“عبير العراق”.. فرنسي من الفلوجة يحمل أعباء الوطن على كتفيه

من مكانه في العاصمة الفرنسية باريس، كان العراقي أمير العاني يراقب سنين عددا ما كان يحصل في بلده بألم كبير، ولم يكن قادرا على الذهاب إليه، لأسباب تتعلق بماضيه في العمل السياسي، الذي بدأ منذ الستينيات.

ورّث الرجل حب العراق لولده فرات، واشتبكت حياة الابن مع واقع العراق المعقد، وحددت لاحقا مسارات حياته، فدفعته للعمل صحفيا، وقد غطى الأحداث العنيفة في العراق منذ 2005.

اختار المخرج “ليونارد كوهين” الرسوم المتحركة واسطة لمقاربة قصة عائلة العاني، التي هي موضوع الفيلم الطويل “عبير العراق” (Flavours of Iraq)، وهي مغامرة ستكون نتائجها مبهرة ومرضية كثيرا. ويستند العمل إلى كتاب لفرات العاني، صدر بالفرنسية قبل سنوات.

يفتح التحريك قصة العائلية العراقية على آفاق كبيرة من الخيال والتجريب، ويضعك عاطفيا في قلب مأساة البلد العربي، مرتكزا على سيناريو وازَن ببراعة كبيرة بين الهموم الذاتية الخاصة، والنكبات العامة التي مر بها العراق.

هذه هي المرة الثانية التي يعود فيها المخرج لقصة عائلة العاني، وقد أنجز عنها فيلما قصيرا عام 2018، ونال اهتماما نقديا مهما، دفعه للعودة للحكاية مرة أخرى، ليفرد هذه المرة زمنا إضافيا لها.

فرات يسأل والده: لماذا نعيش في فرنسا؟

هذا الزمن الإضافي هو الذي سيضيف نفَسا ملحميا للفيلم، ويمنحه مساحة زمنية مناسبة، هي لازمة مهمة للأفلام التاريخية الناجحة، من التي تمر على أحداث كثيرة توزعت على عقود، مانحا كل تلك الأحداث قيمتها التاريخية والعاطفية.

موت الأب.. افتتاحية تفتح آفاق التساؤلات

يبدأ الفيلم بتجمع لعراقيين وعراقيات في بيت عائلة العاني، تجمعوا لإحياء مناسبة حزينة، فقد جاؤوا ليتذكروا صديقهم أمير الذي رحل قبل أيام. هذه مناسبة لهم -وهم المنفيون مثله- لتذكر حياتهم السابقة، وتذكر البلد الذي تعذبوا في حبه.

ملصق فيلم “عبير العراق”

لم تكن البداية السوداوية تشير إلى الطاقة التي ستتفجر لاحقا في الفيلم، فقد اختار الفيلم مقاربة مليئة بالحيوية، وستكون مهمة كثيرا لحمل القصص المأساوية التي مرت على الشخصيات والبلد الذين أتوا منه.

ما تكرسه المشاهد الافتتاحية بجودة كبيرة، هو أن القصة والشخصيات التي يتناولها هي بعيدة كثيرا عن التبسيط، وحياتها تتشكل من طبقات من التعقيد، فأصحاب الأب مختلفين في نظرتهم للعراق، وحتى في تقييمهم لصاحبهم الراحل، فهل كان مسار حياته الذي اختار لنفسه هو الأفضل له، أم أنه أوقع نفسه في عثرات وكان ضحية عناده وغضبه الزائد؟

يدخل الابن مسرح الأحداث في الدقائق الأولى، ليكمل المقاربة الكاشفة الصادقة، فيستذكر في مونتاج سريع تاريخ عائلته، التي خيّم عليها حزن الأب الدائم وشروده، وسيجارته المشتعلة دائما.

لم تكن حياة الطفل عادية، بل تربى على الحلم بذاك البلد البعيد، الذي لا يمكن عد نخيله، وأنهاره تتدفق دائما بالمياه، وبيوته واسعة وكبيرة، على عكس الشقة الصغيرة التي يعيشون فيها بإحدى ضواحي باريس.

العراق الدافئ.. انبهار الرحلة الأولى إلى الوطن

يعود الفيلم في الزمن إلى مراحل تاريخية عدة، فأحيانا يرجع إلى شباب الأب، ومرات إلى السنوات الصعبة التي مر بها بعد صعود حزب البعث العراقي، وإعلانه عداء الحزب الشيوعي العراقي، الذي كان ينتمي إليه الأب فكريا وتنظيميا. ويمر الفيلم على الحرب العراقية الإيرانية، ويصل إلى نهايتها عام 1988.

