“حلق بي إلى القمر”.. كوميديا رومانسية تعيد النظر في رحلة الإنسان الأولى لجار الأرض

في الذكرى الـ55 لمهمة أبولو 11 التاريخية، أطلقت هوليود فيلما جديدا عن وكالة ناسا بعنوان “حلق بي إلى القمر” (Fly Me to the Moon)، من بطولة “سكارليت جوهانسون” و”تشانينغ تاتوم” و”وودي هارلسون”، وإخراج “غريغ بيرلانتي”، وقد بدأ عرضه في يوليو/ تموز 2024.

هذا الفيلم هو أول فيلم كوميدي رومانسي، يتناول موضوع سباق الفضاء، الذي خاضته وكالة ناسا في الستينيات من القرن العشرين، وهو متاح للعرض على منصة “أبل تي في”.

يبدأ الفيلم بتعليق إخباري بصوت الممثل “وودي هارلسون”، يضع الجمهور في مكان وزمان محددين، فعام 1968 يقترب من نهايته، ونحن عند مفترق طرق فيما يتعلق بتمويل وكالة ناسا لمهمة أبولو 11، المهمة التي ستضع رجلا على القمر بعد طول انتظار.

لكن أمريكا كانت يومئذ منهكة من الحرب والاغتيالات والاحتجاجات، وقد تعثّر تمويل الرحلة من الكونغرس، والشعب الأمريكي فاقد اهتمامه بكل ما يتعلق بالقمر وبوكالة ناسا، فحرب فيتنام تهيمن على أخبار المساء، ويتساءل الناس عن جدوى إنفاق الأموال لإرسال رجال إلى القمر، في حين كل شيء على الأرض على وشك الانهيار، والشباب الأمريكي يُقتل في فيتنام.

“كيلي جونز”.. حسناء محتالة تسعى لتلميع صورة ناسا

يوظف أحد كبار المسؤولين في عهد نيكسون خبيرة التسويق والإعلانات، واسعة الحيلة “كيلي جونز” (الممثلة سكارليت جوهانسون)، ويرسلها إلى مركز كينيدي للفضاء التابع لوكالة ناسا في فلوريدا، لتعيد سباق الفضاء إلى قلوب الأمريكيين الذين فقدوا الثقة في البرنامج.

كان ذلك لأجل تلميع صورة ناسا العامة، وضخ بعض الوقود في حملة دعايتها المتعثرة، وقد استخدمت حيلها لإقناع الجمهور المتردد والسياسيين بأن إغداق أموال الضرائب على مهمة أبولو إلى القمر لا يزال فكرة جيدة.

سكارليت جوهانسون” و”تشانينغ تاتوم” في الملصق الدعائي لفيلم “حلق بي إلى القمر”

“كيلي جونز” امرأة مرحة ومثابرة ومخادعة، وهي مسوِّقة قادرة على بيع أي شيء لأي إنسان، كما أنها شابة وجميلة وأنيقة وذات ماض مضطرب. وحين يلتقي بها المسؤول الحكومي الغامض الذي يتصرف في الظل نيابة عن الحكومة، يعرض عليها إخفاء ماضيها إذا استطاعت تسويق مهمة أبولو 11، واستعادة صورة ناسا قبل أشهر قليلة من أول محاولة للهبوط على سطح القمر.

“كول ديفيس”.. مدير صارم يحمل أعباء مهمة فاشلة

تصل “كيلي” إلى مركز كينيدي للفضاء وهي مفعمة بالحب، وهناك يتطاير شرر الحب بينها وبين مدير الإطلاق في وكالة ناسا “كول ديفيس” (الممثل تشانينغ تاتوم)، وهو رجل صارم، لكنه يحمل عبئا ثقيلا متمثلا في فشل مهمة (أبولو 1)، وهي مهمة كارثية أودت بحياة 3 رواد فضاء في عام 1967.

يسعى مدير الإطلاق في ناسا لإنجاز مهمته بوضع أول رجل على سطح القمر في أسرع وقت ممكن، وقد كانت الولايات المتحدة لا تستطيع تحمل الفشل آنذاك، فهي في خضم الحرب الباردة مع الاتحاد السوفياتي.

كما أن البيت الأبيض يريد أن يرى الشعب الأمريكي انتصارا، لذا فهو يواصل سباقه بكل قوته ليصبح أول دولة ترسل رجلا إلى القمر، وكان السوفيات قد أرسلوا أول قمر صناعي “سبوتنك1” إلى المدار في عام 1957.

