“ما فعلته جنيفر”.. نبش في دوافع الفتاة التي قتلت والديها

في رواية “ملحمة الذئاب” للكاتبة النمساوية “كيتي ريشايس”، جاءت القصة على لسان الحيوانات، وقد تساءلت الكاتبة مجازيا عن معنى أن يكون الإنسان ذئبا تحديدا، دون كل تلك الحيوانات الأخرى في الرواية، فقد كانت تصرفات الذئب تلفت نظرها للتأمل، وتغري الشر البشري الخالص في داخلها.

تقول الكاتبة: ما قدر المسافة التي تعدوها الذئاب عندما تتبع فرائسها؟ هل يمكن للإنسان أساسا أن يفهم معنى أن يعيش ذئبا؟ تحول بيني وبين الذئاب قضبان وحفر، مع أنني أتمنى أن أكون واحدة منهم، كي أفكر وأشعر مثل ذئب، فأنسى تماما بشريتي وأعيش بقواعدهم، لأن الذئب يأخذ ما يريده ولا يفهم الشعور بخيانته أبدا.

هكذا تريد الكاتبة أن تتخلص من إنسانيتها لتجد سعادتها الحقيقية، وربما هذا ما تبدو عليه الحياة في ثياب الذئاب. تتقارب مع هذه الفكرة قصة الفيلم الوثائقي “ما فعلته جنيفر” (What Jennifer Did) الذي أخرجته “جيني بوبل ويل” (2024)، فهو يحمل تساؤلا مثل تساؤل الكاتبة في روايتها؛ عن ما يمكن للإنسان فعله لو تصور نفسه ذئبا، يخطف ما يريده دون أدنى مرجعية بشرية.

هذا الفيلم الوثائقي المرعب نسبيا، ظل مدة طويلة الفيلم الأكثر مشاهدة على منصة “نتفليكس” في أمريكا وعدد من البلدان الأخرى، مع أن قصته تحدث في كندا.

“لم تكن النتيجة مفاجأة بل عملية تفكيك بطيئة”

يروي الفيلم حكاية حدثت في نوفمبر/ تشرين الأول 2010، حين اقتُحم منزل أسرة فيتنامية تقيم في حي كندي هادئ، وقُتلت الأم، وتُرك الأب في جراحه المميتة. ومع التحقيقات حُكم على الابنة الوحيدة “جنيفر بان”، البالغة من العمر 28 عاما آنذاك، بالسجن مدى الحياة، بتهمة استئجار قتلة لقتل والديها.

اعتمد سيناريو الفيلم على رسائل البريد والمقابلات مع المحققين في القضية، وهو يبدأ من منطقة حميمية تماما لفتاة بريئة تبكي على أسرتها وتعزف البيانو، لكنها تتحول ببطء إلى مجرمة متهمة بجريمة قتل من الدرجة الأولى لوالديها.

الملصق الدعائي للفيلم

أثار الفيلم جدلا كبيرا، مع أنه سلك طريقا مذهلا لسرد القصة، من غير أن يكون أداة إدانة لتصرفات الفتاة. تقول المخرجة: لم تكن هذه النتيجة مفاجأة فورية، بل كانت عملية تفكيك بطيئة، ومن سوء الحظ أنها -كما يبدو- لم تكن قادرة على التحدث إلى الناس المناسبين عن مشاعرها، وما كانت تشعر به.

ويبدو أن المخرجة منذ فيلمها الوثائقي “القتل الأمريكي.. العائلة المجاورة” (American Murder: The Family Next Door)، أصبحت مولعة بقصص الجريمة الحقيقية، جرائم الأسر التي يغدو أفرادها ذئابا فاقدي الإحساس بالندم أو الذنب.