فرات في زيارته الأولى للعراق

في عام 1989، وهي السنة التي شهدت سلاما غير مسبوق في العراق، قررت الأم وابنها فرات الذهاب إلى بغداد، لكن الأب لم يجرؤ على الذهاب. عندما يصل الفيلم إلى العراق تتبدل ألوانه، لتعكس حرارة ألوان البلد الحارة.

حتى أن الرسوم المتحركة للشخصيات التي تعيش في العراق بدت مختلفة عن تلك التي تعيش في فرنسا، لا لتعكس الفروق العرقية فقط، بل لتبرز الحالة النفسية للذين كانوا في العراق.

تدب طاقة مضاعفة في الجزء العراقي، فتعكس لهفة البطل وأمنيته، التي تحققت بعد لأي في الوصول إلى بلد الأهل، وكان يحلم به منذ سنوات.

تتسلل الكوميديا إلى هذا الجزء من الفيلم، لا سيما عندما يصف فرات لقاءاته الأولى مع أقرباء والدته في بغداد، وعائلة والده في الفلوجة غرب العراق.

طعم المثلجات في بغداد أطيب من أي مكان آخر

تلك الكوميديا وطبيعة الرسومات في زمن الفيلم بالعراق، تعكس عالم الطفل فرات، الذي كان يكتشف بيئة غريبة عليه.

في أحد المشاهد الكوميدية، يصف فرات لقاءه بأعمامه، الذين يبدون متشابهين وهم يلبسون زيا شعبيا موحدا. وهناك أيضا مشاهد لانبهاره بابن خالته الطالب الجامعي، فقد كان يعيش في بيت كبير بمنطقة غنية من بغداد، وكان يملك سيارة حديثة، وقد أخذه إلى مناطق جديدة في بغداد، وإلى محل لبيع المثلجات، فوجدها أطيب كثيرا من مثلجات باريس.

“قررتُ أن أنسى العراق، وأن أكون صبيا فرنسيا فقط”

على شاشة التلفزيون الفرنسي، يسمع فرات باحتلال العراق للكويت عام 1990، وبهذا سينتهي السلام القصير في البلد، لكن فرات لا يترك زيارة العراق، بل يذهب في السنوات اللاحقة مع أمه إلى هناك، فوجدها بلدا آخر مختلفا، فقد بدأ حينها الحصار على العراق، وكانت له آثار مدمرة على البلد.

يوم سقطت بغداد.. مسار لا عودة منه

يستعيد الفيلم من مذكرات فرات تفاصيل وحوادث مؤلمة، من رحلاته إلى العراق أثناء الحصار الاقتصادي، (1990-2003)، ويبدو أنها تركت آثارا نفسية عميقة في روحه، منها زيارته لعائلة والده في الفلوجة، وقد لاحظ غياب السلع الأساسية من السوق، والفقر الذي كان باديا على بعض الناس هناك، حتى أن عائلة والدته الغنية بدت تعاني.

ففي واحد من مشاهد الفيلم المعبرة، يجتمع فتيان من الحي البغدادي الغني حول فرات، لمشاهدة حذائه الأجنبي الذي يحمل اسم علامة تجارية معروفة، لم يعودوا يستطيعون شراءها، لعدم توفرها أصلا في الأسواق.

فرات يعود للعراق بعد خرابها

أثّرت رحلات العراق في منتصف التسعينيات كثيرا على نفسية فرات، كما أثر عليه تشتته بين عالمين، فقد كان الفرنسيون يسمونه “العراقي”، والعراقيون يرونه غريبا أوروبيا لا ينتمي إليهم تماما.

يقول في التعليق الصوتي “قررتُ أن أنسى العراق، وأن أكون صبيا فرنسيا فقط”. بيد أن ذلك سيكون قرارا مؤقتا فقط، وسوف يعود بقوة بعدها إلى العراق، وفي ظروف عنيفة كثيرا.

ما بعد الغزو الأمريكي.. صورة العراق بعين الصحفي

عندما وصل فرات إلى العراق عام 2005، وجد بلدا مختلفا بانتظاره، فالفلوجة مدينة والده كانت مركز القتال ضد الاحتلال الأمريكي، والقصف المدمر كاد يزيلها من الوجود. وآثار الحرب طالت عائلة والده، وقُتل منها أعمام له.