نجوم الفضاء.. حملة دعائية تصبح حدثا ثقافيا شعبيا

يهتم “كول ديفيس” بعمله ولا يهتم بالدعاية له، ولا تعجبه النزعة التجارية لعمل “كيلي”، ويحاول إبقاء اهتمام الجمهور، عند أدنى مستوى ممكن والتركيز على مهمته الصعبة، ولكن اعتراضاته لا تجدي نفعا.

تنجح “كيلي” في تحويل “أبولو 11” إلى حدث ثقافي شعبي كبير، من خلال حملات تسويقية وصفقات إعلانية لا حصر لها، وقد أفلحت في إبرام صفقات رعاية مربحة وحملة دعائية مع ساعات أوميغا.

بل إنها جعلت رواد الفضاء وجوها إعلانية للترويج لمشروب البودرة الغامض وقتها “تانغ” (Tang)، وتسويقه على أنه مشروب صحي، وبأنه المشروب المفضل في الفضاء، والترويج كذلك لمعجون أسنان “كريست”، وتصنيفه على أنه العلامة التجارية التي يثق بها رواد الفضاء.

أصبح رواد الفضاء وجوها إعلانية تروج لساعات أوميغا

تزييف الهبوط على سطح القمر.. نظريات المؤامرة

سرعان ما تزعج أساليب “كيلي” التسويقية “كول ديفيس”، وتضعها في مسار تصادمي معه، وذلك حين يُكلفها المسؤول الحكومي الغامض “وودي هاريسون” بتعيين مجموعة من الممثلين، لتصوير مشاهد هبوط وهمية على سطح القمر، لتكون نسخة احتياطية تُبث على شاشة التلفزيون إذا فشلت المهمة الحقيقية، على أن يبقى الأمر سرا عن الجميع.

سكارليت جوهانسون وتشانينغ تاتوم في الملصق الدعائي لفيلم “حلق بي إلى القمر”

وتلك إشارة واضحة إلى نظرية المؤامرة التي فُضحت إلى حد كبير، ولكنها لا تزال قائمة منذ وقت طويل حتى اليوم، فقد كُلف المخرج البريطاني “ستانلي كوبريك” بتصوير هبوط مزيف لأبولو 11، وقد كُشفت هذه الفكرة في الفيلم الوثائقي “غرفة 237” (Room 237) الذي أُنتج عام 2012.

نظريات المؤامرة المتعلقة بهبوط الإنسان على القمر موجودة منذ عقود. ففي عام 1976، نشر “بيل كايسينغ” كتابا بعنوان “لم نذهب إلى القمر قط.. خدعة أمريكا التي كلفت 30 مليار دولار”، وكان أحد أوائل المنكرين البارزين لهبوط الإنسان على القمر. ووفقا لاستطلاع رأي أجرته مؤسسة “غالوب” عام 1976، فقد وافق ما يقرب من 28% من الأمريكيين على أفكاره في ذلك الوقت.

وقد شهد عام 1978 إصدار فيلم “كابريكورن ون” (Capricorn One)، وهو فيلم خيالي عن خدعة حكومية بشأن الهبوط على المريخ، وقد ساعد هذا الفيلم في نشر أسطورة هبوط القمر المصطنع أيضا، لكنه وضع المريخ بدلا من القمر.

نظرية تزييف الهبوط على القمر موجودة منذ أن وطئت قدم “نيل أرمسترونغ” القمر في 20 يوليو/ تموز 1969، ويزعم أصحابها أنه لم يمش أحد على سطح القمر من قبل، وأن الصور ليست حقيقية، وادعى بعضهم أن الحكومة الأمريكية صورت الرواد الثلاثة “أرمسترونغ” و”ألدرين” و”كولينز” في صحراء نيفادا، بالتواطؤ مع المخرج “ستانلي كوبريك”.

كل هذا لأن فيلم “ملحمة الفضاء2001” (A Space Odyssey 2001) للمخرج “كوبريك” قد عُرض على الشاشات قبل بضعة أشهر من ذلك، في سبتمبر/ أيلول 1968.

تغذية النظرية.. قصة خيالية تستند على أحداث حقيقية

بوصفي متفرجة، أستطيع أن أقول إنني انتظرت حتى النهاية، لأعرف هل كان مشروع مهمة أبولو للهبوط على سطح القمر اختراعا خالصا أم حقيقة تاريخية.