التلفزيون الرسمي يبث خبر الجريمة

ومع أنها ربما تسرّعت قليلا في فيلمها الأول بتحاملها على أبطاله، فإنها في هذا الفيلم كانت تدرك جيدا قيمة السعي لتورط المشاهد من البداية للنهاية، ويبدو أنها نجحت في ذلك بدرجة تجعل الفيلم أفضل إنتاجات “نتفليكس” الوثائقية هذا العام. ويحاول هذا المقال تفكيك أسباب هذا الحكم.

“ما فعلته جنيفر”.. عودة الإثارة لقضية قديمة

كانت تسمية فيلم “ما فعلته جنيفر” تبدو تلطيفا مبدئيا للمأساة، فالفيلم يتساءل ويتشكك، وبدلا من الصدمة وصب الغضب على البطلة، فهو يتساءل عن ما أوصلها للتفكير في قتل والديها، حتى أنه يلجأ إلى الحكم الذي نالته حديثا، عندما ألغت محكمة الاستئناف في أونتاريو إدانتها والمتهمين الثلاثة الآخرين بالقتل من الدرجة الأولى.

وقالت المحكمة إنه كان ينبغي لقاضي المحاكمة أن يمنح هيئة المحلفين فرصة لاختيار الحكم بالقتل من الدرجة الثانية والقتل غير العمد.

يعيد الفيلم الانتباه إلى القضية، وهي تعد قديمة نوعا ما، وذلك بقوة سرده وتأمله فيها من مختلف جوانبها، بعيدا عن النظرة الغاضبة لها. ويبحث العمل عن قاتل ثالث، أو يتساءل حول قدرة البشر على الإيذاء بالأنانية المفرطة.

الفتاة “جنيفر” تتسبب بمقتل والدتها وإصابة والدها

ومع أن والد الفتاة رفض إجراء مقابلة في الفيلم، فإن قصة الفيلم لا تفقد أي نقاط قوة سردية للحدث، ويبدو الصنّاع في حالة تأمل وتتبع للفتاة الذئبة، التي تبدو في لحظة ما من حياتها قد تخلصت تماما من بشريتها، بهدف الهرب من المنزل الكئيب، فتستأجر مجرمين لقتل والديها. كيف يبدو ذلك؟ هكذا يسير الفيلم على الحبل، ويجعل المشاهد يكتم أنفاسه مدة ساعتين من المشاهدة.

يعتمد فيلم “ما فعلته جنيفر” على الأبحاث ولقطات الشرطة التي استخدمها مراسل الجرائم “جيريمي غريمالدي” في كتابه الذي كتبه عن القضية: “قصة جنيفر بان” (2016).

وجد “غريمالدي” في سجلات 2014 رسائل نصية من هاتف “جنيفر”، تظهر أن عشيقها “وونغ” قال إنه تعاون مع قاتل محترف. وتقول الشرطة إنه أراد وفاة الوالدين، لأنه كان يأمل الاستفادة من التأمين على الحياة والمنزل الذي سيدخل إليه، ربما لتمويل تجارته بالمخدرات.

تتفكك الأحداث تباعا، وتجعل القصة أكثر إقناعا وتماسكا، وبدلا من إدانة أي تصرف، يقرر الفيلم أن يكتفي بالتساؤل، فكل حركة للكاميرا أو حديث عابر في الفيلم هو فكرة جيدة للتأمل في حياة الفتاة الوحيدة التي فكرت في قتل أسرتها.

استخدام الذكاء الصناعي.. اتهامات للفيلم قبل عرضه

كانت القصة المرعبة موضع تعجب بانتشارها المرعب بين المشاهدين، فلماذا يرغب الناس أساسا في الاستماع إلى قصة بتلك الوحشية؟ وربما ذلك أول الأسئلة التي يطرحها الفيلم.

الشيء اللافت للأنظار في الفيلم هو تلك الاتهامات الكثيرة التي واجهها من رواد مواقع التواصل والمواقع الصحفية، فقد ادعوا وجود علامات للتلاعب ببعض الصور في الفيلم، باستخدام الذكاء الصناعي، إذ تظهر أجزاء مشوهة ومفقودة من ملامح الوجه.

