الفلاحين، الذين كانوا يعيشون عيشة مسيحية هادئة، إلى أن جاءهم “الراجناشيز” بمعتقدهم الجديد.
يبحث الوثائقي فيما وراء كاريزما “أوشو” التي غررت بأتباعه من الغربيين الباحثين عن ملاذ روحاني، بعيدا عن صخب المادية في الغرب، لكنها حولتهم في النهاية إلى عصابة منظمة، وجعلت “أوشو” مليارديرا يمتلك أسطولا من العربيات، ومجموعة من الإناث المنتقيات اللاتي ينمن في فراشه ويسهرن على راحته، وإلها على الأرض في نظر أتباعه.
تلك الحالة التي تتشابه مع حالة أخرى في فيلمنا، وهي المعلم البوذي التبتي “سوغيال ريبنوتشي لاكار”، وتعني كلمة “لاكار” الجوهرة، وهو لقب يناله معلمون من الطراز الرفيع فقط.
زعيم المافيا.. معلم قد يقتل في سبيل سترته الجلدية
يحكي أحد الأتباع الذين تعلموا على يد “سوغيال لاكار” أن الرجل كان يمارس حياته، وكأنه زعيم للمافيا، لا زعيم ديني فحسب، فقد كان دائما ما يكلفه بحمل سترته الجلدية الفاخرة، وفي إحدى المرات هدده بأنه إذا حدث مكروه لتلك السترة الجلدية، فعليه أن يهرب وألا يعود، لأنه إذا عاد فسيكون في عداد المفقودين.
لقد كانت تلك إحدى المزحات الثقيلة للمعلم “لاكار”، وكانت وراء تلك المزحة حياة مافيويّة حقيقية. لقد كانت تلك السترة غالية جدا على “لاكار”، وكان يحملها تلميذه مهربا إياها عبر الحدود، وهي تمتلئ بالنقود التي تلقاها مقابل “تعاليم سرية للغاية”، كما يصفها تلميذه.
توفي “لاكار” عام 2019، ويعد واحدا من أيقونات البوذية في المجتمع الغربي، فلقد كان مؤسسا لجمعية دولية بوذية تبتيّة تدعى “ريغبا”، ومؤلف “الكتاب التبتيّ للحياة والموت”، وقد قدّم له “دالاي لاما”، وحقق أعلى المبيعات في سوق الكتب الغربية.
نما مجتمع “لاكار” إلى 114 مركزا في 24 بلدا، وقد استقال من جمعية “ريغبا” عام 2017، بعد أن اتهمه طلابه القدامى بالاعتداء الجنسي والجسدي والنفسي، ودخل في “فترة من الاعتكاف والتأمل”، إلى أن توفي بعد ذلك بعامين.
الداكنيات.. الجواري اللائي يشبعن رغبات المعلم
عاش “لاكار” حياته وكأنه رجل غربي على ملامحه التبتيّة، وتخرج من كامبريدج، وظل يعيش في الغرب طيلة حياته، وفي إحدى اللقطات الأرشيفية نراه وهو يتحدث عن درايته واطلاعه وإلمامه بالثقافة الغربية، وأن ذلك الأمر كان أكثر ما يساعده في جلب الأتباع.
لقد كان “لاكار” مهوسا بالأتباع من الإناث، وتتحدث إحدى المتحدثات في الفيلم، وكانت يوما ما من تلامذته قبل أن يعتدي عليها، فتقول إنه كان يحيط سريره بمجموعة من الفتيات اللائي عرفن باسم “الداكنيات”، وكانت وظيفتهم أن يخدموا رغباته الرذيلة وحاجاته اليومية المعيشية.
أحاطت بـ”لاكار” اتهامات بالاعتداءات الجنسية على مدار حياته، كان قد بدأها منذ منتصف السبعينيات، وحتى أواخر 2010، حينما أشير إليه بأصابع الاتهام. وتحكي إحدى ضحاياه أنها واجهته بأن ما يفعله بهن إنما هو اغتصاب، وأنه هددها بأنها إذا تحدثت فستكسر الرابطة المقدسة بينها وبين المعلم، مما سيسبب لها الأذى وأهلها.
وترد قصة “لاكار” في الفيلم مثالا على ما يمكن أن يفعله رجل ديني بأتباعه، تحت تأثير الهوس والكاريزما، وبسبب تلك الاتهامات التي كانت تحاصره، فقد هرب في النهاية ومات في منفاه في بانكوك، ولم يحاكم على أفعاله.
