“بوميرانغ” ..حكايات ذاتية من مجتمع مأزوم

“بوميرانغ” (Boomerang) فيلم إيراني جديد، يتوزع زمنه بين بشارات الحب الأول لمراهقين إيرانيين، ونهاية حزينة لعلاقة زواج طويلة، وهو من عمل المخرج “شهاب فتوحي”، وقد عُرض في الدورة الـ81 من مهرجان البندقية السينمائي المنعقدة ما بين 28 أغسطس/ آب إلى 7 سبتمبر/ أيلول 2024.

يدور الفيلم حول قصة عائلية إيرانية، لكن -كالعادة- لا تكتفي الأفلام الإيرانية بقصص الأفراد الذاتية، فهناك دائما في الخلفية إشارات لهذا البلد، فتكون حيوات الشخصيات ومصائرها في جزء منها صدى أو مرآة لما يجري في إيران.

تستأثر الأفلام الإيرانية الحديثة بانتباه كبير، وخاصة تلك التي تصل إلى المهرجانات العالمية، وذلك لأسباب عدة، يرتبط بعضها بتوقعاتنا الكبيرة من السينما الإيرانية ذات المكانة الرفيعة منذ عقود، وبسبب فضول الكثيرين حول ما يجري في إيران، سواء على صعيد الصناعة السينمائية، أو ما تعرضه هذه الأفلام من واقع إيراني متغير.

ويمثل حديث هذه السينما فرصة لتتبع المواهب الجديدة لدى محبي السينما الإيرانية ومتابعيها، لا سيما أن بعض الأسماء اللامعة التي نعرفها من هذه السينما بدأت تهجر الصناعة هناك، وهو ما يحدث أحيانا في ظروف مأساوية للغاية.

ملصق الفيلم الدعائي

هذا الفيلم هو باكورة أعمال المخرج شهاب فتوحي، وهو قادم من عالم الفن التشكيلي الحديث، ويعد ذلك كسرا لتقاليد سينمائية إيرانية، حيث يمكن بالعادة تتبع سير المخرجين الإيرانيين الشباب من أفلامهم القصيرة السابقة، أو عملهم في الماضي مع مخرجين كبار، والمعاهد السينمائية التي درسوا فيها في إيران.

ينحاز المخرج في فيلمه الأول للصور السينمائية، وقد بدا بعضها خيالات في ذهن المخرج، ويقابل ذلك اقتصاد كبير في القصة والتفاصيل الدرامية، فالمخرج لا يهتم بخلفيات مطولة عن أبطاله، بل يضعها في تشكيلات صورية بليغة وساحرة أحيانا، وهذا سيكون كافيا في مواضع لفهم دوافعهم، وكيف وصلت لما وصلت إليه، ونضجهم العاطفي، والآلام التي تحملوها، وقد فاقت أحيانا قدرتهم على التحمل.

مزيج الجدية والمزاح.. أحاديث اللقاء الأول بين مراهقين

يفتتح الفيلم وقته بمشاهد مربكة من فتاة وصبي كانا يسيران في أحد شوارع إيران. لم تجذب الكاميرات انتباه الناس في الشوارع، ربما بسبب عدم شهرة الممثلين الشابين، والتصوير بكاميرات صغيرة.

في كل الأحوال، كانت تلك المشاهد نابضة بحياة الشارع الإيراني، بيد أنها لم تكن تحمل قسوة الشارع نفسه التي شاهدناها مثلا في أفلام المخرج جعفر بناهي، وهي الشوارع ذاتها، لكن هذه المرة بعدسة فنان له نظرته ومشروعه الفني.

مشهد لمراهقين في إيران

تقود تلك المشاهد الخارجية إلى لقاء بطلي الفيلم، وبعد اللقاء الأول تنسحب الكاميرا قليلا، وتصورهما في مشاهد بعيدة وهما ينطلقان في جولة لاستكشاف المدينة. ومرة أخرى تبدو مشاهد المراهقين قريبة من عالم الفن التشكيلي، بأساليبها الفنية اللافتة، وبحثها عن جماليات مميزة في الشارع الإيراني المزدحم.

