“سُلطة”.. عنصرية الشرطة الأمريكية منذ عهد دوريات العبيد إلى اليوم

“إن الشرطة الأمريكية تستطيع الذهاب إلى حي هارلم، واعتقال طفل مصاب بالتهاب المفاصل، لكنها تعجز عن الذهاب إلى الشقق الأنيقة، والقبض على سمسار بورصة يتعاطى الكوكايين”.

هذا التصريح الجريء أدلى به المفكر “نعوم تشومسكي” في حوار أجراه مع منظمة “مبادرة الحقيقة” (Truth Initiative) في عام 2013، وكان بداية لجدل أعمق حول عنصرية الشرطة والسلطة الأمريكية، وكان كثير من النخب والناشطين والمؤثرين الأمريكيين عبر التاريخ قد وجهوا نقدهم اللاذع لواحد من أكبر الأجهزة الأمنية في عالمنا المعاصر، بسبب انحيازها للأثرياء وأصحاب السلطة، وممارستها العنف المفرط والعنصرية ضد الأقليات.

والآن يعمق الفيلم الوثائقي الأمريكي “سُلطة” (Power) هذا النقاش، وهو من إخراج وإنتاج المخرج الأمريكي الأفريقي “يانس فورد”، وقد عُرض حديثا على منصة “نتفليكس”، ويستعرض تاريخ مؤسسة الشرطة الأمريكية وجذورها العنصرية، من خلال نظرة مؤرخة ودقيقة، ويتساءل: من يمتلك القوة الحقيقية في بلد يفترض أنه ديمقراطي؟ أهو الشعب أم السلطة؟

مؤسسة الشرطة.. تاريخ طويل من النظام والعنصرية

ظهرت احتجاجات كثيرة على عنصرية الشرطة الأمريكية، وكان آخرها تلك التي اندلعت في عدة ولايات أمريكية عقب مقتل المواطن الأمريكي الأفريقي “جورج فلويد”، على يد أحد عناصر شرطة ولاية مينيابوليس في أيار/ مايو 2020.

رسم جداري للأمريكي الأفريقي “جورج فلويد” الذي قتل خنقا على أيدي الشرطة الأمريكية

إن هذه الممارسات والانتقادات والاحتجاجات طرحت كثيرا من الأسئلة الإشكالية حول طبيعة هذه المؤسسة، ودورها في تشكيل الواقع الأمريكي كما هو اليوم، وهذه القضية هي التي يتصدى لها الفيلم الوثائقي الأمريكي “سلطة”، فيتناول مختلف أوجهها خلال ساعة ونصف من العرض، يستهله المعلق الصوتي بسؤال: في هذه الدولة الديمقراطية، من يحظى بالقوة؛ الشعب أم السلطة؟

يؤسس هذا التساؤل لمنطق العرض الذي يتبناه المخرج “فورد” في فيلمه، منطق يفترض أن الشرطة في الدول الديمقراطية يجب أن تكون في “خدمة الشعب” لا في خدمة السلطة، مما يدفعه للبحث عن حقيقة الدور الذي تلعبه هذه المؤسسة في حياة المجتمع الأمريكي عبر التنقيب في تاريخها، وتسليط الضوء على الجذور العنصرية لتشكلها منذ ظهورها الأول.

تأسس جهاز الشرطة في أوائل القرن التاسع عشر، فكانت تطويرا لنظام “دوريات العبيد”، مستلهمة نظامها من نماذج أوروبية عدة، مثل قوات شرطة لندن، ثم لعبت فيما بعد دورا حاسما في فرض النظام والسيطرة الاجتماعية على الفئات المهمشة في الولايات المتحدة.

بوستر فيلم “سلطة”

ويعد فيلم “سلطة” امتدادا لسلسلة الانتقادات الموجهة لدور هذه المؤسسة، بما يقدمه من مواد أرشيفية وتحليلات ومعلومات تشكل منظورا تاريخيا نقديا يعمق فهم المؤسسة الأمنية الأمريكية، منذ تأسست أولى وحداتها بولاية بوسطن عام 1838، إلى غاية يومنا هذا.

“دوريات العبيد”.. عقيدة تؤمن بتفوق العرق الأبيض

تنفتح أولى فصول الفيلم على وقع مشاهد تمثيلية من معسكر تدريبي للشرطة على حدود أراضي السكان الأصليين في “الأرض الجديدة”، وفي الخلفية يتحدث “نيخل بيل سينغ”، وهو أستاذ التحليل الاجتماعي والتاريخي في جامعة بوسطن، فيسرد مراحل تطور آلية حفظ النظام عبر التاريخ في الولايات المتحدة الأمريكية.

