“الجامحون”.. فلسفة أمين الصندوق الذي سرق مصرفه للتحرر من الأغلال
في الأسطورة الإغريقية كان “سيزيف” ذكيا وشديد المكر، وقد خدع “ثانتوس” إله الموت، حين طلب منه أن يجرب الأصفاد والأقفال على نفسه، وما إن وضعها حتى كبّله “سيزيف”، ومنع الناس من الموت.
عوقب “سيزيف” على أيدي آلهة “الأوليمب” عقابا أليما، بأن يعيش مدحرِجا صخرة إلى أعلى الجبل، وحين يصل إليه تسقط الصخرة إلى الأسفل، ويظل “سيزيف” في عقاب أبدي، يقوم على العمل بلا جدوى ولا منفعة، بلا بداية ولا نهاية.
تحمل صيغة العمل المؤسسي الحديث مأساة أسطورة “سيزيف” من جهة بلعنة الأبدية فيها، فيبدو سن التقاعد وهما بالانتهاء، لأنه يأتي وقد أصبح ما ضاع من الحياة أكثر مما بقي.
وفي هذه الحالة لا ينذرنا التقاعد بالقدرة على الاستمتاع والعيش بحرية مطلوبة خلال ما بقي من الحياة، بقدر ما يدفعنا تجاه سؤال استعادي؛ هل كانت الحياة في العمل شيئا ذا معنى؟ وهل بدا هذا المعنى مستنطقا من دافع ذاتي، أم أُقحمنا فيه تحت ضرورات المعيشة والتحقق الاجتماعي؟
يبدو التجلّي الأسطوري في حالة “سيزيف” مباشرا في ثنائية الفعل والمعاقبة، أما واقع العمل فيحمل ثنائيات أكثر تعقيدا، تصل إلى إشكالية عالمية يصعب حلّها، بسبب الحركة المحمومة تجاه التعزيز الرأسمالي، وحصار سياسات الليبرالية الجديدة.
تتجلى مقايضات العمل حادة وصلبة، ويتمركز الاغتراب ضريبة للدخول ضمن الهيكل الاجتماعي، من خلال توافر قدرة على الاستهلاك الذي لا يولد رغبات ذاتية، بقدر ما هي رموز مُملاة، توهم بالتحقق والاندماج مع المزاج الاستهلاكي، وبهذه الشكلية يتمثّل العمل في إطار سلطوي لا بديل عنه، بالشكل الذي يفرضه، لا بالشكل الذي نريده أو نطمح إليه.
في الاتجاه المضاد، ينطلق فيلم “الجامحون” (Los Delincuentes) من الصورة المتأخرة للعمل في حياتنا المعاصرة، حيث لا مجال لمعالجة هذه العلاقة، لأنها ليست جديرة حاليا إلا بالنبش في مدى قدرة العمل على تغريبنا عن ذواتنا، وقد عكس الفيلم هذه الحالة لإعطاء مساحة واسعة للصورة، كي تواجهنا نحن المشاهدين، وتحيل هذه التركيبات الشعورية العامة إلى تنويعات منفردة، تستقر في الفضاء الفارغ بين كل فرد ومهنته.
أمين الصندوق.. خطة للفرار من أسوار الحياة العملية
يعمل “موران” (الممثل دانييل إلياس) أمينا للصندوق في أحد المصارف، وأيامه مكرره، بنفس النشاط ومكان الجلوس ووقت العمل، وكذلك الوجوه الآلية المجبرة على لقاء الناس بابتسامة خشبية وقبول كاذب.
وفي يوم من الأيام يفكّر “موران” أن يسرق من مصرفه ما يكفيه من المال لعيش بقية حياته بلا عمل، ويبدو الاختيار أفضل من حمل صخرة العمل يوميا بلا معنى إلى أن يموت، أو يحال إلى التقاعد في انتظار الموت.
تتوهّج هذه الفكرة بداخل “موران”، وهو ذو ميل إلى الحياة الطبيعية وعدم الاندماج الاجتماعي والعاطفي مع المدينة. فلماذا يعمل ليعيش، في حين يمكنه الاستمتاع بحياة واحدة منحت له ولن تتكرر؟ أليست هذه أسئلة تستحق التأمل؟
“هل تفضّل 3 سنوات ونصفا بالسجن، أم 25 بالعمل؟”
اقتبس المخرج الأرجنتيني “رودريغو مورينو” فيلمه من فيلم “مجرد مجرم” (Apenas un Delincuente) الذي صدر في 1949، ويدور حول رجل يعمل في مكان يملك من خلاله عهدة أموال كبيرة، فيقرر سرقتها وإخفاءها، ثم يذهب إلى الشرطة ويعترف بجريمته ويقضي عقوبة السجن.