تسأل الفتاة الفتى وقد تعرفت عليه للتو: هل حاولت قتل نفسك؟

وقد بدا أن السؤال لم يفاجئه، فرد قائلا: لا لم أفعل.

غلفت هواجس عمر المراهقة أحاديث اللقاء الأول بين بطلي الفيلم، وكانت متنوعة تنتقل من الجدية الشديدة إلى المزاح والاقتراب من عوالم المراهقين، وما يشغل هذه الفئة العمرية في بلد مثل إيران.

مائدة الطعام.. أحاديث تفتقد للحميمية الزوجية

عندما ينتقل المخرج إلى والدي الفتاة، تتبدل مناخات الفيلم إلى القتامة، فتبدو الطاقة التي راكمها المخرج في مشاهد المراهقين تتضاءل تدريجيا في مشاهد البالغين، فيحل محلها الاختناق والوحدة.

وحين تصل الأم إلى بيتها تدخله ثم تعود وتخرج منه، وكأن المخرج يبين أن الشخصية تعيش أزمة، فأداء الممثلة نفسه يكشف عن توتر لم تعد قادرة على إخفائه.

حدثت أحداث كثيرة خارج زمن الفيلم، ولم يكن يسعى للمرور بكل المحطات التي مر بها أبطاله ولا سيما البالغون، فهو يتركنا نكمل التفاصيل الغائبة.

لا تعقّد الأحداث الغائبة عن الشاشة فهم عالم حكايات الفيلم، فما نراه على الشاشة بدا كافيا ومرضيا إلى حد كبير، لتتبع ألم الشخصيات ورحلاتها، والخيارات التي تواجهها.

فعندما تعود الأم إلى بيتها، يكاشفها زوجها بأنه عرف أنها دخلت البيت دقائق، ثم تركته مرة أخرى، ومن حسن الحظ أن تلك المكاشفة لم تتمخض عن شجار، بل جلسا على المائدة وتحدثا عن تفاصيلهما اليومية.

بدا الوالدان وكأنهما في راحة من أزمات سابقة بينهما، ولم تفارقهما تماما تلك الحميمية التي تميز العلاقات الطويلة بين الأزواج، بيد أنهما فقدا أمرا مهما في علاقتهما، وسيتعاظم مع الزمن.

بكاء على أطلال حب قديم

يختار الفيلم أن يركز على اليومي والعادي في حياة أبطاله، فلا يذهب إلى تلك المواجهات المفصلية التي يفضلها أغلب المخرجين. ومن خلال المشاهد اليومية نراقب أزمات الأبطال، فنراها تشتد وتكبر مثل كرات الثلج المتدحرجة من ارتفاع.

ففي واحد من مشاهد الفيلم الطويلة، نرى الأب وهو ينتظر دوره لطلب وجبة سريعة، ثم نسمع بعض الشباب يتطرقون لقضايا الهجرة وتردي الأوضاع، وكان الأب يراقب شابين إيرانيين يجادلان صاحب المطعم وهو شيخ متقدم بالسن، ثم يفصل ما بين المتجادلين جيلان من العمر والتجارب، بيد أن النقاش كان طازجا وحادا، وغطته طبقة من الحزن والحنين، طبعت الفيلم كله.

الأب وحبيبته القديمة يستذكران تاريخ حبهما

ولعل مشهد الأب مع المرأة التي كانت خليلته قبل الزواج، هو أحد المشاهد الدرامية الكبيرة، وتحول على صعيد الأسلوبية الشاعرية للفيلم، فقد كانت ترتكز حتى ذلك الحين على تصوير الحياة اليومية، لكن حتى في ذلك المشهد كان أسلوب المخرج واضحا وحاسما، ويميل إلى التكثيف والترميز والابتعاد عن التطويل.

