“ألعاب الجوع”.. رحلة من قهر الطاغية إلى دفع أثمان الثورة العادلة
بين غزة التي تُجوّع وتباد على مرأى ومسمع من العالم اليوم، وبين العراق الذي جوّع منذ عام 1990، ثم احتُل في نهاية الأمر عام 2003، تعيد سلسلة “ألعاب الجوع” (Hunger Games) مشهدا عالميا ألهم الكاتبة الروائية الأمريكية “سوزان كولينز” بسلسلة روايات.
حولت تلك الروايات فيما بعد إلى 4 أفلام تحمل من المتعة والترفيه ما تحمل من الوعي البائس بوحشية الكائن البشري، وتعيد التأكيد على قدرة الجائعين والمقهورين المدهشة لنصرة قضيتهم بشروط أو دروس محددة، وهي القدرة على دفع ثمن النصر، والاتحاد وعدم التفكك، والقدرة على تحييد الإعلام أو السيطرة عليه، ثم وجود قيادة مخلصة وملهمة للمقاومة.
تكشف المفارقة المدهشة عن نفسها في السطور الأولى التي تظهر على الشاشة، لتقديم الفيلم الأول “ألعاب الجوع” (2012)، فتفسر ظهور ذلك التقليد السنوي لمباريات المصارعة بين الشباب من ممثلي قطاعات الدولة، ويقول التعليق الظاهر على الشاشة إن ظهور ذلك التقليد جاء عقابا لشعب الإمبراطورية على ثورته في وجه حكامه.
صدرت السلسلة الروائية بين عامي 2008-2010، وحمل أوّل جزء منها عنوان “مباريات الجوع”، وتبعه جزء “الاشتعال”، ثم خُتِمت السلسلة بـ”الطائر المقلد”.
وفي السينما صدرت بالترتيب التالي؛ “ألعاب الجوع” عام 2012، ثم “ألسنة اللهب” (Catching Fire) عام 2013، وتلاه “الطائر المقلد” (Mockingjay) عام 2014، ثم جزؤه الثاني المكمل له عام 2015، وآخرها “أنشودة الطيور المغردة والثعابين” (The Ballad of Songbirds & Snakes) عام 2023.
تقوم حبكة الرواية وأفلامها على العقاب الذي يفرضه الطاغية على الأمة البائسة “بانيم” بعد ثورتها الفاشلة عليه، وهي تشكل إمبراطورية مقسمة إلى 12 منطقة، ويتلخص العقاب في اختيار اثنين من أبناء المقاطعات، وهما صبي وفتاة تتراوح أعمارهما بين 12-18 عاما من كل منطقة، للقتال حتى الموت في ألعاب الجوع السنوية، حتى لا يبقى حيا إلا واحد منهما.
“ألعاب الجوع”.. شعب يدفع أثمان ثورته الفاشلة
يصور الجزء الأول من السلسلة شعب “بانيم” وقد بدا راضيا بقدره البائس، محاولا في الوقت ذاته البحث عن سبل لإيجاد الطعام، بعد أن دفعته السلطة إلى حافة الموت جوعا، تبعا لمقولة “جوّع كلبك يتبعك”.
تحاول البطلة الصغيرة “كاتنيس” (الممثلة جنيفر لورانس) ممارسة الصيد في الغابة القريبة، فتلتقي مصادفة بصديقها الذي كان محظوظا بإيجاد رغيف أهدى نصفه لها، فكانت هدية غالية، وهو مجاز سينمائي يشير إلى ندرة الطعام، بقدر ما يشير إلى الكفاح لإيجاد الطعام والرضا بالذل بديلا للثورة الفاشلة.
يقدم الفيلم درسه الأول بتأكيده على قدرة التضامن والاتحاد على تحقيق النصر، فقد كانت المقاطعات منقسمة ومضطهدة من قبل السلطة وممثليها، ومع ذلك فعندما أظهر المقاتلان “كاتنيس” و”بيتا ميلارك” التضامن والوحدة، فإن ذلك يشعل الأمل والتمرد في جميع أنحاء المقاطعات.
التوت السام.. تضحية بالنفس بدل الخضوع لظلم السلطة
كان ذلك التضامن تصريحا واضح المفردات والمعنى، وتأكيدا لفكرة الفداء التي بدأ بها الفيلم، حين قررت “كاتنيس” افتداء أختها الصغيرة والقتال بدلا منها، ويلخص مشهد التحدي الفكرة، إذ يقرر “كاتنيس” و”بيتا” أكل التوت السام معا بدلا من قتل بعضهما، ويُظهر هذا تضامنهما واستعدادهما للتضحية بأنفسهما، بدلا من الامتثال لمطالب السلطة.