كان حلم الشخصية في ذلك الفيلم العتيق أن يحصل على المال، فهناك شهوة فردية في الثراء، وحالة منفصلة عند مرحلة ما عن الواقع، منوطة بانغلاق على الذات وهوس بالرغبة.
لكن شخصية “موران” في الفيلم الحديث، تشرّع السرقة وتسوّغها لنفسها، عبر وازع مرتبط بسياق سلطة صيغة العمل الحديث على الأفراد، لذلك نراه حينما يقرر اختلاس مبلغ من خزينة المصرف، ينظر إلى الكاميرا ولا يتجاهلها.
وحينما يستعين بزميله “رومان” (أستيبان بيغلياردي) ليحفظ له المبلغ حتى يخرج من السجن، يسأله سؤالا لافتا: هل تفضّل 3 سنوات ونصفا في السجن، أم 25 في العمل؟
تبرير السرقة.. حجة منطقية للتحرر من الحياة الآلية
في مفتتح الفيلم، تظهر المدينة مثل شبح ذي سيادة، ثم نرى “موران” يلبس زيه الرسمي ويخرج إلى العمل، وفي طريقه يتحرك كل شيء بآلية مثالية، كأن كل هؤلاء الموظفين بُرمجوا منذ زمن طويل على ارتداء الزي الرسمي للعمل وقوانينه، بمجرد أن يستيقظوا من النوم.
يتمثّل النموذج الأشد قسوة وصلابة من حوكمة العمل المؤسسي في موظفي المصارف، وتتجلى هذه الحالة في المشاهد الأولى التي تعكس حيثيات العمل في هذا المكان الآلي من فرط انضباطيته، حيث كل شيء يجب بالضرورة أن يمر بهدوء.
حينما ننظر إلى المصرف بعين إنسانية، نجد أن به تخمة من فرط المفارقات، فالزائر يأتي بحثا عن خلاص مادي، والموظفون يسكنون الجهة الأخرى، جهة القيد في المظهر ودبلوماسية التعامل وتقييد حرية الجسد، وكذلك القاعدة الأثيرة المنوطة بتجهيل الانفعالات الإنسانية الشخصية أو التي تفرض نفسها، ضمن أي سياق في التعامل مع العملاء.
ضمن هذه العادية المفروضة قهرا تدخل السرقة، ويُنزع عنها الجانب الفردي المتمثل في شهوة امتلاك المال، ويظهر السارق دون حاجة إلى الاختباء، لأن فعلته منطقية، تحديدا حينما يلتقي بزميله في مكان عادي بين أناس عاديين.
فيدور بينهما حوار لا يتخذ المال فيه حضورا مستقلا، بقدر ما يكون سببا منطقيا في التخلّي عن عبودية العمل، وهذا السبب يتحقق عن وعي من قبل السارق، فقد حدد مبلغا يساوي راتبه خلال ما بقي من سنوات عمله، ورفض أن يختلس ما يزيد عن ذلك.
تحرر الذات.. نسمات الأمل القادمة من المستقبل المشرق
بعد تخريب تشويقية فعل السرقة، تتماهى الصورة السينمائية مع “موران”، فنشتبك مع صيغة وجود جديدة له، فيتحرك بحرية في فضاءات واسعة، وتكون له منحة مؤقتة تذكّره بإنسانيته، وهي أن ينعم بوقت فراغ.
عند هذا الحد ينسلخ “موران” من هويته الحصرية بوصفه عاملا في المصرف، بل يخرج مؤقتا عن إطار الطبقة بشكل ما، ويعيد تشكيل هويته ذاتيا عبر نفي الأخرى، ويحضّر نفسه لمزاج معيشي حر، يرى أنه ينتظره عقب الخروج من السجن.
يدخل “موران” السجن ليقضي عقوبته، وفي الخارج يبقى شبح العمل مطاردا صديقه “رومان”، الذي يحفظ له المال حتى خروجه من السجن، وهنا يقارب الفيلم بين الشريكين، لعكس ما قد تنتج الاختيارات المتطرفة من مآلات.
عشوائية الحكاية.. بناء متأرجح بين المتانة والهشاشة
قسّم المخرج “رودريغو مورينو” فيلمه إلى جزأين، الأول منوط أكثر بالمدينة وحيثيات الإقبال على قرار السرقة وتبعاتها، والثاني يتناول بسرد استعادي حركة الشخصيات، حينما تجد مناخ عيش حر، وكيف يمكن للحياة الطبيعية بعيدا عن المدينة أن تنتج حياة مفعمة بالكثافة، فالحب فيها سهل وممكن، شأنه شأن الصداقة.
