“الصبي ومالك الحزين”.. رقصة مهيبة تتأمل الموت والحياة بمنظور ياباني
هذا هو أول فيلم يخرجه “هاياو “ميازاكي” منذ عقد من الزمن، وكان قد أعلن اعتزال صناعة الأفلام عام 2013، بعد إصدار فيلمه ” صعود الرياح” (The Wind Rises).
لم تكن تلك المرة الأولى التي يعلن فيها “ميازاكي” نهاية مسيرته، ثم يفاجئنا بعمل جديد، ومع ذلك يبدو أحدث أفلامه “الصبي ومالك الحزين” (The Boy and the Heron) مثل رقصة بجع مهيبة، تليق بساحر الأنمي البالغ من العمر 82 عاما، حيث يستكشف “ميازاكي” هنا أكثر زوايا الخسارة عتمة، وصولا لطريق القبول المؤلم، عبر خيال خلاق وحسية غامرة.
فاز الفيلم بجائزة “غولدن جلوب” لأفضل فيلم رسوم متحركة، وهي المرة الأولى التي يفوز بها عمل بلغة غير الإنجليزية، وحصد الفيلم أيضا أوسكار أفضل فيلم رسوم متحركة، وهذه هي المرة الثانية في تاريخ الجائزة التي يفوز بها فيلم ياباني، وكانت المرة الأولى من نصيب “ميازاكي” أيضا عام 2002، عن تحفته “المخطوفة” (Spirited Away).
يعد الفيلم اقتباسا حرا إلى حد كبير من رواية “كيف تعيش” الصادرة عام 1937 للكاتب “جينزبورو يوشينو”، وقد قال “ميازاكي” أكثر من مرة إن الرواية هي كتاب طفولته وصباه المفضل، ومع أن الحبكة تتبدل بين الفيلم والرواية، فإن هناك خيطا عاطفيا مشتركا بينهما؛ فكلاهما يتعمقان في استكشاف فلسفة العيش وسط عالم من الصراع والفقد.
هذا فيلم صُنع بأنفاس كهل في الثمانين، ولكن بخيال طفولي جامح، وحين سئل “ميازاكي” عن إجابة السؤال الذي يسكن العنوان الياباني لفيلمه والمستوحى من روايته المفضلة: كيف تعيش؟ أجاب: “أنا أصنع هذا الفيلم لأنني لا إجابة لدي”.
وما زال “ميازاكي” يحاول الإجابة عن هذا السؤال بفهمه الشخصي للحياة والموت، من خلال حياة مليئة بالخبرة والحكمة.
“الفيلم الأكثر شخصية لدى ميازاكي”
لطالما كان “ميازاكي” دائم الاستعانة بحياته الشخصية في سينماه، ولكن عناصر الذاتية هنا شديدة الوضوح، فطفولة بطل الفيلم “ماهيتو” مستوحاة من طفولة “ميازاكي”، فقد عايش القصف المدمر على اليابان خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عمل والده مديرا في مصنع قطع غيار للطائرات الحربية تابع للعائلة، كما هو حال البطل “ماهيتو”، وكذلك الانتقال من المدينة للريف أثناء الحرب، وفقد والدته في طفولته المبكرة أيضا.
وقد أجرى برنامج “إندي واير” لقاء عبر منصة “زوم” مع “توشيو سوزوكي”، وهو صديق “ميازاكي” وأحد الشركاء المؤسسين لأستوديو “جيبلي”، فقال: أوافق على أنه الفيلم الأكثر شخصية لدى “ميازاكي”، فليس مستوحى من طفولته فحسب، بل من حياته المهنية أيضا في “جيبلي” معي ومع الراحل “إيساو تاكاهاتا” صاحب “قبر اليراعات”. و”ميازاكي” هو “ماهيتو”، و”تاكاهاتا” هو العم الأكبر، وأنا مالك الحزين.
كان “تاكاهاتا” هو من اكتشف موهبة “ميازاكي”، ومنحه فرصته الأولى وساعده على تطوير قدراته، أما علاقته بـ”سوزوكي” فكانت دائما عبارة عن شد وجذب متبادل، كعلاقة الصبي بمالك الحزين.