الأمريكيون السود يلتحقون بسلك الشرطة

يقول “سينغ” إن الظهور الأول لتنظيم من هذا النوع كان لقوات شبيهة بالشرطة بين عامي 1830-1847، وتركزت أهدافه آنذاك على إبعاد السكان الأصليين عن أرضهم، ونزع ملكياتهم، وتسهيل الاستيطان الأوروبي، وجاءت هذه المرحلة بعد مرور أكثر من عقد على إنشاء “دوريات العبيد” التي كانت تهدف إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم على العبودية، وضمان استمرار السيطرة على العبيد بوصفهم ملكية خاصة.

ويرى أكاديميون آخرون أن هذين النظامين استندا في ممارستهما إلى مرجعيات ثقافية أوروبية، لطالما انتصرت لعقيدة تقول بالتفوق العرقي للبيض على غيرهم من الأعراق، مثل الفيلسوف “ديفيد هيوم”، الذي قال إن السود يكررون الكلام ولا يبتكرون الأفكار، و”إيمانويل كانط” الذي رأى اللون الأسود مرادفا للغباء المطلق.

وقد شكلت هذه الأفكار الأساس الثقافي والفكري للعنصرية لدى وحدات الشرطة الأولى، فبررت الاستعباد والسيطرة على من ليسوا من البيض.

الطبقة الكادحة.. سياسة قمع العبيد الجدد

مع نهايات القرن الـ19، بدأت أعمال القمع وتطبيق النظام تتوجه نحو شريحة جديدة، وهي “الطبقة العاملة”، وهو تطور طبيعي لنمو الرأسمالية كما يرى أستاذ التحليل الاجتماعي والتاريخي “نيخل بيل سينغ”، فالنظام الأمني الذي كان يهدف إلى السيطرة على العبيد والسكان الأصليين في البداية، أصبح أداة لقمع العمال والحفاظ على التفاوت الطبقي لاحقا.

من يوظف الشرطة؟

يعرض الفيلم مشاهد توثيقية لأفراد من الشرطة يلقون قنابل الغاز المسيل للدموع والمفقِد للوعي، وينهالون ضربا بالعصي على متظاهري الطبقة العاملة خلال احتجاجات شيكاغو عام 1886، حيث بات العمال -شأنهم شأن السود والسكان الأصليين- يشكلون خطرا على النظام الاقتصادي والسياسي للبلاد!

وإلى ذلك، فإن نشأة المؤسسة الأمنية الأمريكية أتت في سياق حماية الملكية والسيطرة على المجموعات المهمشة في المجتمع، ثم تطورت فيما بعد مع توسع مفهوم الملكية، ليشمل العمال إلى جانب الأراضي والعبيد، ويظهر هذا التاريخ ارتباط العنصرية بالملكية بشكل وثيق، ومساهمة هذه الثنائية في إنشاء نظام الشرطة الأمريكي القائم على حماية الملكية والسيطرة على من يعدون خارج المنظومة.

بيض الدرجة الثانية.. دمج في الشرطة لقمع الفئات المسحوقة

يذكر “جوليان غو” -وهو أستاذ علم النفس بجامعة شيكاغو- أن أول مركز شرطة في نيويورك تأسس في عام 1944، بُعيد تدفق المهاجرين الجدد إلى أمريكا، وقد شهدت هذه الفترة صراعا اجتماعيا من نوع آخر، فكل من لم يكن أبيض “بما يكفي” -سواء أكان يونانيا أو إيطاليا أو إيرلنديا- كان عرضة لعنف المؤسسة البوليسية، وذلك لأنه من مرتبة عرقية أقل من أصحاب النفوذ والسلطة الذين كان معظمهم من “البيض”.

قمع عناصر للشرطة للمواطنين ذوي البشرة السوداء

يعرض الفيلم لقطات أرشيفية، تبرز محاولة الوافدين الجدد الاندماج في المجتمع الأمريكي بطرق شتى، على أنهم كانوا يواجهون تحديات كبرى في سعيهم لتحقيق ذلك الهدف، وكان سلك الشرطة السبيل الأقصر أمامهم للحصول على عمل، ثم تحقيق خطوة في طريق الاندماج، وقد شهدت الشرطة في ذلك العهد دخول هويات عرقية بيضاء “دنيا” إلى صفوفه، بحسب الصحفي الأمريكي “ويسلي لويزي”.

