“تأشيرة إلى منفى الشمال”.. أجيال تائهة بين برزخ الوطن والمنفى

ثمة طبقة كثيفة من الغموض تحيط بالتاريخ الاستعماري في آسيا، فالمصادر التاريخية تذكر انطلاق السفن التجارية الهولندية بداية القرن السابع عشر نحو السواحل الإندونيسية، ولا همّ لها سوى جمع القدر الأكبر من التوابل الحارة، تلك المكونات الفريدة المذاق التي لا تدركها ألسنة هؤلاء المستعمرين الثلجية.

هذا ما نراه دائما، لكن ما يقبع وراء هذه السرديات المتعاقبة لا يزال مسكوتا عنه، وإن كانت آثاره ودلالته تتداول على المدى الزمني البعيد، فبعد تأسيس شركة الهند الشرقية الهولندية في المنطقة الجغرافية الواقعة في الجزر الإندونيسية، تدفقت أعداد لا حصر لها من المستعمرين والتجار، فكان ذلك فيما بعد سببا لتأسيس نظم سياسية موازية، تضاهي قوة الحكم المحلي الهش البنيان.

قد تبدو هذه المقدمة التاريخية لا طائل من ورائها، لكنها تشكل تمهيدا لا بد منه، لدخول مضمون الفيلم الوثائقي “تأشيرة إلى منفى الشمال”، وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية، وفكرة وسيناريو جابر بكر، وقد أخرجه السوري المرموق الفوز طنجور، وهو مخرج تبدو أفلامه مهمومة برصد العلاقة الجدلية بين الإنسان والمكان.

أجيال الجيش المولكاني في هولندا.. أسئلة الهوية والجذور

يلتقط الفيلم أربعة نماذج إنسانية، تنتمي جميعا إلى طائفة المولكان الإندونيسية، ممن هُجروا قسرا إلى الأراضي الهولندية، ولعل القارئ يتساءل عن سبب وجود هؤلاء في هذا الحيز البعيد عن أوطانهم.

الجواب محصور بين سياقات الماضي المتلاحقة، وهي تظهر استقبال هولندا –في خمسينيات القرن الماضي- للأفواج الباقية من الجيش المولكاني، الذي كان يدين بالولاء للتاج الهولندي، بعد سلسلة من النزاعات العرقية، قوامها البحث عن الاستقلال.

لقطة بانورامية للعاصمة الهولندية امستردام، وأدخنة المصانع تُضفي أجواء من الضبابية

ولأن توابع الزلازل التاريخية لا تطفو على سطح الأحداث دفعة واحدة، فإن تأثيرات هذه الموجات السياسية تشعبت وتمددت انعطافاتها، وصولا للجيل الحالي من المولكان، هذا الجيل الذي يحمل في نسيجه الداخلي إرثا لا ينضب من الألم الوجودي، مع أسئلة شتى عن الهوية والجذور، وعن الثمن العادل لأخطاء الماضي التي يبدو أنها لا تغتفر.

ينطلق الفيلم في رحلة إنسانية الصِبغة، لفهم وإدراك ماهية تلك التعبيرات الكبرى عن الحنين والوطن، وما يلازمهما من مشاعر قد تبدو أكثر التباسا، وتحتاج بلا شك إلى قراءة أخرى، توازي إشكالية التناول ذاته.

فسيفساء الصوت.. تقنية تجمع زوايا الحكاية المتعددة

يبدأ الفيلم مشاهده الأولى على وقع الموسيقى الكلاسيكية المصحوبة بمشاهد طبيعية، ثم يعرض لقطات من داخل أحد معسكرات الاعتقال الفارغة الآن من قاطنيها، وفي تلك الأثناء ينطلق شريط الصوت، فنسمع كلام امرأة تروي اللحظات الأولى من وصولها إلى هذا المكان.

وقد اعتمد السرد على إعادة التوظيف السينمائي لقاعدة تعدد الأصوات الأدبية، أو ما يطلق عليه “الرواة المتعددون”، فنحن أمام حكاية واحدة، لكنها ذات زوايا سردية أربع، وكل ضلع من هذه القصة يعنى به شخص يفصح عن جانب ما من القصة، وكلما توغلنا في السرد اتضحت عناصر الصورة أكثر.