ويُعد تجسيد “جينيفر لورانس” لشخصية “كاتنيس” من العناصر البارزة في الفيلم، فقد استطاعت بمرونة أدائها تصوير ضعفها وتعقيدها الأخلاقي، وهو ما جعلها بطلة مقنعة، ودفع بالداء في شرايين الشخصية المكتوبة، لتصبح من لحم ودم لا مجرد فكرة.
وقدم “جوش هاتشرسون” في دور “بيتا ميلارك” و”وودي هارلسون” في دور “هايميتش أبيرناثي” أداء داعما قويا يضيف عمقا لشخصياتهم. ومع ذلك، فإن العمل يعاني من الأزمة التي يعاني منها أغلب الأفلام، فلم يهتم صناعه ببناء الشخصيات الثانوية، مثل “غيل” (الممثل ليام همسورث)، وهو أقرب أصدقاء “كاتنيس”، وكان هذا ظاهرا في أداء الممثل، وهو ما أثر في السرد الفيلمي.
تصوير التفاوت بين عالم الأثرياء وعامة الشعب
مما يحسب لصناع العمل تقديمه في ذلك التوقيت، إذ جاء ليكون سخرية مريرة من صرعة تلفزيون الواقع التي أنتجت أعمالا تعد مسخا مشوها بين الكذب المتفق عليه في الإبداع البصري الدرامي، وبين الكذب والافتعال في واقع يعلم المشاركون فيه أنهم أمام كاميرات.
كان فيلم “ألعاب الجوع” أيضا اقتحاما جريئا ومتميزا لمساحات سيطرة السلطات الدكتاتورية الصريحة أو المقنعة، وأدواتها في السيطرة على الشعوب، وهو ما يفسر نجاحه في العالم كله، وخاصة العالم العربي الذي كان في ربيعه الثوري.
وقد استطاع المخرج “غاري روس” تصوير ذلك التفاوت المرعب بين حياة الأثرياء والقادة والزعماء من جهة، وباقي الشعب من جهة أخرى، مبررا بذلك أسباب سعي الأبطال للخلاص فيما بعد. وقد صوّر المقاطعة 12 التي جاء منها البطلان “كاتنيس” و”بيتا” مكانا فقيرا بائسا، في مقابل مقاطعة نواب الشعب المتألقة، ويبرز تصميم الأزياء -وخاصة أزياء الأثرياء وأصحاب السلطة- تلك الفجوة الثقافية والاقتصادية بين العالمين.
وجاء استخدام الكاميرا المهتزة ليصور حجم الفوضى ويصور القوة، لكنه تسبب أيضا في ارتباك المُشاهد، والحد من استمتاعه بالمَشاهد، وهي المفارقة الدائمة بين الحقيقة بمراراتها وبين الزيف بأناقته المعهودة.
“الاشتعال”.. رمز ملهم للتمرد والأمل والمقاومة
أغرى النجاح الكبير الذي حققه الجزء الأول صناع العمل بالإسراع لتقديم الجزء الثاني عام 2013، تحت اسم “ألعاب الجوع.. الاشتعال” (The Hunger Games: Catching Fire)، وقد أخرجه هذه المرة “فرنسيس لوران”.
وكان من الطبيعي بعد الشعبية التي حققتها “كاتنيس” أن تصبح رمزا ملهما لمن خطرت بباله فكرة المقاومة في إمبراطورية “بانيم”، ولذلك فإن الدرس الثاني في سلسلة ألعاب الجوع هو وجود زعيم ملهم للجماهير لقتال النظام القمعي.
وقد استطاع مخرج العمل أن يقدم مشهد تحول البطلة إلى رمز تقديما مذهلا، فقد ظهرت في الحلبة وهي تلبس زي الطائر، في حين تتابعها الكاميرا من زاوية منخفضة وفي حالة دوران حولها، فتظهر أعلى من كل ما يحيط بها، وتصبح في هذه اللحظة رمزا حيا للتمرد، وتؤكد أفعالها كونها رمزا للأمل والمقاومة، مثل إطلاق السهم في حقل القوة، مما يلهم الآخرين الانضمام إلى المقاومة.
مواجهة المنتصرين.. صراع شخصي وسعي لإخماد التمرد
يبدأ الفيلم الثاني من حيث انتهى الأول، فتعود “كاتنيس” و”بيتا ميلارك” إلى المقاطعة 12 منتصرين في ألعاب الجوع الـ74، ومع ذلك فإن انتصارهما لم يدم طويلا، فالرئيس “سنو” (الممثل دونالد ساذرلاند) يسعى إلى إخماد التمرد الناشئ الذي أشعلاه عن غير قصد.