يمر الأب بسيارته على مكان عمل حبيبته السابقة، ويطلب منها أن تركب معه، وعندما يتوقفان يبدأ واحد من أكثر مشاهد الفيلم حزنا، فيقلّبان بحذر أحداثا وقعت في الماضي، ولا يعاتبان بعضهما، بل يتبادلان بعض العبارات التي تقترب من الشعر.

لم يعد للكلام معنى، فقد مرت على تلك العلاقة أحداث كثيرة، منها زواج البطل، وعندما يتوقف الكلام يغنيان أغنية لحياتهما السابقة، وحبهما الذي لا يمكن استعادته.

نقطة مفصلية في علاقة محتضرة

تزداد جرعة القتامة في الربع الأخير من الفيلم، كما تنسحب تدريجيا مشاهد قصة المراهقين، وتترك المجال لقصة البالغين التي بدا أنها وصلت إلى نقطة مفصلية حاسمة.

الأم على أعتاب الانفصال عن زوجها

بين ظلام صالة جلوس المنزل، وضوء الشارع في الخارج، كانت الشخصيتان على حافة جديدة من حياتهما، وقد كثفها المخرج بترميز عالٍ. وهذا سيكون عليه الحال في مشهد الأب الشاعري، وهو يسير وحده في قرب أدغال بحيرة.

كان الأب يتلمس طريقه بحذر بين الأعشاب الطويلة، في جولة بدت بلا هدف واضح، إلى أن يأتي المشهد الختامي، ويبين -بدون شرح موجه لنا نحن المشاهدين- مصائر الشخصيات.

شاعرية الحياة العادية.. رحلة في إيران التي تحسب أنك تعرفها

ينسج المخرج عملا شاعريا متميزا، بل يمكن تصنيفه إضافة معتبرة للسينما الإيرانية الحديثة، ودليلا جديدا على قدرتها الدائمة على هزّ صورتها، والبحث عن أنماط جديدة مبدعة، لرواية قصص الإيرانيين والبلد.

لا يحيد المخرج في عمله العنيد عن الأسلوبية الشاعرية، ويضع خبراته السابقة في الفن التشكيلي داخل البناءات الجمالية للفيلم، وينجح في كل ذلك نجاحا كبيرا.

مراهقون في حفل مسائي

كما يأخذنا في رحلة داخل إيران التي نحسب أننا نعرفها من خلال أفلام سابقيه من المخرجين الإيرانيين، بيد أن إيران هذا الفيلم هي إيران مخلتفة، إيران التي تقترب من الحلم، ونتقرب منها ومن عوالمها عن طريق تجارب وتقاطع شخصيات الفيلم مع بعضها ومع المحيط، وتأملاتها في الحياة حولها.

خلع الحجاب.. ظاهرة جديدة في السينما الإيرانية

يتركنا الفيلم أحيانا مع مشاهد طويلة خالية من الحوارات التقليدية بين الشخصيات ذاتها، مثل مشاهد الحفلة التي نظمها المراهقون مع أصدقائهم، فقد كانت الكاميرا تتنقل بينهم محتفلة بتلك الطاقة الشابة التي تتصاعد ثم تتضاءل على هامش الحياة في إيران.

وكذلك المشهد الآخر الذي يصور شراء البطل زهورا من محل عام، ثم سرقة الزهور من قبل فتاة وشاب كانا على دراجة نارية، وكأنها نبوءة بما سيحدث لاحقا في حكاية البطل.

ويكرس الفيلم أيضا ظاهرة جديدة في السينما الإيرانية الحديثة، فقد اختارت بعض ممثلاته عدم وضع الحجاب في المشاهد المنزلية، وهو أمر يحاسب عليه القانون الإيراني، بيد أن بعض الممثلات قررن أن يغامرن بمواجهة عقوبة السجن، وأن يخلعن الحجاب في البيت.

وليس هذا الخيار إلا انعكاسا لما يجري في الشارع الإيراني، حيث تُقبل نساء كثر في المدن الكبيرة على خلع الحجاب، مع أن عقوبة ذلك ما زالت تحوم فوق رؤوس الفاعلات.


إعلان