جانب من معسكر الاعتقال النازي، الذي أودع فيه المولكان بعد وصولهم إلى هولندا

وفي هذا السياق، لا يصبح السرد أسيرا لوحدة زمنية واحدة، مع أنه ينطلق من واقعة أساسية، وهي لجوء القوات المولكانية إلى هولندا في خمسينيات القرن الماضي، لكنه في نفس الآن يلتقط بعين واعية باقي الأنسجة الزمنية المتشعبة.

ومن ثم لا يقف الفيلم أمام سردية جيل واحد فحسب، بل يمتد مجال الرؤية لما بعد ذلك، فالزمن هنا يعاد تدويره وصياغته، في توليفة تمزج بين الماضي السابق، والحاضر المضارع، فلا فرق كبير بينهما، حتى وإن تباعدت بينهما ظاهريا السبل الزمنية.

الأجيال الجديدة في متحف المولكان، يُلقنون بتاريخ أجدادهم

ومن أجل تحقيق التكامل الأمثل بين العناصر المتاحة، يجنح الأسلوب العام للفيلم نحو الحداثة، فيلجأ السرد في بلورة موضوعه إلى المزج بين السرد المسهب للأبطال الأربعة، وبين المشاهد الأرشيفية، لكنه لا يعتمد على التعليق الصوتي، بل يستبدله بالأصوات السردية المتباينة، فتتضافر جميعا في وحدة عضوية واحدة، تشكل في مجموعها البنية السردية التي يقوم عليها نسيج الفيلم.

أثقال الماضي الذي لا يموت.. شعب بين هويتين

يبدأ أبطال الفيلم سرد ما تيسر من الذكريات، سواء ما يتعلق مباشرة بأجدادهم الأوائل أو بالجيل الذي يليهم، فكل من هؤلاء له سردية ما، قد تتباين في الشكل الظاهري عن الآخر، لكنها تتفق في المضمون، ومن ثم يبدو الحضور الفعال للماضي رافدا أساسيا لفهم دوافع القضية، فالحاضر وحده لا يمنح تفسيرا كافيا.

حينها تصبح العودة بالزمن إلى الوراء أمرا حتميا، فيبدو الزمن المضارع وكأنه ليس إلا استعادة للماضي وأسئلته الشائكة، فالحقيقة أن الفيلم لا يقدم زمنا واحدا، بل ينتقل بحيوية بين زمنين، كل منهما وثيق الصلة بالآخر، فالمشاهد الأولية تنتمي إلى الحاضر، لكن ما هي إلا جسر عبور نحو ما هو أعمق، إلى باطن ماض موغل في البعد وقريب في نفس الآن.

المعارك والنزاعات الأهلية الإندونسية قبل وصول المولكان إلى هولندا

وفي هذا الإطار، نرى بعضا من المشاهد الأرشيفية، ترصد وصول الموجات الأولى من جنود الجيش المولكاني إلى هولندا، بعد نزاعات بينهم وبين القوى الوطنية آنذاك، ثم يرافقنا صوت “لويزا باريهالا” مديرة متحف معسكر الاعتقال، فتزيح الستار عما حدث.

فبعد وصول المولكان واستقرار أمورهم، جردت الحكومة الهولندية تلك القوات من الرتب العسكرية، فتحولت كينونة هؤلاء الرجال وأهاليهم من الوجود المرئي إلى الاندثار والتشظي، مما ترتب عليه سقوط هويتهم الإندونيسية والهولندية كذلك.

هكذا وقع الأمر في لمحة عين، وعند هذه النقطة بدأت الأزمة المولكانية، فالوقوف في المنتصف يشكل لب الأزمة وجوهر المعضلة، فالعودة إلى النقطة السابقة قبل الحرب الأهلية محال، والوصول إلى النقطة الأخرى في هذا الخط، أي الاعتراف الأوروبي الهولندي بالحقوق المولكانية، لا يعدو عن كونه خيط سراب، وبذلك أصبحت هذه العائلات ضحية وعود خارجية، لم ولن تنفذ أبدا.