ويتعامل مع إيقاع الفيلم ببراعة، مع تراكم تدريجي للتوتر، يؤدي إلى الإعلان عن نسخة خاصة من ألعاب الجوع، تضع المنتصرين السابقين في مواجهة بعضهم، وينتقل السرد بسلاسة بين الصراعات الشخصية والاضطرابات الاجتماعية والسياسية الكبرى، مما يحافظ على قصة متماسكة.
وقدمت “جينيفر لورانس” أداء جيدا للمرة الثانية، وجسدت صراع “كاتنيس” الداخلي، وصورت قدرتها على الصمود، وصراعها مع كُرب ما بعد الصدمة، وبرز دور “جوش هاتشرسون” في دور “بيتا ميلارك” بشكل أكبر، حيث يظهر قوته وولائه وعلاقته المتنامية مع “كاتنيس”.
تناول جريء وتفوّق في مشاهد الحركة
بدا أن نجاح الفيلم الأول دفع كاتب السيناريو “سيمون بوفوي” وزملاءه إلى تناول الموضوعات المعقدة بشكل أكثر جرأة، ومنها المقاومة والتضحية والتأثير المفسد للسلطة.
يستكشف الفيلم أيضا أثر الألعاب نفسيا وعاطفيا على المشاركين فيها، ويظهر ذلك في مشاهد الكوابيس التي تطارد “كاتنيس”، وفي المقابل يستعرض إسراف السلطة وقسوتها جنبا إلى جنب مع معاناة المقاطعات.
ويلقي الفيلم الضوء على أوجه عدم المساواة والظلم الصارخة في “بانيم”، كما يرصد هذا الجزء أيضا تحقق شرط التضامن والوحدة، وذلك في التحالفات التي تشكلت في ميدان القتال.
تفوق الجزء الثاني من “ألعاب الجوع” في إتقان مشاهد الحركة والقتال، ولا سيما الفخاخ والعوائق القاتلة في الحلبة، بما في ذلك الضباب السام والقرود الشرسة. وقدم المخرج توازنا مذهلا بين مشاهد القتال والتوتر من جهة، وبين المشاهد الهادئة التي تعتمد على الشخصيات، وهو ما جعل العمل قصة حقيقية، لا مجرد استعراض لمشاهد القتال.
“الطائر المقلد 1”.. سلاح الدعاية الثورية في وجه النظام
صدر الجزء الأول من الفيلم الثالث عام 2014، تحت اسم “ألعاب الجوع.. الطائر المقلد 1” (The Hunger Games: Mockingjay – Part 1)، للمخرج “فرانسيس لورانس”، ويتناول هذا الجزء استخدام النظام الحاكم والمتمردين للدعاية.
تُستخدم “دعاية كاتنيس” لحشد المناطق ومواجهة رواية النظام، ويظهر الفيلم أن وسائل الإعلام قد تكون أداة قوية للتأثير في الرأي العام وتعبئة الناس.
وفي تطبيق مباشر لدرس الدعاية الثورية، أنشأ المتمردون مؤسسة “بروبوس” (أشرطة فيديو دعائية)، تظهر فيها “كاتنيس”، وتُستخدم هذه الفيديوهات لإلهام المقاطعات وتعبئتها للتمرد على النظام، وتُظهر فعالية هذه المقاطع الدعائية في حشد الدعم قوة وسائل الإعلام في تشكيل الإدراك والرأي العام.
في بداية الجزء الثالث نرى “كاتنيس” وهي تتعافى في معقل المقاطعة 13 تحت الأرض بعد إنقاذها، وتسعى الرئيسة “كوين” (الممثلة جوليان مور) وصانع الألعاب “بلوتارش هافينسبي” (الممثل فيليب سيمور هوفمان) إلى اتخاذها رمزا للتمرد ضد السلطة.
لعبة الدعاية.. سعي السلطة والمتمردين لصناعة الرأي العام
يركز السرد على الاستخدام الإستراتيجي لوسائل الإعلام والدعاية، لإلهام المناطق المضطهدة، وكان الإيقاع أبطأ مقارنة بالأفلام السابقة، لكن هذا النهج سمح باستكشاف أعمق للمكائد السياسية والتعقيدات العاطفية لدى الشخصيات.
تتألق “جينيفر لورانس” مرة أخرى في دور “كاتنيس إيفردين”، وتجسد غضبها وضعفها وهي تتصارع مع دورها الجديد “الطائر المحاكي”، وتتحمل أثمانا غالية للحرب، وتضحي من أجل شعبها.
يتفوق ضيوف الشرف في أدوارهم هذه المرة، خاصة “جوليان مور” في دور الرئيسة “كوين” الصارم والواقعي، و”فيليب سيمور هوفمان” في دور “بلوتارش هافينسبي” الماكر والإستراتيجي.