رواد مواقع التواصل يدّعون بوجود تلاعب ببعض الصور في الفيلم

اكتشاف علامات التزوير دفع كثيرين إلى التشكيك في صحة الفيلم والصور التي يعرضها، لا سيما أن بطلة الفيلم “جنيفر بان” حاليا في السجن بانتظار إعادة محاكمتها.

ويوفر الفيلم بيئة مناسبة لإخراج غضب وتلصص وتساؤل الجميع، ويحكي قصته بهدوء مماثل لهدوء القتلة الذين قتلوا الأم، وتسببوا في جروح كادت تقتل الأب، في حين نجت ابنتهما بشكل غريب ولم تصب أدنى إصابة، وهو الشيء الذي بدأ من عنده التعجب وإعادة التفكير في القضية كلها، على أساس أنها قضية مدبّرة، وليست قضية قتل وسرقة معتادة.

مركز الشرطة.. اتصال من حي هادئ في أونتاريو

يبدأ الفيلم من اللحظة التي تجلس فيها الفتاة لتروي قصتها للشرطة، من أجل الوصول للجاني، وبينما تتعاطف الكاميرا مع الفتاة التي تبكي على والديها، يترقب الجميع الأكاذيب التي تحكيها، وندمها المتدرج الذي يتضح مع أفعالها الجسمانية المرتبكة.

ففي 8 نوفمبر/ تشرين الثاني 2010، تلقت الشرطة مكالمة من منزل عائلة تقطن حيا سكنيا هادئا في أونتاريو بكندا. وقد أخبرت “جنيفر بان” الشرطة هاتفيا أنها كانت في المنزل مع والديها عندما اقتحم مسلحون المنزل، وطالبوا بالمال.

لم تُظهر كاميرات المراقبة دخول المجرمين للبيت عنوة

وقالت -وهي الشاهدة الوحيدة الباقية- إن المتسللين قيدوها، وأطلقوا النار على والديها، ثم فروا من مكان الحادث.

توفيت الوالدة “بيتش ها” فورا، لكن الوالد نجا بأعجوبة من إصابته بطلق ناري، وكان في حاجة ماسة إلى الرعاية الطبية، وكان يُتصور في البداية أن العائلة قد استُهدفت عشوائيا في غزو المنزل المميت.

“جنيفر”.. حياة ورقية من الأكاذيب والمزاعم

بدأ المحققون يشكون في “جنيفر” بعد ظهور المزيد من التفاصيل، كما التقطت كاميرا أمنية لأحد الجيران لقطات لثلاثة رجال، يدخلون المنزل من دون أي علامات دخول عنوة.

كانت “جنيفر” تعيش مع والديها في ذلك الوقت، وقد أخبرتهما بعدة أكاذيب، منها تخرجها بالمدرسة الثانوية والتحاقها بالجامعة، حتى أنها ذهبت إلى أبعد من ذلك فيما يتعلق ببطاقات تقارير الفوتوشوب ووثائق القروض الطلابية.

“جنيفر” تدلي بأقوالها في المحكمة، ومحاميها جالس خلفها

فقد تظاهرت أنها تسعى لنيل شهادة جامعية في جامعة “رايرسون” (المعروفة الآن باسم جامعة تورونتو متروبوليتان)، وجعلت والديها يقودونها للحضور. لقد باتت حياة الفتاة كلها أشبه بكذبة كبيرة.

يؤكد الفيلم في كل حركة أنه يتخطى المعضلات الأخلاقية لأفلام الجرائم الحقيقية التي تصلح عليها تسمية المخرج “سام هوبكينسون” بالعبقرية الشريرة. ويخبرنا المحقق منذ البداية أنه تعجب من وقوع الجريمة في تلك المقاطعة الهادئة.