“هيرمان ماسيلا”، أحد الأبطال يروي مأساة عائلته بعد وصولها إلى هولندا ومعاناته للإغتراب

هذه المعضلة الحساسة التي تقع بين رحى الخيانة الوطنية من جانب، وغدر الإنسانية من جانب آخر، تشكل رافدا رئيسيا في التماس مع معطيات الفيلم، وعندئذ يمكن إدراك القوة الكامنة للماضي، لاستيعاب كُنه ما حدث، ثم الوصول إلى صيغة تفاهمية تجاه الحاضر، الذي يتوالد تلقائيا من رحم هذا الزمن السابق.

عقبات على خرائط التيه والعزلة

مع تقدم السرد يكشف الأبطال الأربعة شيئا فشيئا عن قبسات حياتهم، وهي تبدو مغلفة بقدر لا بأس به من الغموض المكثف، فالعيش في معسكرات اللجوء زمنا طويلا ساهم بقدر أو بآخر في إضفاء طبقة من العزلة على الشخصيات.

تروي الناشطة الاجتماعية “بريندا سيوتيلا” أن جدها كان يتأمل النافذة سنوات، في انتظار شيء ما لا يدركه سواه، فقد كان شيء ما يعوق هؤلاء الأبطال وأجيالهم الأولى عن اكتمال اندماجهم وانصهارهم في نسيج المجتمع الجديد.

الأجداد يُعلمون الأحفاد تاريخهم السابق، خشية الإندثار

وهنا يواجهنا البطل الثالث “هيرمان ماسيلا” قائلا: عليك أن تثبت نفسك في كل مرة، نعيش في عام 2020، ومع ذلك يتوجب على المرء إثبات هويته.

يحيلنا ذلك تلقائيا إلى أزمة الهوية والعزلة التي يعاني منها المولكان، فمع أنهم حاولوا الانصهار في نسيج المجتمع المضيف، فما زالت روافد التاريخ والماضي تشكل عائقا وحاجزا خفيا، ناهيك عن النظرة المضادة نحوهم، وهي تساهم أيضا في مضاعفة هذا الإحساس بالوحدة والعزلة.

فإذا كانت معاناة هذا الشعب متوالية ومستمرة، حتى قبل انتقالهم القسري من مواطنهم الأصلية، فإن معدلات الاغتراب تزايدت باطراد بعد وصولهم إلى منفاهم الاختياري، وكأنهم في دائرة مفرغة من العزلة.

أحد أبطال الفيلم “جيمي ديكر”، يمارس الوشم التقليدي، حفاظاً على التراث المولكاني

وبنظرة بانورامية على الأبطال الأربعة، نلاحظ أن النمط المعيشي يبدو مغايرا مع التزامه بالشكلانية الغربية، فالحكايات المتداولة عن الماضي، وعن حلم العودة إلى الوطن، يشكلان ركنا أصيلا من هذه الحياة، فنرى “لوزيا بابريهالا” و”هيرمان ماسيلا” مع أحفادهما، ينقلان إليهم الأخبار المتوارثة عن تاريخهم السابق.

يتبدل ذلك التاريخ في بعض الأحيان، من سبب للفخر إلى ذريعة للعزلة والاغتراب، ولا يزال بتراثه الراكد يقاوم الغياب والاندثار عند بعض الناس، أما “بريندا سيوتيلا” و”جيمي ديكر أليفورو”، فقد اختارا الانزواء بعيدا عن هذا الماضي والعيش على الحافة، بعيدا عن صراعات الماضي ومشاحنات الحاضر، وهنا يصبح لهذه المراجعات الفكرية جدواها، وفاعليتها المؤكدة في رؤية أكثر بريقا.

أسارى الصمت الغاضب.. إرث يصنع معاناة الجيل الجديد

تنطلق الكاميرا في جولات مع أبطالها، فتحل ضيفة متلصصة داخل منازلهم، وتزيح ما توارى في العمق عن حياتهم، لكن ما يدفع إلى التأمل هو اكتفاء هؤلاء بقناعة الهامش، في مقابل سطوة المتن، فالعزلة تتضاعف تلقائيا مع الاغتراب، وهما يؤديان حتما إلى البقاء على الحافة.

وصول الموجات الأولى من المولكان إلى امستردام في عام 1951

يبدو كل فرد من الأبطال الأربعة مستكينا في البعد، وبذلك يظهر السرد العاصمة الهولندية أمستردام على غير المألوف، فتبدو بصورة قد تبدو معاكسة للصورة النمطية السائدة.