إذن فهذا الفيلم ليس عن سيرته الشخصية فحسب، بل سيرته الإبداعية أيضا، وعن مملكة “ميازاكي” السحرية وإرثه، حين يقف سيد هذه المملكة متعبا تحت أثر السنين، معترفا بعجزه عن الحفاظ على اتزان مملكته المهددة بالزوال، وباحثا عمن يخلفه، ندرك أن “ميازاكي” يشير إلى نفسه، وهنا يكمن جمال هذا الفيلم، في تعدد طبقاته وحاجته لكثير من التأويل والتفكيك، وهذا فيلم مثالي للوداع.
آلام الفقد.. جسر إلى عالم الموهبة والخيال
“هاياو ميازاكي”: إذا سألتني هل تُشفى تلك الجروح؟ سأقول لك: لا، هذه أمور لا علاج لها، يجب تحملها والمضي قدما.
ولد “ميازاكي” في قلب كابوس الحرب العالمية الثانية، وكان خيال الكارثة رفيق طفولته الأولى، ثم فقد والدته في عامه العاشر، بعد صراع مؤلم مع مرض السل.
ولأن الموهبة والجرح قرينان، وُلد إبداع “ميازاكي” من رماد هذه التجارب المؤلمة التي عذبت طفولته، وأدرك مبكرا ظلمة العالم من حوله، وكان الخيال طريقه الملكي لمواجهة هذا الظلام.
ستجد ظلال الصدمة والفقدان في كل أفلام “ميازاكي” خلال مشاهد الدمار والكارثة، مثل زلزال طوكيو عام 1923 في فيلمه “صعود الرياح”، وفي “الصبي ومالك الحزين” يتعمق المشهد الافتتاحي فورا في موضوع الخسارة.
قصف المستشفى.. خسارة تلقي بظلالها على القصة
يستيقظ “ماهيتو” على نبأ قصف المستشفى الذي تعمل فيه والدته، فيركض مذعورا وسط خلفية من اللهب والدخان، ثم يلتهم اللهب المشهد بأكمله، إنه مشهد مذهل في جماليته وتعبيريته، ويتحول المشهد لكابوس يطارد “ماهيتو” الذي فقد والدته في الحريق، وهي خسارة تصحبه ظلالها طوال الفيلم.
بعد عام من المأساة، ينتقل “ماهيتو” مع والده إلى بيت جديد، وقد تزوج الأب أخت زوجته المتوفاة، وهما ينتظران مولودا، أما “ماهيتو” فلا يزال يعاني في حداده، ويكافح من أجل تقبل حياته الجديدة عبر رحلة واقعية وباطنية، وسرد يغلب عليه منطق الأحلام.
تجد شخصيات “ميازاكي” حقيقتها الخاصة وحقيقة العالم حين تترك عالمها المألوف، وتخوض مغامرتها في المجهول، في حالة الصبي ومالك الحزين، فإن تهور البطل في اتخاذ قرار دخول المبنى الملعون لعائلته، يسمح له بتجاوز الألم الناجم عن وفاة والدته، والبدء في علاج علاقته بزوجة أبيه.
ويمنحنا “ميازاكي” دائما -حتى في أشد تعبيراته المروعة عن الفقد- محفزا للأمل والقبول، هذه الرحلة هي إجمالا فيلم “ميازاكي”، وربما كل سينماه التي يكاد جوهرها العاطفي أن يكون صوفيّا يمتزج فيه القبول بالرضا والفرح.
“مرآة سحرية تعكس بعض جوانب عالمنا الداخلي”
يقول المحلل النفسي “برونو بيتلهيم”، مؤلف كتاب “استخدامات السحر.. معنى وأهمية القصص الخيالية”: إن كل قصة خيالية هي مرآة سحرية تعكس بعض جوانب عالمنا الداخلي، والخطوات المطلوبة لتطورنا من عدم النضج إلى النضج.
لعله أعظم أفلام الإنمي في تاريخ السينما
ينزلق “ماهيتو” مثل كثير من أبطال “ميازاكي” إلى عالم خيالي، عالم بديل يمزج الغرابة بالجمال، كما يستضيف دائرة كاملة من الحياة.