وقد دُمج هؤلاء في الشرطة وفق آلية كانت رائجة في زمن العبودية، تقوم على منح بعض الامتيازات للبيض الفقراء من غير السادة، والبيض العاملين في السخرة، وذلك مقابل انفكاكهم عن أقرانهم وجماعاتهم العرقية الفقيرة، مما قد يوفر للسلطة إمكانية إحباط حركات التمرد المحتملة ضمن هذه الجماعات مستقبلا.

واعتمدت السلطة الأمريكية هذه الآلية، عبر تنسيب الوافدين الجدد إلى سلك الشرطة، مشكِّلة من خلالهم رقابة اجتماعية فعالة على المهاجرين أمثالهم، فذلك جزء من إستراتيجية أوسع تمنع أي حركات تمردية قد تنشأ ضمن المجتمعات المهاجرة.

قوات مكافحة التمرد والرموز السوداء.. سياسات استعمارية

في سياق تقديم تصور شامل حول الجذور التاريخية لعنصرية الشرطة الأمريكية، ينتقل فيلم “السلطة” من استعراض دور المهاجرين الجدد في تمكين المؤسسة الأمنية من تطبيق نظامها للرقابة الاجتماعية، إلى تسليط الضوء على أثر التاريخ الاستعماري للولايات المتحدة على مؤسسات إنقاذ القانون في البلاد، بما فيها الشرطة.

مظاهرات الستينات في الولايات المتحدة الأمريكية

وعبر لقطات من الأرشيف العسكري يعود المخرج “فورد” بالزمن إلى معسكرات تدريب خلال الحرب الأمريكية الإسبانية، حينها ابتكر الجيش الأمريكي ما أطلق عليه “قوات مكافحة التمرد المتنقلة”، وقد عملت على مطاردة الثوار في الفلبين والتنكيل بهم.

ومع انتهاء الحرب وتحقيق هذه القوات كفاءة في تنفيذ مهامها، استعانت الشرطة الأمريكية بنموذجها أثناء قمعها لعدد من الحركات التحررية في البلاد، فأصبحت أشبه بقوة استعمارية، تخدم مصالح المستعمرين المرتبطين بالثراء والنقاء العرقي في أمريكا نفسها، بحسب أستاذ التحليل الاجتماعي والتاريخي “نيخل بيل سينغ”.

لم تزل تتزايد الممارسات العنيفة بحق السود والبيض على حد سواء، إلى جانب العمل بما يصطلح عليه “الرموز السوداء”، وهي مجموعة قوانين تضمن التحكم بالسود، وتمنعهم من اقتناء السلاح، فأدى ذلك كله لاندلاع قرابة ألفي حالة عصيان بين عامي 1964-1972، وتزامنت احتجاجات الفصل العنصري والاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام، التي شككت بالرأسمالية وطالبت بالمساواة.

ومع ظهور حركات تحررية أخرى حول العالم في الكونغو وجنوب أفريقيا وفيتنام وغيرها من دول العالم الثالث، نظرت الشرطة الأمريكية لهذه الحركات على أنها فخ سوفياتي للإطاحة بالنظم الديمقراطية، وقمعتها بعنف مماثل لذلك الذي قمعت به شعوب المستعمرات قبل ذلك بعقود.

لجنة الاحتجاجات الاستشارية.. “نقطة تحول مهمة”

تعد مؤسسة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية رأس هرم السلطة التنفيذية، ومن هنا يجد المخرج “فورد” أن تسليط الضوء على سياسات الرؤساء المتعاقبين على الحكم تجاه مؤسسة الشرطة، سيكون كفيلا بتحديد موقف السلطة السياسية من هذه المؤسسة.

الشرطة من أصحاب البشرة شبه البيضاء

ويعود بنا فيلم “سلطة” إلى عام 1967، أيام كانت الاحتجاجات المدنية ما تزال مستمرة في مختلف أنحاء البلاد، فنشاهد الرئيس الأمريكي “ليندون جونسون” يعلن -في سابقة تاريخية- عن تأسيس لجنة استشارية لمعالجة قضية الاحتجاجات، لتصدر اللجنة فيما بعد تقريرها النهائي.

وقد رأى أكاديميون أن النتائج التي خلص إليها تقرير اللجنة، شكّل “نقطة تحول مهمة” في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية قاطبة، وذلك بعد انتشاره كالنار في الهشيم بين الأمريكيين، بمن فيهم جماعات البيض.

