“لا أحد يفهم عنها شيئا”.. صداقة القذافي المريبة التي قادت “ساركوزي” إلى المحكمة

لم تتناول الصحافة الفرنسية تناولها المعتاد في حديثها عن الفيلم الوثائقي “لا أحد يفهم عنها شيئا” (Personne n’y comprend rien) للمخرج الفرنسي “يانيك كيرغوات” (2024)، ولم تتهافت بانتقاداتها كما تفعل مع كل الأفلام الجديدة التي تخرج أسبوعيا في فرنسا.

بل اكتفت 15 صحيفة وموقعا بالكتابة عنه (في العادة تبلغ المقالات عن الفيلم أربعين)، وبلغ قييمه 3,5 درجات من 5، وقد تسارع الجمهور لرؤية الفيلم، وتسابقوا على إبداء آرائهم على موقع فرنسي للسينما، فارتفع تقييم الفيلم إلى 4,6 من 5.

هذا التفاوت الكبير بين التقييمين ليس دليلا على هوة ثقافية بل مجتمعية، فالفيلم يتداول ما يقوله الناس فيما بينهم حول هذه العلاقة المريبة التي تربط السياسيين بالإعلام، ويلبي تعطشهم للاطلاع على بعض خفاياها.

وأهمّ من ذلك رغبتهم بمعرفة ما كشف من معلومات تتعلق بفساد السياسيين، وهو هنا يتحدث عن الرئيس “نيكولا ساركوزي” وفريقه، ومدى صحة اتهامه بكسب الملايين من الزعيم الليبي معمر القذافي، لتمويل حملته الانتخابية.

محاكمة الرئيس.. لحظة مثالية لجذب الجمهور إلى الفيلم

كان ارتباط موعد عرض الفيلم بحدث سياسي حالي، مما زاد فضول الجمهور للإقبال على الفيلم، وذهابهم إلى ما هو أبعد من هذا، بالمشاركة بكثافة في تقييمه.

فقد تزامن العرض في الصالات الفرنسية مع محاكمة الرئيس “نيكولا ساركوزي”، وثلاثة من وزرائه السابقين، وبضعة نفر آخرين، في يوم الاثنين 6 يناير/ كانون الثاني، وذلك بتهمة “الفساد السلبي (بمعنى مُرتَشون)، والتمويل غير المشروع لحملة انتخابية، والتآمر الجنائي، وإخفاء واختلاس أموال عامة ليبية”.

دفع القذافي 5 ملايين يورو لحملة انتخابات “ساركوزي”

وقد جذبت المحاكمة اهتمام 270 صحفيا، منهم 40% أجانب، وذلك بسبب شهرة هذه القضية على نطاق واسع، وكانت صحيفة “ميديا بارت” الفرنسية قد كشفتها على موقعها منذ عام 2011، وقررت إنتاج الفيلم، ودعمتها تبرعات آلاف الأفراد العاديين.

“ميديا بارت”.. صحيفة التحقيقات التي أطلقت الشرارة

“ميديا بارت” صحيفة فرنسية استقصائية مستقلة على الإنترنت، تنشر بالفرنسية والإنجليزية والإسبانية، وقد أنشأها في عام 2008 “إدوي بلينيل”، وكان رئيس تحرير في صحيفة “لي موند”.

اشتُهرت “ميديا بارت” لقيامها بمئات التحقيقات حول الفساد السياسي والمالي والأضرار البيئية، وعن العنف الاجتماعي والجنسي والشرطي. ومن المهم القول إن المحكمة الفرنسية قررت التدخل بناء على ما نشرته الصحيفة من معلومات.

الصحفيان “فابريس عرفي” و”كارل لاسك” من صحيفة “ميديا بارت”

كتب نص الفيلم صحفيون من “ميديا بارت”، وهم “فابريس عرفي” و”كارل لاسك” و”هاجدن بيرغ”، وكان الأولان قد نشرا 160 مقالا حول الموضوع منذ عام 2011، وقد نبها قبل عرض الفيلم أمام الجمهور في صالة باريسية، إلى أن كل ما يقدمه من إثباتات ودلائل ليست للحكم أو للاتهام، فتلك مهمة متروكة للقضاة.

