“أبي لم يمت”.. سنوات الرصاص بعيون طفل مغربي أخرس
في فيلمه “أبي لم يمت”، يحقق المخرج المغربي عادل الفاضلي معادلة صعبة، تجمع بين جماليات الاشتغال السينمائي، وبين جدية الموضوع الذي يتناول مرحلة خطيرة من تاريخ بلده، غابت فيها الحريات، وبسبب قمع السلطة يومئذ أزهقت أرواح كثيرة، وزج بآلاف الأبرياء في السجون، ولهذا كان لا بد من مراجعتها سينمائيا.
بدأ عرض الفيلم عام 2023، وقد حصد الجائزة الكبرى في الدورة الـ23 للمهرجان الوطني للفيلم في طنجة، وقد اشترك مخرجه عادل الفاضلي في كتابة السيناريو مع “ألكسيس كارو”.
ينقل الفاضلي في الفيلم رؤيته لتلك المرحلة التي سميت “سنوات الرصاص” بعيون طفل مغربي، يستكشف الواقع المحيط به وتعقيداته في سن مبكرة، ولكن من دون أن يفقد براءته، مما يضفي على النص جمالية متأتية من الجمع بين خياله الطفولي، وبين ما يعانيه نتيجةً لفقدان والده الذي زج به ظلما في غياهب السجون.
يوم تنصيب الملك.. فرح سرعان ما انقلب إلى مأساة
يؤخر النص السينمائي الدخول إلى قلب الأحداث السياسية، حرصا على تأسيس بنية درامية يظهر فيها الشخوص وقد وجدوا أنفسهم في معمعان السياسة من دون إرادتهم.
يحصل ذلك لمهدي (الممثل عمر لطفي)، وهو رجل لم يهتم بالسياسة قط، وكان كل همه في الحياة تربية ولده مالك (الممثل آدم الرغال)، وكسب لقمة عيش من عمله في سيرك شعبي، لكن السياسة أتت إليه من دون استئذان.
يشي افتتاح الفيلم بمفارقة تاريخية، فيخبرنا الراوي بصوته أن يوم ولادة مالك تصادفت مع اليوم الذي تربع فيه الملك محمد الخامس على العرش. هذا الجمع بين المولود والحكم يولد فرحة عند الزوج وزوجته، لكنها سرعان ما تغدو همّا على الأب وطفله الصغير، جراء موت الأم المفاجئ، فموتها يعقد لسان الطفل، فيصاب ببُكم لازمه سنوات.
يمتد هذا التمهيد الدرامي لاحقا إلى مساحات أوسع، إلى سيرك شعبي يعمل والد مالك فيه شغيلا بسيطا، وخلال عمله كان عليه مراقبة ولده الذي يلازمه هناك، ويتحرك في المكان المزدحم بعفوية طفل، تثير قلق وخوف والده عليه من ضياع أو تعرض لمكروه.
خمس لوحات تفتح بوابات الخيال
وسط هذا الجو القلق والعوز الظاهر، يوصي الأب الفقير ابنه ذات يوم بأن يحتفظ باللوحات الخمس التي ورثها عن أبيه، فتفتح تلك اللوحات باب الخيال عند الطفل واسعا، وتدخله في عوالمها الغرائبية شديدة الصلة بالحياة وتقلباتها.
لم يدرك الطفل أول الأمر رموزها وما يكمن فيها من معانٍ، لكن تجاربه الحياتية على بساطتها كانت تأخذ بيده نحوها، وتطلب منه تصور عوالمها وأحداثها بخياله، وكأنها تقارب الأحداث الحقيقية التي تقع أمام عينيه.
هذا المزج الرائع بين الخيال الطفولي المستوحى من اللوحات، وبين الواقع القاسي الذي يعيشه الطفل، يمثل واحدة من نقاط تميّز الفيلم وبراعة كتابة نصه المعني بتجسيد حقبة خطيرة من تاريخ المغرب، يريد مخرجه قراءتها نقديا بلغة سينمائية مختلفة.