ويضيف “وودي هارلسون” في دور “هايميتش أبيرناثي” و”إليزابيث بانكس” في دور “إيفي ترينكيت”، و”ليام هيمسورث” في دور “غيل هاوثورن” عمقا لشخصياتهم، ويبدو أن “ليام” قد تمرس في الأداء بعد اتساع مساحة دوره، مما يسلط الضوء على الأخطار الشخصية والمعضلات الأخلاقية التي يواجهها المشاركون في التمرد.
وفي تناقض صارخ مع الأجزاء السابقة، يقدم “الطائر المحاكي” العالم السفلي للمقاطعة 13، وهو عالم قاتم ونفعي، ويثبت قسوة الواقع، وأن الاستعباد يخرج أسوأ ما في البشر غالبا.
ويجسد التصوير السينمائي كآبة المناطق التي مزقتها الحرب والأجواء القمعية في ردهات السلطة، كما يعزز استخدام لوحات الألوان الصامتة والمؤثرات العملية نبرة الفيلم الكئيبة والواقعية.
“الطائر المحاكي 2”.. غوص في فلسفة الحرب وكلفة القضايا العادلة
كان الجزء الرابع من “ألعاب الجوع” قاسيا بقدر ما هو واضح للعيان، وهو الاستعداد لدفع الأثمان والتضحية، فمع أن الحرب التهمت ملايين الضحايا عبر التاريخ، فإن الإنسان ما زال مولعا بالخوض في الدماء.
يخوض فيلم “ألعاب الجوع.. الطائر المحاكي2” (The Hunger Games: Mockingjay – Part 2)، للمخرج “فرنسيس لورنس”، في التعقيدات والغموض الأخلاقي للحرب، ويبرز أن القتال من أجل قضية عادلة ترافقه تضحيات كبيرة وعواقب غير مقصودة.
ولعل مشهد الهجوم على مبنى القيادة وما صحبه من خسائر مادية وضحايا يرصد الخسائر والمعضلات الأخلاقية التي واجهها الثوار، كما تظهر المواجهة بين “كاتنيس” وبين “كوين” حقائق جديدة، تثير جدلا أخلاقيا حول الفرق بين الطرفين، وذلك حين تدرك “كاتنيس” أن “كوين” لا تختلف كثيرا في أساليبها عن الدكتاتور “سنو”، نظرا لطبيعة السلطة المعقدة والتحديات الأخلاقية للصراعات الحربية.
“بيتا ميلارك”.. غسيل دماغ يفسد الصديق القديم
يبدأ الجزء الرابع الأخير من السلسلة حين تتعافى “كاتنيس” من هجوم صديقها القديم “بيتا ميلارك”، بعدما خضع لغسيل دماغ، ومع اشتداد التمرد تشرع “كاتنيس” في مهمة لاغتيال الرئيس “سنو” وإنهاء حكمه المستبد.
تدور الحبكة في إطار من الإثارة والحرب الإستراتيجية عالية الخطر، مما يؤدي إلى المواجهة النهائية في قلب مبنى القيادة، ويتسم إيقاع الفيلم بالسرعة، ويوازن بين لحظات القتال العنيف والمشاهد الهادئة المعتمدة على الشخصيات التي تستكشف الخسائر العاطفية والنفسية للصراع.
وقد اتسم أداء الممثلين بالعمق، وإتاحة مساحات للتأمل في سياق حساب الخسارات المتعاقبة الناتجة عن الصراع الدموي، فضلا عن محاولات التعافي من الصدمات المتوالية.
أعباء القتال في سبيل العدالة.. تكلفة باهظة
يدرس الفيلم عواقب العنف والمعضلات الأخلاقية التي يواجهها أولئك الذين يقاتلون من أجل العدالة، كما تعكس رحلة “كاتنيس” التكلفة الشخصية للتمرد، فتتصارع مع الخسارة والصدمة وعبء القيادة.
يستكشف الفيلم أيضا الطبيعة الدورية للسلطة، وإمكانية أن تصبح الأنظمة الجديدة فاسدة، مثل الأنظمة التي تحل محلها، لا سيما من خلال شخصية الرئيسة “كوين”.
ترسم خريطة الدروس أو المبادئ الأربعة في السلسلة الروائية والفيلمية الطريقَ الوعر للخلاص من الاحتلال أو من الدكتاتور أو الاثنين معا، وسواء كان التجويع عقابا على ثورة فاشلة أو حلما بالتحرر من الاحتلال، فإن ما قدم في السلسلة من جهد سينمائي وقدم على أنه خيال، جاء مطابقا للواقع بأكثر مما توقع صانعوه، سواء على مستوى بناء الشخصيات، أو الصراع الدرامي بين شتى الأطراف.