شهادة الصحفيين المدعومة بالوثائق والصور

اعتمد الفيلم في تعريفه بالقضية على التسلسل الزمني للأحداث، وجعل شهادات الصحفيين (عرفي ولاسك) محورا لسرده، فقدما نظرتهما معا، وكان لهما الدور الأكبر في الظهور وكشف المعلومات، وشرح أسلوبهما في البحث والاستقصاء لجمعها، مدعمين أقوالهما بنشر وثائق سرية حصلا عليها، وبعضها باللغة العربية.

كما استعان الفيلم بصور ومشاهد قديمة من الرئيس “ساركوزي” ومعاونيه، ومن الزعيم الليبي معمر القذافي، والزيارات واللقاءات التي جرت بين الجميع.

الرئيس “نيكولا ساركوزي” في استقبال الزعيم القذافي

وعلى جدية الموضوع وخطورته، فإن الفيلم لم يخلُ من الطرافة والسخرية، لا سيما حين أظهر “ساركوزي” وهو يدلي بتصريحات تتناقض مع ما يُسرد من معلومات، وقد التقط الفيلم هذه المواقف بكثير من الفطنة والذكاء.

يبدأ الوثائقي بسرد القصة من أولها، حين كان “نيكولا ساركوزي” وزيرا للداخلية، وكان طامحا للترشح للانتخابات الرئاسية عام 2007، وقد التقى بالزعيم الليبي معمر القذافي، للتفاوض على تمويل سري لحملته، مقابل مساعدة القذافي على الاندماج والعودة إلى المحافل الدولية.

كان القذافي يومئذ مُقاطعا في دول الغرب، بسبب اتهامه بدعم الإرهاب وتمويله، ومن ذلك تفجير طائرة “يوتي إيه الفرنسية” في الجو.

لقاءات مريبة مع رجل يقاطعه الغرب

قد كشف الفيلم بالوثائق والصور تحضيرات سرية للقاء، شملت زيارة أكبر المتعاونين مع “ساركوزي”، ومنهم “كلود غيان” الذي التقى عام 2005 مع عبد الله السنوسي، المتهم الأول في قضية تفجير الطائرة الفرنسية.

بدت زيارة “ساركوزي” أمام الكاميرا كأنها لتنظيم الهجرة واللجوء من ليبيا إلى أوروبا، فقد كان وزيرا للداخلية يومئذ، لكنها في الحقيقة كانت بهدف مسائل أخرى في لقاء طويل خارج الكاميرا.

هنا يلخص “فابريس عرفي” أن القضاة أشاروا بهذا الخصوص إلى “اتفاق فساد مزعوم حُضّر بين عامي 2005-2007، بين مكتب نيكولا ساركوزي في وزارة الداخلية، وبين النظام الدكتاتوري الليبي بقيادة معمر القذافي”.

وثائق يكشفها الفيلم تدين “نيكولا ساركوزي” أيام كان وزيرا للداخلية

ويكشف الفيلم أن “ساركوزي” أرسل محاميه للقذافي فيما بعد، لإيجاد وسيلة لتبرئة السنوسي. وكان القذافي يأمل أن يعاد النظر إلى ليبيا على “بلد محترم”، وتكرّس ذلك بدعوته إلى فرنسا بعد نجاح “ساركوزي” في الانتخابات الرئاسية.

أثارت الزيارة يومئذ جدلا كبيرا في فرنسا، وانتُقدت الرئاسة الفرنسية بشدة، لسماحها بنصب خيمة القذافي في حديقة الأليزيه، ولتمديدها الزيارة بناء على طلب القذافي، وذلك مخالف للعرف الدبلوماسي. لكن “ساركوزي” برر كل التجاوزات بحصوله على عقود مربحة لفرنسا.

“المهرج ساركوزي”.. جوانب بغيضة من رجل غدار

أظهر الفيلم جوانب بغيضة من شخصية “ساركوزي”، منها تخليه عن حلفائه السابقين، وأولهم القذافي، ففي 2010 كان “ساركوزي” أول من استقبل المعارضين الليبيين، كما دعا في مجلس الأمن للتدخل في ليبيا، وحينها هدده القذافي بكشف السر، وسماه بالمهرج “ساركوزي”، ولكن الأوان كان قد فات، مع ما يعرفه الجميع عن نهاية القذافي.