فالخيال يأخذ مساحته الكافية فيها، والسيرك بوظيفته المحفزة لإثارة فضول الجمهور وإرباكه بألعاب سحرية وبهلوانية خطيرة، يضمن ديمومة بقاء الغرائبية حاضرة على طول مسار الفيلم، كما يُمكن للنص عرض المشهد المغربي يومئذ بتفاصيله الدقيقة، عبر حيوات العاملين في السيرك وقصصهم المختلفة.
صراع الأجيال.. رفض لواقع الانتهازية المرير
تبرز داخل خيمة السيرك شخصية علي (الممثل عبد النبي البنيوي)، وهو متمرد على واقعه، وراغب في التخلص من هيمنة والده صاحب السيرك حكيم (الممثل عزيز الفاضلي)، عبر بحثه عن عمل خارجه.
وفي مسار تطور الأحداث يتقرب علي من شيخة التي تقدم وصلات راقصة وغنائية في السيرك، وفي النهاية تجمعهما علاقة حب صادقة.
تتفاقم علاقة علي مع والده الانتهازي المُطبل للسلطة، فهو مرحب على الدوام بشرطتها وأجهزتها الأمنية، ما دامت تضمن له الحماية، وتؤمن له مصالحه الأنانية.
ومثل والده في السوء مُقدم العروض المخيفة، الذي يستغل هيئة ولده المشوه الخلقة، ليقدمه للجمهور على أنه وحش، فيثير به خوفهم ونفورهم، من دون مراعاة لمشاعره وأحاسيسه.
يتعاطف الطفل مالك مع الضحية، ويكظم غيظه من سلوك والده بداخله، لعجزه عن نفثه بالكلمات، ويظل وجه الطفل العاجز عن الكلام المشحون بغضب داخلي حاضرا في أكثر مشاهد الفيلم، وهذا يتطلب من الممثل أداء جيدا، لتجسيده بتناغم مع الوسط الذي يعيش فيه الطفل اليتيم، المحاط بشغيلة سيرك طيبين، يكنّون له حبا كبيرا، يخفف مخاوف والده عليه.
صندوق المنشورات المعارضة.. كارثة تضرب رجلا بريئا
لم يدم الأمر طويلا حتى حلت لحظة انفصال الأب الحنون عن طفله، بعد تكليفه من صاحب السيرك بتسلم حزمة إعلانات ترويجية لعرض قادم.
يدخل الأب وابنه خطأ قاعة كانت تعج بمعارضين سياسيين، يطالبون السلطة بالتخلص الكامل من الوجود الأجنبي في البلد، احتراما لتضحيات أبناء الشعب الغالية، ويرفعون شعارات تدعو الحكومة إلى العناية بالمؤسسات الصحية والتربوية، وضمان حصول المواطن على سكن لائق به، وحماية حقوقه وكرامته.
وأثناء خروج الأب يأخذ صندوقا يظنه يحتوي على الملصقات الدعائية التي جاء من أجلها، وعند خروجه يستوقفه رجال الشرطة، فيفتحون الصندوق فيجدون فيه مطبوعات دعائية لـ”حزب الشعب” المعارض، لا علم له بها، فيوجه له الشرطي صفعة قوية، ويستجوبه عن المنشورات والأفراد الذين يعمل معهم؟
وفي اليوم التالي يأتي رجال الشرطة السرية، ويأخذونه إلى مكان مجهول، تحت إشراف “الغول” الذي كان يراقب عملية الاحتجاز عن بعد داخل سيارته. ويرمز الغول (الممثل فوزي بنسعيدي) إلى السلطة الأمنية التي كانت سببا في اختفاء وموت كثير من الأبرياء خلال حقبة سنوات الرصاص المخيفة.