فالانشغال بالمكان في الفيلم الوثائقي لا يقل أهمية عن الأبطال، كل منهما يستمد أهميته من الآخر، وهنا في فيلمنا نلامس هذه الأهمية الثنائية، فنحن أمام مجموعة من البشر، دفعتهم تكتلات الظروف السياسية والتاريخية، إلى تبديل حيزهم المكاني، فأصبح الوجود ذاته موضع شك وتساؤل.

فالمكان هنا مراوغ ذو قدر لا بأس به من المقومات الشكلية، لكن ما يوازي هذه المقدرات على مستوى الاستقرار الداخلي، نجد أنه يقع تحت طائلة الخواء، ففي أحد المشاهد تفصح “لويزا باريهالا” عن تشبثها باسمها الآسيوي الأصلي داخل حدود المنزل، وأما في الخارج فاسمها الأوروبي هو صك الاعتراف الوجودي.

وعندئذ يمكن الوصول إلى لب الصراع الذي يعايشه أبطالنا، فإذا كان الجيل السابق اكتفى بالتواري صامتا، فإن الجيل اللاحق انطلق في التعبير الغاضب على الحكومة الهولندية في السبعينيات، وبين هذا الصمت والغضب المستعر، يقبع الجيل الحالي أسيرا للصمت الغاضب، فإرث الألم متدفق، وسينال من الجميع، كل بما يناسب حصته المنتظرة.

السيدة “لويزا باريهالا” تروي ذكريات وصولها إلى هولندا في خمسينيات القرن الماضي

تدور الفكرة العامة للصراع هنا في إناء الحق في الوجود، والرغبة في استمرار وتدفق الحياة، لكن تلك التركيبة المعقدة من العوائق الخارجية والداخلية، تمثل قوى مضادة أمام استكمال ديمومة الحياة، فالجميع يفتقد الإحساس الأصيل بالأمان، الذي يتوالد تلقائيا من الوجود في الوطن، لكن السلطة هنا للهامش الخالي دائما من المحفزات الآمنة، وعندها يمكن إدراك مغزى تعاظم الشعور العام بالاغتراب والعزلة.

الدلالات الرمزية.. جداريات فنية تزين أرجاء الحكاية

تتوالى المشاهد وتتعاقب وفق إيقاع سلس متدفق، لا يحوي لقطة زائدة ولا أخرى ناقصة، مما يكشف عن حرفية إخراجية، تمكنت بمهارة من صياغة هذا الموضوع الحساس، في قالب شاعري جذاب، تتكامل فيه عناصر شريط الصوت مع شريط الصورة المحمل باللمسات الرمزية رائقة المحتوى.

لمسات تدعم المعنى العام للفيلم، وتضفي عليه أبعادا أكثر حساسية، وتدفع كذلك إلى التأمل والتفكير وقراءة ما وراء السطور، فالتلميح أكثر قوة من التصريح، كالمشاهد التي تقتنص العلاقة بين الطيور والأغصان وجذوع الأشجار المجردة من أوراقها، فهي تتماس مع حياة الأبطال، فالطيور الباحثة عن ما يستر كيانها ويلملم شتات أرواحها، تبدو معادلا دراميا لأبطال الفيلم الباحثين عن ما يقيل عثرة نفوسهم المدثرة بالألم.

السيدة “بريندا اسيوثيلا” تتذكر غضبها المحموم من أجدادها والهولندين على حد السواء

وفي سياق مماثل يقول الشاعر محمود درويش في معرض حديثه عن الوطن:

وطني ليسَ حُزمةً من حكايا
ليسَ ذِكرى أو قِصةً أو نَشيدا

لكن يا ترى ما هو التعريف المثالي للوطن؟

جانب من المظاهرات ضد الحكومة الهولندية في الماضي احتجاجا على المعاملة السيئة للمولكان

ليس لدى أبطال الفيلم مرادف جامع مانع لهذه اللفظة الواسعة المدى، لكن الرغبة في العودة إلى الجذور الأولى، تشكل الهاجس الأكبر الذي يدورون في فلكه بمحبة خاشعة، بحثا عن طيف سَكينة عابرة يأبى الإقامة والاستقرار، وكم من مشاعر مراوغة ترتدي رداء الهادئ المستكين، وفيضها يرتحل إلى الشاطئ الآخر.


إعلان