حبيبة تاجر المخدرات.. ضربة قاتلة من فتك الذئاب

نشأت “جنيفر” في عائلة فيتنامية الأصل، كانت تدفع ابنتها الوحيدة في كل مساحة للتفوق والاجتهاد في الدراسة، وتمنع لقاءها مع حبيبها الذي اختارته، ولا يعبأ صنّاع الفيلم بكون حبيبها ذلك مجرد عامل بيتزا وتاجر مخدرات، ويبدو أن الفيلم -في لحظة حرجة- يتجاوز قصته، ويجعلنا نفكر أكثر في مساحات الحرية المطلقة، التي يطلبها ذلك الجيل من دون رقابة أو احقية في الرفض.

أراد الوالد أن تصبح ابنته صيدلية، وكانت والدتها تحلم بأن تصبح عازفة بيانو محترفة، أما هي فقد أرادت لنفسها حياة مختلفة، وقد أمضت وقتها في مواعدة “دانييل وونغ”، وهو تاجر مخدرات ذو سجل إجرامي، لذا رفضت العائلة علاقتهما ومنعتها منه، ففكرت في القتل.

انهيار “جنيفر” اثناء التحقيق

وهذا ما يعنيه أن تأخذ ما تريد، من دون النظر لأي شيء آخر، وهذا ما يعنيه أن تكون ذئبا.

لقد استأجرت 3 قتلة محترفين، وهم “ديفيد ميلفاغانام”، و”لينفورد كروفورد”، و”إريك كارتي”، ودخلوا المنزل للقتل، لكنهم لم يقتلوا الأب تماما، لغبائهم منقطع النظير أو من أجل العدالة ذاتها، ولولا ذلك ما تكشّفت الحقائق واحدة تلو الأخرى، بعد إفاقته من الغيبوبة.

وبعد اعتراف الأب أن ابنته بدت عارفة بكل شيء، اعترفت “جنيفر” باستئجار القتلة وترك المنزل مفتوحا للدخول. وقد قال الأب في المحاكمة إنه أصيب برصاصة في رأسه، وعندما استعاد وعيه رأى زوجته ميتة على الأرض، وادعى أيضا أن القتلة أجروا محادثة مع ابنته، ويبدو أنهم يعرفونها، إذ يقول: لم أتمكن من سماع ما يقال، لكنهم كانوا يتحدثون بهدوء.

ربما بدت تلك هي النقطة الأكثر قوة في الفيلم، أي الحفاظ على إيقاع السرد وتجنب الوقوع في فخ الافتعال، وإذا كانت الجريمة قد حدثت بدم بارد وتخطيط ذئاب، فليكن العمل الفني الذي يوثّقها كذلك. الفيلم مليء بلحظات الصمت والتردد، وذلك مما يخدم الشعور بعدم الراحة.

فتح التحقيقات ونبش القضايا الاجتماعية.. دور السينما الوثائقية

فيلم “ما فعلته جنيفر” تحفة فنية، يعرّف بدور السينما الوثائقية في فتح التحقيق والتساؤل، من دون إطلاق أحكام مهما بدت واضحة وسهلة، إنها قصة ملهمة للتساؤل عن الإنسان، ومدى ما يمكن أن يصل إليه من شر لو تنازل عن بشريته، فهذه فتاة وحيدة تتخلص من أهلها لمجرد رفض حبيبها.

ينتج الفيلم تساؤلات سياسية واجتماعية متعددة، تتجاوز قصته التي حدثت منذ سنوات، وما زالت صالحة للاستعادة والتساؤل.

الشرطة تنقل جثة والدة “جنيفر” المغدورة

قطعات مونتاجية حادة أحيانا لخلق التوتر، وأخرى هادئة تجعلك تتلاشى مع كل مشهد، وشريط صوت يدرك جيدا أنه يساعد في إيضاح قصة قتل مزعجة، ويحاول عدم الافتعال والغضب قدر الإمكان.

حتى أن أي شرح أو إفصاح لأحداث الفيلم مباشرة يقتله، وإنما يحتاج إلى المشاهدة والحكم الذاتي على سؤال غريب: لماذ تتورط فتاة في قتل أبويها؟


إعلان