“روبرت سباتز”.. عامل بسيط أصبح وحشا بشريا
كانت القضية الرئيسية المنوط بها “ريكاردو” هي محاكمة الراهب الأوروبي “روبرت سباتز”، وهو معلم البوذية التبتية البلجيكي، وهو الرجل الذي يطارده “ريكاردو”، ويتضح لنا دوره أكثر حين يتحدث عن “سباتز”، فهو يلعب دور المتحدث الرسمي في محاكمة “سباتز” باسم 23 فتاة اعتُدي عليهن داخل المجتمع البوذيّ الذي يقوده “سباتز”.
ربما لم يكن الاعتداءُ الجنسي الوحيدَ الذي حدث في مجتمع “سباتز”، فإحدى الشهود تقول في شهادتها: رأيت طفلا يلقى بشدة على الحائط والدماء تغطيه، وأنا تعرضت للصفع، وفتيات أخريات رأيتهن يُضربن ضربا مبرحا.
كان “سباتز” بداية حياته عاملا بسيطا في إصلاح الأجهزة التلفزيونية، لكن خلال موجة الهوس الهيبية في الستينيات، قضى 6 سنوات في دراسة البوذية التبتية بالهند، حتى منحه المعلمون سلطة فتح مراكز بوذية في أوروبا، وقد تردد على زيارة تلك المراكز كبار المعلمين، وكان يشهدون له بأنه معلم أصيل ومخلص.
أداة الشهوات.. نظرة المعلمين الدونية إلى المرأة
رسم “سباتز” صورة لأتباعه من النساء خصيصا، تجعله في مصاف الآلهة، فلقد كان واضحا في شرعنة اعتداءاته الجنسية على النساء، فقد أقنعهن أنه اختار الابتعاد عن النعيم في السماء والنزول إلى الأرض، ليتحمل كل تلك المآسي، ويعيش وسط البشر من أجل تنويرهم وإصلاحهم.
لذلك كان عليهن أن يتبعنه اتباعا أعمى، ليتحقق لهن ما يسمى بالصحوة، فأقنعهن باغتصابهن كي يتطهرن من الكارما الخبيثة، جزاء لهن عن جرمهم في حيواتهم السابقة التي كانوا فيها.
وتتضح من تعاملات “لاكار” و”سباتز” تلك الصورة الدونية التي ينظر بها المعلمون البوذيون إلى النساء، واتخاذهن أدوات للشهوة، رسالتها في الحياة إمتاع المعلم، فألبسوا الاغتصاب ثوب رابطة الإخلاص والولاء المقدسة.
غرامات وأحكام بالسجن في مهب الريح
في عام 2016، أي بعد مرور نحو 20 عاما على أول عملية تفتيش في “شاتو دي سوليه” من قبل سلطات تنفيذ القانون، أدين “سباتز” بتهمة اغتصاب الأطفال وأخذهم رهائن، وجرائم اقتصادية أخرى، ثم حُكم عليه بالسجن 4 سنوات مع وقف التنفيذ، ودفع أكثر من 4 ملايين يورو تعويضا.
ولكن تلك الأحكام المشددة خففت في عام 2019، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2022، حُكم عليه مرة أخرى بالسجن 5 سنوات مع وقف التنفيذ، ودفع غرامة قدرها 5500 يورو.
لقد كان “سباتز” سخيّا في تبرعاته للملاجئ التبتية بالهند، وذلك ما ساعده في قضيّته، فلم تتعاون المؤسسات التبتية في الهند مع جماعة “ريكاردو” في إدانة “سباتز”، فكما يذكر أحد المصادر في الفيلم: يبحث التبتيّون دائما عن الرعاة، فاقتصادهم قائم على التسول، لذلك كانت تبرعات المعلم “روبرت سباتز” السخية للأديرة والمؤسسات التبتية سببا في التستر عليه.
تبرعات سخية لشراء صمت المعلمين
رفضت المؤسسة الرئيسية في التبت التعاون مع “ريكاردو” في قضيّته التي يعدها ضد المعلم “سباتز”، فهم لاجئون لا يملكون مصادر للدخل، وإنما يعتمدون على مصادر للاجئين في الهند واللامات الأغنياء في الغرب.
وهذا ما يتضح في الفيلم في قضية دير “شيشين” في كاتماندو بالنيبال، فقد تبرع “سباتز” بمبلغ 100 ألف يورو عام 1995 إلى دير “شيشين” الذي يعد موطنا لـ”ماثيو ريكارد”، وهو راهب بوذي فرنسي من التبت، ومؤلف أكثر الكتب مبيعا عن البوذية والسعادة والحكمة والسعي إلى التنور، كما أنه من أشهر الشخصيات البوذية المعروفة.