وكذلك الحال في بغداد، فقد فقدت بهجتها، ومزق أوصالها العنف الطائفي، فأصبحت مناطق معزولة عن بعضها.

يهتم القسم الأخير من الفيلم بالحرب الأمريكية وويلاتها، وقد شهد عليها فرات من مكانه المتقدم بصفته صحفيا. ويمر الفيلم على أكثر محطات الحرب، ومنها القتال ضد الأمريكيين وصعود القاعدة، وفضيحة سجن أبو غريب.

كما يتناول دخول العراقيين السنّة -الذين تنتمي إليهم عائلته- إلى ما يعرف بالصحوات العشائرية ضد التطرف، وقد كانت لذلك أثمان كبيرة دفعتها العائلة، ففقدت بعض أفرادها في أعمال مسلحة.

فرات يعود إلى العراق صحفيا يغطي الحرب

وبعد عقود من الغياب، يزور الأب العراق أول مرة، لكن زيارته كانت صدمة على كل المقاييس، فالبلد الذي حلم به عقودا قد تغير كثيرا، حتى أنه أحيانا يصعب التعرف عليه، بسبب الدمار والفوضى التي كانت تجتاح البلد.

حتى محاولة الأب إعادة خيوط صداقاته القديمة كانت نتائجها فاجعة له، فقد اغتيل صديق له في المقهى بينما كانا معا، ثم قرر الأب بعدها الرجوع إلى فرنسا، وعدم التفكير بالعودة إلى العراق أبدا.

أساليب التجريب تؤسس عوالم نفسية خلاقة

يتنقل الفيلم بسلاسة لافتة بين المراحل التاريخية، ويتنقل عبر مونتاج حيوي بين حالات نفسية شتى، فزاوية الصورة كانت تحلق في مشاهد على الشخصيات والناس، وهي تمر في منعطفات مهمة في حياتها.

كما يوظف الفيلم عناصر من الواقع العراقي، ويفعل ذلك مرارا مع صوت الرئيس صدام حسين وصورته، وكذلك الحال مع مقاطع من التلفزيون الفرنسي، كانت تعلن أحداثا مفصلية في العراق، منها انتهاء الحرب العراقية الإيرانية عام 1988، واحتلال الكويت عام 1990.

هل أنا عراقي أم فرنسي؟

يجرب الفيلم في مساحات متنوعة في أسلوب الرسوم المتحركة، ويؤسس لعوالم نفسية خلاقة، فمثلا يختار أن لا يعطي الشخصيات أفواها في وجوههم، لكنه يفعل ذلك في مشاهد معينة، ليضيف قوة مضاعفة على هذه المشاهد، عندما ينقل الفم مشاعر أو انفعالات جديدة.

كما يجرب في رواية أحداث تاريخية نعرفها جميعا، فيعيد تقديمها ضمن تشكيلات متنوعة، تقترب من الأعمال الفنية التشكيلية.

إضافة مميزة ترصع سينما التحريك في العالم

في الفيلم تجديد كثير، وليس من المبالغة القول إنه إضافة إلى منجز سينما التحريك في العالم، شأنه شأن فيلم “برسبوليس” (Persepolis) للمخرجين “فينسان بارونو” ومارجان ساترابي” (2007)، الذي يروي تجارب نساء في الثورة الإيرانية الاسلامية.

لقد بدا التحريك واسطة مثالية لرواية قصة العائلة العراقية، بل كان يمكن أن تفقد القصة كثيرا من قوتها، لو لم تقارب وثائقيا مثلا.

ملصق فيلم “برسبوليس”

يفتح الفيلم الخيال على مصراعيه، فيعرض مشاهد مفاجئة في ابتكارها، مثل تلك التي أظهرت حضور الرئيس صدام حسين في الحياة العامة بالعراق عقودا.

كما يصل الفيلم إلى ذروات عاطفية مؤثرة حقا، ويمنح شخصياته العمق الوجداني الذي ينقل معاناتها الطويلة، كما يفعل مع الأب الذي لا نراه يتكلم ولا لمرة واحدة، لكنه -كما بدا- كان يحمل هموم جيل كامل من أبناء بلده، راقبوا أحلامهم تتلاشى في دخان الحروب.


إعلان