دعم الرؤساء المطلق.. ركن شديد تأوي إليه الشرطة في بطشها

جاء اعتراف اللجنة الاستشارية صريحا بأن الشرطة الأمريكية عملت على تأسيس مجتمع “عرقي غير متكافئ”، لكن التقرير لم يدفع اليمين الأمريكي إلى تغيير سياساته، فأعلن الرئيس “جونسون” آنذاك زيادة أعداد الشرطة، وتوزيع عتاد الجيش عليهم، وضخ المزيد من الأموال لتسليحهم، بهدف إحكام السيطرة على الاحتجاجات التي عززتها نتائج التقرير الخاص باللجنة الاستشارية.

الشرطي “تشارلي آدامز”

ثم اتبعت الإدارات الأمريكية المتلاحقة سياسة “جونسون” نفسها، بالحفاظ على النهج القمعي في التعامل مع الأزمات المدنية، والدعم غير المشروط للشرطة، بغض النظر عن الحزب الحاكم.

يستعرض الفيلم سريعا مقاطع مسجلة، أعلن فيها ثمانية حكام من الحزبين الجمهوري والديمقراطي دعمهم الكامل لقوات الشرطة وحفظ النظام، وهم “ليندون جونسون”، و”ريتشارد نيكسون”، و”رونالد ريغن”، و”بوش الأب”، و”بيل كلينتون”، و”باراك أوباما”، و”دونالد ترامب”، و”جو بايدن”.

ويستنتج المشاهد أن الدعم الرئاسي للشرطة، وتعزيز قدرات الشرطة المالية والتسليحية ليس توجها فرديا أو خيارا اعتباطيا لرئيس أو لآخر، بل هو توجه راسخ في السياسة الأمريكية منذ عقود.

وكان نتيجة هذا التوجه ازدياد أعداد عناصر الشرطة الأمريكية، وتطور عتادها بعد كل حرب داخلية، فيقول المعلق الصوتي في الوثائقي: كلما ظهرت مقاومة لتغيير الوضع الراهن، قُمعت تلك المقاومة ببطش كبير، ورد مسلح، وازدياد في أعداد الشرطة، لإعادتنا إلى الوضع الراهن.

“سلطة”.. تحفة فنية تلتحق بسينما مناهضة السلطة

تكمن جمالية فيلم “سلطة” في البناء الفني المتقن، فقد استطاع تغطية كل أبعاد القضية، إنسانيا واجتماعيا وسياسيا، عبر طبقات متعددة من السرد؛ بداية من مرافقة المخرج “فورد” للمفتش “تشارلي آدمز” من شرطة مينيابوليس في دورياته، ونلمس في خطاب المفتش انحطاط أوضاع السود حقوقيا في سلك الشرطة وخارجه.

أما المزيج البصري فكان غنيا باللقطات التوثيقية والمقاطع التلفزيونية الأرشيفية، فدعمت السرد في مختلف فصوله، ثم كانت تصاحب ذلك تحليلات معمقة للدور التاريخي لمؤسسة الشرطة في المجتمع، قدّمها كوكبة من الأكاديميين الذين استضافهم “فورد” في فيلمه.

وقد أسهم هذا البناء باعتماده نهجا استقصائيا وتوثيقيا لتاريخ هذه المؤسسة، بتقديم تصور شامل لنشأتها وتطورها وعلاقتها بالسلطة بمختلف مكونات المجتمع الأمريكي، خلال ما يربو على قرن ونصف من الزمن.

ويصنف فيلم “سلطة” ضمن موجة الأفلام الوثائقية الأمريكية المناهضة للسلطة من مثل “بولينغ لكولمين” (Bowling for Columine)، و”في سنة الخنزير” (In the Year of the Pig)، وقد نشأت هذه الموجة السينمائية منذ أربعينيات القرن الماضي، متأثرة بالحرب العالمية الثانية، وحرب فيتنام، وحركات الحقوق المدنية، وزيادة الاهتمام العالمي بقضايا العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

وقد ركزت أفلام هذه الموجة على الحقوق المدنية، ومناهضة الحروب والقمع، وكشف الفساد السياسي، واعتمدت بمعظمها على الأسلوب الصحفي الاستقصائي في تقديمها للأدلة والشهادات، ودمج المقاطع الأرشيفية والمقابلات مع الخبراء، من أجل إبراز المشهد المحيط بتلك القضايا من مختلف جوانبه.


إعلان