في المشاهد الأخيرة من الجزء الأول، ظهرت إحدى مشكلات الفيلم الكبيرة، ألا وهي تولّد انفصال وتشوّش في إيقاع الفيلم، فقد تحولت الوحدة الضرورية في بنية الحكاية السينمائية إلى حركة عشوائية، تتأرجح بين العمق والمتانة في مطلع الفيلم، وإعطاء كل حدث حقّه حتى تتشبّع به الشخصية، عبر الدقّة والبطء، وبين المرور السريع على الأشياء.
فحينما يدخل “موران” السجن، لا نتعمق في معاناته بما فيه الكفاية، إلا من خلال بعض اللمحات التي تمر على سطح الأحداث بنعومة لا تناسب صلابة الأزمة، كذلك تشكّلت أزمة “رومان” ووصلت إلى ذروة ما، كان غريبا عليها أن تنتهي بسهولة.
تخشب السرد.. نزعة الصورة الجمالية المفرغة من المعنى
في الجزء الثاني من الفيلم، تضاعفت مشكلة الاتساق داخل الحكاية، فجعلت عناصر الفيلم متخشّبة يعوزها رابط داخلي، كما اتجهت الصورة إلى نزعة جمالية شكلية مهوسة بصورة موحية بالحميمية والوداعة، لكنها بالداخل مفرغة من معناها الوظيفي في خلق سردية يجمعها ما هو أكبر من مجرد تتابع بصري، يكتفي بالمرور على سطح التطورات.
ومع فقد قدرة المخرج على أن يجعل زمن فيلمه ذا تأثير أكبر من مجرد تحقيق التتابع الحكائي ظاهريا، فإنه بالتتابع يفقد القلب الداخلي والحيوي لمادته السينمائية جملة، لأن قوة المخرج الفنية -كما يقول المخرج الروسي “أندريه تاركوفسكي”- تكمن في قدرته على “نحت الزمن”، أي خلق زمن جديد، فسواء كان يحدّق في عين الواقع أو يتلاشاه، فإن عليه أن يتلاشى الزمن السهل، الذي يشبه رسم لوحة على الماء.
ولعل ذلك تحديدا هو ما حوّل فيلم “الجامحون” من مادة سينمائية مبشّرة واستثنائية، إلى أخرى تاهت من مخرجها في المنتصف، وأكملت تشكّلها بتخبّط وعشوائية.
“نورما”.. شخصية لم تجد حقها من الحكاية
في كتاب “مبادئ السيكولوجيا”، يقول الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي “ويليام جيمس” إن العقاب الأشد شيطانية في الحياة، هو أن ينطلق المرء ساعيا في المجتمع ثم لا يلاحظه أحد.
وخلال أحداث الفيلم الأخيرة، يعاد تشكيل رغبة “موران” وصديقه “رومان” بالتبعية في السرقة بأثر رجعي، ويتبيّن أن القرار لم يكن اعتراضا حصريا على حياة حبيسة، فهناك رغبة في الظهور، في أن يكون الإنسان مرئيا وجديرا بالحب والشراكة. ويأتي ظهور “نورما” (الممثلة مارغريتا مولفينو) ممثلا لوجهي الخلاص والوقوع في شرك آخر.
يقترح “موران” على صديقه “رومان” أن يحفظ النقود في منطقة طبيعية وجبلية نائية، فيذهب ويلتقي هناك بـ”نورما”، وكانت قد التقت بـ”موران” سابقا في نفس المكان قبل دخوله السجن.
تتقدّم نورما بمحدودية شديدة، حتى أنها لا تعكس ما يكفي التناول التقليدي للأنثى الشبحية أمثولة الغواية، ومع أن هناك تداخلا ظاهريا بينها وبين المكان، بوصفها حبيبة ومرشدة إلى العيش الأصيل والبسيط، فإن كل هذه الأفكار تتكون سريعا، ثم تتداخل وتنتهي باختزال مخلّ، وتترك وراءها سؤالا عن المغزى من كل هذا، بدلا من الاشتباك الإنساني مع الحكاية.
حوار المخرج.. شروح أفضل من تعبير الحكاية عن نفسها
في إحدى حواراته عن الفيلم، يقول مخرج الفيلم “رودريغو مورينو” إنه عمل على فيلم “وجودي شعري أقل سردا”، ويستفيض في كيفية التعبير عن هذه المشكلات التقنية والجمالية والسردية للفيلم.
ومن المفارقة أن شروحات “رودريغو” تبدو أكثر بلورة ووضوحا من فيلمه، فمع أن الفضاء الفاصل بين المشاهد والمخرج ينبغي أن تشغله خبرة المشاهدة، فإن المخرج يحاول تعويضه باستطرادات حوارية عاجزة، جعلت حديث صانع الفيلم عن مادته السينمائية أفضل من قدرة المادة على التعبير عن نفسها.