يروي أحد الشهود في الفيلم -وكان عضوا في مجتمع “سباتز”- أن الراهب “ريكارد” أعطاه حقيبة تحتوي على وثائق اتهام ضد “سباتز”، ومع أن “ريكارد” شارك في مقابلة مدتها ساعتان مع صانعي الفيلم، فقد تراجع فيما بعد عن تلك المقابلة، في رسالة أرسلها محاموه.
ثم قال في منشور على مدونته إنه لم يكن يعلم باتهامات “سباتز”، وإن صانعي الفيلم الوثائقي كانوا مضللين في الغرض من المقابلة.
“أضفى الشرعية على أفعالهم”.. موقف “دالاي لاما”
يعد “دالاي لاما” الواجهة البشوشة السلمية لنضال البوذية التبتية، وكان موقفه من تلك الجرائم أحد القضايا التي يبحثها الفيلم، وقد تتبع تاريخه في التعامل مع تلك القضايا، فلقد زار “دالاي لاما” الراهب “سباتز”، وكانت علاقته بـ”سوغيال لاكار” وثيقة وأخوية.
تعود بنا المشاهد الأرشيفية إلى مارس/ آذار 1993، أيام لقاء “دالاي لاما” بالمعلمين البوذيين الغربيين، وقد استقبل يومئذ رسائل شكوى من نساء حول إساءة تنالهن، وأحاديث عن كثير من الفضائح الجنسية والأخلاقية.
ويحكي معلمون غربيون هم من مصادر الفيلم، أنه في نهاية ذلك الاجتماع اتفق “دالاي لاما” معهم على توقيع عريضة تدين تصرفات المعلمين والفضائح الأخلاقية، وهو اتفاق انسحب منه انسحابا غريبا وغير مبرر فجأة.
وفي ذات الاجتماع، لقي “دالاي لاما” معلمين اشتكوا من فضائح أخلاقية للمعلمين غير الطاهرين، ومنهم “سباتز” و”لاكار”، فأخبرهم أنهم إذا كشفوا له أسماءهم ومعابدهم فلن يزورهم مرة أخرى، فأخبروه ولكنه لم يفِ بطرفه من الوعد، وبذلك “أضفى الشرعية على أفعالهم” كما يقول المعلمون.
دبلوماسية التهرب من الاتهامات
بعد عقود من الاتهامات التي حاول “دالاي لاما” نفي مسؤوليته عنها، التقى أخيرا في سبتمبر/ أيلول 2018 في روتردام بهولندا، مع “ريكاردو” بطل القضية ضد “سباتز” ومعاونوه، وفي ذلك اللقاء طلبوا منه أن يفعل شيئا تجاه ما يحدث، فأخبرهم أنهم لا ينبغي أن يحمّلوه مسؤولية كل ذلك، فالمتورطون في هذا الأمر أكثرهم معلمون غربيّون.
وبتلك الطرق، حاول “دالاي لاما” كعادته دائما أن يبقى دبلوماسيا وعلى مساحة واحدة من الجميع، وهو الموقف الذي يأخذه عليه “ريكاردو” وغيره من المعلمين الغربيين في الفيلم.
في المشهد الختامي، يُحضر الفيلم راهبا تبتيا تلاحقه اتهامات يدعى “نامكا”، ويسمعه صناع الفيلم تسجيلا صوتيا لـ”دالاي لاما” يخطئ فيها أفعال “نامكا”، فيدافع “نامكا” قائلا: في البوذية، إذا أحبت المرأة معلمها فإنها تخبره بذلك، وهو يحدد الطريقة التي يعامل بها وطلباته منها، لكن الأمر ليس كذلك في الغرب، فالمرأة ستبحث من خلف ظهره عن طريق غير مباشر، وإذا لم تفلح فإنها ستذهب للقضاء، لا شك أنني ارتكبت عددا من الأخطاء في الغرب، بسبب عدم إلمامي بتلك الثقافة.
يلخص “نامكا” حالة التناقض التي يعرضها الفيلم، وما أدت إليه من امتهان للمرأة تحت مسمى الدين، حين يقول في تلك الكلمات الختامية: هناك كثير من الممارسات المختلفة في البوذية التبتية، وبعضها لا يتعارض مع القانون، بل يعود بفوائد كثيرة، ومن الضروري أن تُدرّس، لكن من ناحية أخرى فإن بعضها لا يتوافق مع روح العصر والمكان الذي نعيش فيه، ولا يتوافق مع التقاليد الغربية.