“لا وجود لهذا الاسم في سجل المعتقلين!”
يدفع اختفاء الأب زملاءه العاملين في السيرك للبحث عنه في كل مكان، لكن عند كل جهة يوصيهم الناس بمراجعتها، يأتيهم من مسؤوليها جواب واحد: لا وجود لمثل هذا الاسم عندنا في سجل المعتقلين!
وتنقل محاولات إيجاد الرجل المُغيّب مسار الفيلم الدرامي إلى أبعد من مساحة السيرك الضيقة، فيتجه العاملون المتعاطفون مع الطفل ووالده إلى بيت رجل فرنسي يدعى “بلانشار” (الممثل ديدي بينيرو)، له علاقة محرمة مع شغيلة في السيرك تدعى ريتا (الممثلة فاطمة عاطف).
تشبه هذه العلاقة الملتبسة علاقة “بلانشار” بالمغرب، فهو بلد مُتخلص يومها من الوجود الفرنسي، لكن صلاته به لم تنعدم، ويطلب منه العاملون المساعدة والتدخل عند السلطات لإيجاد الأب، لكنه يرفض تقديم المساعدة، ثم يقبل وجود الطفل في منزله.
في ذلك المكان يتعرف مالك على عوالم لم يعرفها من قبل، فيكتشف مدينته خلال السبعينيات، كما توحي المشاهد المُجسدة لوجوده فيها. ومن مكان إلى آخر يذهب علي وحبيبته ليلى (الممثلة نادية كوندا) مع بقية العاملين في السيرك، بحثا عن الأب مهدي الذي لا أحد يعرف مكانه، سوى الغول ورجاله.
مقتل الغول.. غضب شعبي ينهي حقبة سوداء
يدفع الأمر علي ومالك للتسلل إلى أمكنة سرية أشار الناس إلى احتمال وجوده فيها، وفي مشهد رائع يكتشفان في ذلك المكان المخيف وجود آلاف من السجناء يرثى لحالتهم، ولم يكن بينهم والد الطفل، ومع ذلك يقرر مقتحم المكان إطلاق سراحهم.
وتتلاحق الأحداث بعد ذلك، وتُتبع بحراك شعبي وسياسي غاضب على السلطة. فمشهد موت الغول في مكتبه والدماء تسيل من رأسه، توحي بنهاية مرحلة سوداء من تاريخ المغرب السياسي.
ثم يتجلى كل ذلك بمشهد ختامي، يظهر فيه الطفل مع بقية العاملين، وهم يركبون عربة سيرك تغادر المكان نحو وجهة أخرى، وتتبع مسيرتهم عبارة مكتوبة على الشاشة، مقتبسة من نص الخطاب الملكي، بمناسبة تنصيب هيئة الإنصاف والمصالحة.
لم يخدم ذلك الاقتباس الفيلم دراميا، لأن مجريات السرد الدرامي تُثبت ذلك التحول بصريا، وليس انتقال الطفل إلى مكان غير الذي غاب فيه والده إلا إشارة إلى تصالحه مع الماضي، وإلى رغبته في عيش مستقبل أفضل.
وعلى المستوى الفني يمثل فيلم “أبي لم يمت” تفردا في معالجته التاريخية لمرحلة “سنوات الرصاص” سينمائيا، ويعد منجزا مفعما بجماليات اشتغال سينمائي، وزاد أداء الممثلين إبهارها، وأتمت موسيقى “فتاح النكادي” وتصوير “ماثيو دي مونتغراد” مهامها التكاملية مع بقية مفردات الصنعة السينمائية.
كل ذلك ينقل المُشاهد إلى تلك الحقبة التاريخية العصيبة، ليرى ما جرى فيها بعين طفل أبكم، لم ينطق إلا حينما اشتد غضبه على السلطة ورموزها، فأعلن بعد خرس بصوت مسموع رغبته في معرفة مصير والده البريء.