الملصق الدعائي للفيلم

يورد الصحفيان في الفيلم كثيرا من التفاصيل المتعلقة بموقف الرئيسين، ويتساءلان عن سبب اختيار أهداف معينة للقصف في ليبيا، منها حارة كان يقطنها السنوسي.

كما يمرر الفيلم مشهدا بثه الإعلام الفرنسي، سُئل فيه “ساركوزي” عن شعوره بعد مقتل القذافي، فقال “الهدف أن تربح ليبيا حريتها وآمالها في الديمقراطية”! وكأن الفيلم في سعيه لسرد هذه التفاصيل عن “ساركوزي” يؤكد “خيانته” لحلفائه السابقين.

من هؤلاء أيضا رجل الأعمال اللبناني زياد تقي الدين، الذي لعب دور الوسيط الأهم بينه وبين القذافي، لكنه فيما بعد أدلى بشهادة ضد “ساركوزي”، معترفا بكل الملايين (5 ملايين يورو) التي سلمها نقدا إلى معاونيه، واستخدم جزءا منها في الحملة الانتخابية.

وقد غيّر تقي الدين شهادته بعد سنوات من هروبه إلى لبنان، وأنكر أقواله السابقة لأسباب افترض الصحفيان أنها مالية، وكان جديرا بالفيلم إجراء لقاء معه، لكونه عنصرا رئيسيا في القضية ومن أهم شهودها، ولكنه لم يفعل.

هيمنة عراب العصابة على وسائل الإعلام

أثار الفيلم علاقة رجال السياسة بالإعلام، وكشف مدى سيطرة “ساركوزي” على صحف تمتلكها شركة “لا غاردير”، التي يتبوأ فيها منصبا يسمح له بالتدخل لمنع نشر ما يسيء إليه، ووصفه بأنه عرّاب لعصابة سياسية.

“ساركوزي” في خيمة القذافي بحديقة قصر الأليزيه

كما بين الصعوبة التي واجهت الصحفيين في إيجاد أثر لتحويلات مصرفية تثبت وجود التمويل، فلم يفلحوا في إيجاد شيء بهذا الخصوص، باستثناء تحويل واحد.

وربما كان ذلك ما دفع “ساركوزي” للقول للصحفيين “لن تجدوا شيئا! أتعرفون لماذا؟ لأنه لا شيء هناك لتجدوه”.

نبش قضية “لا أحد يفهم أي شيء عنها”

إن فيلما كهذا هو فيلم تحقيق استقصائي، لا يتوقع معه المشاهد أي لغة سينمائية تعتمد الجماليات، ولذلك فلا ينبغي انتظار شيء آخر على صعيد الشكل. إنه فيلم وثائقي بامتياز يهتم بالكشف والشرح.

فصحيفة “ميديا بارت” التي أنتجت الفيلم لتشرح كل شيء كما تقول، كان لديها كثير جدا من المعلومات، وأرادت حشد الفيلم بمعظمها، أو على الأقل بالأشد خطورة. وهكذا حظي الفيلم بايقاع لاهث، ومرت مدته الزمنية (108 دقائق) بسرعة مدهشة.

شكّل الوثائقي “لا أحد يفهم عنها شيئا” مدخلا متينا لفهم القضية، بعد أن كانت تشكّل لدى الناس شذرات من تحقيق تلفزيوني هنا ومقالة هناك، فاستطاع ربطها معا، وقدمها على نحو منظم ومتسلسل.

ساهم ذلك في تركيب صورة واضحة، عن قضية وصفها صاحبها “نيكولا ساركوزي” نفسه، بأنها “لا أحد يفهم أي شيء عنها”، وهي العبارة التي اختارها الصحفيان عنوانا للفيلم، وتلخص تعقيدات القضية وشخصياتها، وتداخل العلاقات فيها، وسرية الوثائق.


إعلان