فيلم “ميازاكي” على نحو ما هو رحلة “ماهيتو” عبر الهذيان الناجم عن الحمى وهذيان الفقد، وعلى نحو آخر هو حكاية قديمة لطفل يدخل عالما سحريا ويخضع لتحول نفسي.
ومع أن السرد غامض غموض الأحلام، فإنه ذو منطق نفسي واضح، كيف بدأت رحلة “ماهيتو” إلى الجانب الآخر من المرآة؟
وحيد في الحداد.. حماية الراحلين داخل أسوار الذاكرة
إنّ عجز “ماهيتو” عن المضي قدما والتكيف مع الواقع واضح في كوابيسه المستمرة حول والدته ونضاله لقبول “ناتسوكو” زوجة أبيه، فـ”ماهيتو” يشعر أنه وحيد في حداده، وكل شيء يدفعه للمضي قدما، وهو يشعر أن ذلك خيانة لذكرى والدته التي لم يتح له الزمان وداعها.
تحاول خالته (الأم الجديدة) أن تقترب منه، ولكنه يختار البعد ويراه نوعا من الوفاء للأم التي تطارده في كوابيسه صارخة “أنقذني يا ماهيتو”، يشعر أن الإبقاء على ذكرى الأم هو واجبه الشخصي، وأن عليه أن يحميها من براثن النسيان.
تبدأ الرحلة الحقيقية للجانب الآخر حين تختفي “ناتسوكو” التي رآها تتوجه نحو الغابة المحيطة بالبيت والمؤدية إلى البرج المسكون، وما يحركه هنا هو الخوف من تكرر الفقدان، هذا هو منطق الصدمة؛ الخوف من تكرار التجربة الشعورية، ها هو ذا يوشك أن يخسر أمه ثانية.
العناق الثلاثي.. ضوء أخضر لتقبل الواقع
رحلة الفيلم في العالم الواقعي والخيالي هي رحلة من رفض الواقع وعدم تقبل الخسارة، إلى التقبل والمضي قدما، فنشاهد قرب نهاية الرحلة التقاء “ماهيتو” مع نسخة طفلة من أمه المتوفاة وأمه الجديدة في مشهد أقرب لعناق ثلاثي، وكأنها تمنحه الإذن في أن يواصل حياته ويتقبل واقعه الجديد من غير إحساس بالذنب.
في هذا الفيلم يلهم الخيال “ماهيتو” ويمكّنه من التوصل إلى فهم ما هو خفي، والتواصل مع مستوى أعمق من الخبرة الإنسانية. ومن الواضح هنا أن “ميازاكي” يقدّر اللاوعي بقدر الوعي، ويعول على الإلهي داخل اللاوعي أيضا.
وعلى عتبة العالم الخيالي يقف “ماهيتو” في مدخل البرج أمام قوس حجري كتب عليه باللاتينية “خلقت بالقوة الإلهية”، وهنا يكون “ميازاكي” أقرب إلى عالم النفس “كارل يونغ” من “سيغموند فرويد” في فهمه للاوعي.
فالفهم الفرويدي لفكرة اللاوعي قاصر على الرغبات المكبوتة والقصص الجريحة الشخصية التي نهرب منها، أما “يونغ” فيذهب إلى ما هو أبعد من الشخصي نحو حكمة موروثة غير شخصية وغير زمنية، مع وميض برق إلهي يدفع الإنسان لاكتشاف إمكاناته الكامنة في الظل.
رموز الحكاية من منظور “يونغ”.. نبش في الأعماق
ينتقل “ماهيتو” إلى بيت جديد قرب الماء، والماء في منظور “كارل يونغ” هو رمز اللاوعي، وتشير رمزية البرج إلى الحدود الفاصلة بين ما هو ظاهر وخفي، ويشير أيضا إلى التغيير وتبدل المنظور بعد كارثة ما، فالبرج هو لحظة يواجهها “ماهيتو” حين ينتقل للبيت الريفي بعد كارثة الفقد.