فقد زرع فيلم “حلق بي إلى القمر” شكوكا في مخيلة المشاهد، من خلال تصوير قضية الهبوط الكاذب على سطح القمر، وغالبا بقي لدى بعض المشاهدين بعد مشاهدة الفيلم سؤالان: هل عُينت خبيرة التسويق والعلاقات العامة “كيلي جونز” لتسويق وبيع مهمة القمر الأمريكية لتمويل الرحلة؟ وهل صورت الحكومة الأمريكية حقا سيرا وهميا على القمر، لبثه إذا فشلت مهمة أبولو 11 الحقيقية؟

غلاف كتاب “لم نذهب قط إلى القمر”

يستند الفيلم إلى أحداث تاريخية، ولكن ليس على قصة حقيقية تماما، فهو يعتمد اعتمادا فضفاضا على الجهود الحقيقية التي بذلتها وكالة ناسا، لبيع بعثات القمر للجمهور الأمريكي والعالم.

وقد صنع كتاب السيناريو قصة خيالية، ليسخروا من منظري المؤامرة ممن قالوا إن هبوط القمر لم يحدث قط، فيتخيل الفيلم أن البيت الأبيض طلب من فريق بقيادة “كيلي” تصوير هبوط وهمي على القمر سرا في حالة فشل المهمة.

هل كانت “كيلي جونز” شخصية حقيقية؟

كشف المخرج “غريغ بيرلانتي” في مقابلات صحافية عن أهمية الحصول على موافقة وكالة ناسا على هذا الفيلم، حتى أنهم سمحوا للفيلم بالتصوير بموقع في كيب كانيفيرال بفلوريدا.

وقال “بيرلانتي”: عندما كنا نصور، كان لدينا عدد ممن حضروا الإطلاق الأصلي، وكانوا يبكون وهم يسيرون إلى غرفة التصوير، فقد شعروا أنهم عادوا خطوة إلى الوراء في الزمن. لقد نُفذ كل شيء بدقة شديدة، وبموافقة من ناسا.

“سكارليت جوهانسون” في دور “كيلي جونز” خبيرة التسويق والإعلانات

للتوضيح، لم تستأجر الحكومة الأمريكية خبيرة تسويق للإشراف على تصوير هبوط وهمي على القمر، وهذا ما قاله “بيل باري” كبير مؤرخي وكالة ناسا، وقد استُشير في كتابة سيناريو الفيلم، فلم تكن “كيلي جونز” شخصية حقيقية، ولم تكن مبنية على شخص معين، بل هي شخصية خيالية تماما.

ويبدو أن صناع الفيلم ربما وجدوا الإلهام في فريق العلاقات العامة، الذي وظفته وكالة ناسا للترويج لمهماتها القمرية في الستينيات. كذلك لم يكن “كول ديفيس” الذي لعب دوره “تشانينغ تاتوم” في الفيلم شخصا حقيقيا أيضا، لكن الشخصية مستلهمة من بعض مهندسي ناسا في الستينيات.

لعبة الدعاية.. حقائق استندت عليها القصة السينمائية

حول تزييف الهبوط على القمر قال “ريتشارد جوريك”، وهو مؤلف مشارك في كتاب “تسويق القمر.. بيع برنامج أبولو القمري”: لا يوجد أساس لافتراض أن مثل هذا التزييف قد حدث حقا، فقد عمل أكثر من 400 ألف إنسان في مهمة أبولو 11 على مدى أكثر من عقد من الزمان، ويشير الحجم الهائل للمشروع إلى مدى احتمالية (وصعوبة) تزييف النتيجة المرجوة، فكيف يمكنك أن تشعر بأن 400 ألف إنسان سيظلون صامتين لمدة 50 عاما؟

يقول “جوريك” لمجلة “تايم” إن ترويج رواد الفضاء لبعض السلع قد حدث حقا، وإن رواد الفضاء وضعوا ساعات أوميغا، وروجوا لمعجون أسنان “كريست” وكثير من المشروبات، وبعد أكثر من 50 عاما، لا تزال هذه الشركات تستفيد من ارتباطها بوكالة ناسا.

أما خبير التسويق والمؤلف “ديفيد ميرمان سكوت”، فقال لصحيفة “نيويورك تايمز”: أرى أن جانب أبولو التسويقي كان بنفس أهمية المركبة الفضائية، ذلك ما أراه.

بعض الأساليب الغريبة التي استخدمتها “كيلي” في الفيلم تستند إلى الحقائق أيضا، فقد تعاونت شركات مثل “كيلوغز” و”أوميغا” مع وكالة ناسا للحصول على فرص رعاية معينة.

ومع أن فيلم “حلق بي الى الفضاء” يغازل فكرة تصوير مشاهد هبوط وهمية على سطح القمر، فإنه في النهاية يوضح أن البث المباشر الذي شاهده العالم كان حقيقيا بنسبة 100٪، وأن “نيل أرمسترونغ” حقق قفزة عملاقة للبشرية حقا.


إعلان