يرى الفولكلور الياباني أن مالك الحزين إلهي، لقدرته على اجتياز العناصر الثلاثة؛ الأرض والهواء والماء، ويرى أنه أيضا رسول الأعماق، لأنه مرتبط بالماء. فنجده يحوم حول “ماهيتو” وينقر زجاج غرفته، ثم يقوده إلى البرج الذي هو مدخل لعالم الأعماق.
يمثل مالك الحزين على المستوى النفسي أحد ظلال لاوعي الصبي، فقد ظل يرفض موت الأم، ويمنع بذلك شفاء الطفل الداخلي، وهذا يفسر عدائية “ماهيتو” تجاهه ومحاولة قتله، ثم تكوين صداقة معه، وكأنه نوع من الاحتضان لهذا الظل.
كثير مما يحدث لـ”ماهيتو” في رحلته هو تجسيد للعوائق التي تعوق تحرره، مثل عاصفة الأوراق التي تلف جسده وتعمي عينيه، وتلك محاولة للتصالح مع وفاة والدته في الحريق، وتمثل تجسدات الأم المختلفة في هذا العالم ما يسميه “يونغ” بالأنما أو الجانب الأنثوي بداخلنا، وهو يمثل الحب والدفء والرعاية، كما يمثل العم الأكبر نموذج الحكمة الباحث دائما عن المعرفة.
“رثاء الأشياء”.. سلاح ياباني لمواجهة أثقال الحياة
بعيدا عن محاولة التفكيك الواعية للرموز التي يمتلئ بها فيلم “ميازاكي”، يبقى عالم الأعماق مثل وليمة بصرية شديدة الإثارة والحسية، عليك فقط أن تدع نفسك لتدفق الصور وما تثيره فيك من مشاعر وأفكار.
يقول “كارل يونغ”: ربما يتعين على المرء أن يكون قريبا من الموت، حتى يكتسب الحرية اللازمة للحديث عنه.
وهناك واحدة من جماليات الفن الياباني تسمى” رثاء الأشياء” (Mono no aware)، ويمكن أن نترجمها -بشيء من الحرية- بأنها الإدراك العذب والحزين لحقيقة زوال الأشياء.
يحمل الفيلم هذا الإدراك مثل دفق نهري هادئ وهامس يدعونا للانتصار دائما لما بقي وتقبل ما فقد، هذه الخسارة الكامنة في قلب كل الأشياء هي جزء من جمال هذا العالم.
واقعية الحياة.. رفض لأوهام العالم المثالي النقي
يتجلى الموت في هذا الفيلم ممثلا بداية جديدة في عالم دائري الزمن، فالموت ليس إلا نقطة في محيط لا نهاية له. فحين يجد “ماهيتو” نسخة والدته من رواية “كيف تعيش” يتساءل: هل كانت تحدس بموتها المبكر؟ ما الذي فعلته الأم/ الطفلة حين اختفت عاما؟ هل التقت بابنها المستقبلي في رواق الزمن واختارت حياتها كما هي لتنجب هذا الفتى الجميل والشجاع؟ لا شيء يبدو نهائيّا على نحو قاطع هنا.
تأتي ذروة الفيلم حين يعرض العم الأكبر على “ماهيتو” حفنة من الكتل السحرية غير الملوثة بالحقد، يمكنه أن يبني بها أساسا نقيا لعالم مثالي، لكن “ماهيتو” يفضل عالمه بتناقضاته، وفي الأساس يقدم عم “ماهيتو” الأكبر له الفرصة لخلق عالم خيالي مثالي خالٍ من المعاناة.
يرفض “ماهيتو” ذلك مشيرا إلى الجرح الذي أحدثه بنفسه في رأسه، إنه جزء من هذا العالم بظلامه ونوره، لقد أدرك الصبي أن المعاناة ضرورية للحياة، رافضا وهمَ النقاء والكمال، فدائما ما ينبت شيء جديد من رماد الخسارة.
يجسد فيلم “ميازاكي” تأملا ناضجا -وربما متفائلا- بشأن الحياة والموت، إنه فيلم رائع متعدد الطبقات معقد، وربما يقدم أكثر مما يعِد به ظاهره، وأظنه سيخضع خلال السنوات القادمة للمزيد من التفكيك والتقدير لقيمته.