“رجل مختلف”.. صراع بين جسد واحد وهويتين وثلاث شخصيات

يعرّف “سيغموند فرويد” مصطلح الغرابة أو الغربة في مقالته “الغرابة” عام 1919، بأنها شعور مربك أو استجابات عاطفية مزعجة، تنشأ عندما يجمع الشيء بين الألفة والغرابة في الوقت ذاته، وذلك إحساس يتولّد بمواجهة شيء حدوده مطموسة، وكل التنبؤات حوله مشوشة، بحيث يتبدى المألوف غريبا والغريب مألوفا بشكل مزعج وغير مفهوم.

فالألفة التي يفترض أن تنتج عن المعرفة أو الاعتياد، هي ذاتها التي تصدّر شعورا غير مريح؛ لكونها تقع خارج حدود الفهم، فالغريب كما يعرفه “فرويد” هو شيء كان مألوفا في الماضي ولكنه أصبح مستغربا ومزعجا.

الجدير بالذكر أن الكلمة الألمانية “أونهايمليخ” (unheimlich) ومعناها “غريب”، هي نقيض لكلمة “هايمليخ” (heimlich) بمعنى عادي أو مألوف، ولكن من المفارقات أن الكلمتين تتداخلان، فما كان مألوفا (heimlich) قد يصبح أجنبيا أو غريبا (unheimlich).

يمكننا أن نتعاطى مع مقال “فرويد” وتعريفه للغريب أو الغرابة، ونتخذه مدخلا لقراءة فيلم “رجل مختلف” (A Different Man) للمخرج الأمريكي “آرون شيمبرغ” (2024)، فالفيلم في متنه يتمحور حول ذلك الشعور بالألفة والاغتراب في ذات الوقت.

التطور الذي يحدث للبطل داخل الفيلم -سواء على المستوى الجسدي والنفسي- يخلق “بيرسونا” داخلية يعاني منها البطل، و”بيرسونا” أخرى خارجية متجسدة في شخصية “أوزوالد” (الممثل آدم بيرسون)، الذي يعاني من الورم الليفي العصبي، الذي عانى منه البطل طوال حياته.

لذا فإن “أوزوالد” هو التجسيد الحقيقي لماضي “إدوارد” (الممثل سيباستيان ستان)، فيشكلان كلاهما ثنائية الماضي والحاضر، ولكن بمعايير مختلفة عن السائد، فكلاهما يعيش بطريقة مختلفة، ويتعاطى مع إمكانياته الجسدية واختياراته الحياتية ونمطه الاجتماعي تعاطيا مختلفا، يجعل الاثنين في وقت ما متضادين أو نقيضين لبعضهما، وليسا مجرد شخصين يجسدان أزمنة من حياة بعضهما.

الأمر أشبه بأن تضع الجميلة والوحش والأمير في غرفة واحدة، وكما نوّه “فرويد” يتولد عن وجود الثلاثة في غرفة واحدة ذلك الشعور بالغربة، فشيء مألوف تماما أصبح مُستغربا ومزعجا تماما.

مع أن الشخص المحاط بهذه الهالة غير المريحة، لا تبدر عنه أفعال غير مألوفة أو منحرفة عن المسار، بحيث يمكن أن ينتج عنها منطقيا إحساس مربك أو مزعج، ولكنه كما قلنا يقبع خارج حدود الفهم حتى على المستوى الجسدي.

“إدوارد”، مريض بالورم الليفي العصبي يخضع لعملية تجميل

فالمعايير السائدة لا تطبق على أبطال الفيلم بنفس الطريقة، فالشخوص لا يحتقرون “أوزولد” المشوه ولا ينبذونه، بل يتعاطون معه بطريقة اعتيادية ويومية، ومن هنا تحدث المفارقة، أن تجربة “إدوارد” مع المرض كانت مختلفة تماما، على كل المستويات، يمكننا أن نستعير التعبير الإنجليزي الشهير “ليس مرتاحا في جسده” (Not comfortable in his own skin).

عزلة في حياة تتآكل من الداخل

يدور فيلم “رجل مختلف” حول “إدوارد”، وهو مريض بالورم الليفي العصبي، يعيش في عزلة داخل منزل يتهاوى ويتآكل من الداخل. يترك إدوارد دائما مسافة آمنة بينه وبين الناس، مسافة تضمن الحماية الكافية للحفاظ على نفسيته الهشّة وكبريائه الجريح، ولكنه رغم ذلك يكافح للتواصل مع الآخرين بطرق شتى.

يصارع “إدوارد” وحدته، لكنه لا يجد في النهاية إلا الفشل الاجتماعي والهشاشة الذهنية، فيقرر الخضوع لجراحة إعادة بناء تحويلية، على أمل التخلص من ماضيه، أو التخلص من هويّته إذا صحّ الحديث، وأن يبدأ إنسانا جديدا، فيخضع لما يشبه تجربة علمية، ويكتسب تدريجيا مظهرا مختلفا، أكثر جاذبية بمعايير المجتمع السائدة.

“إدوارد” يقدم نفسه لـ”إنغريد” للعب دور في المسرحية

ثم ينتهز الفرصة لإيجاد ذاته، فينتقل إلى مدينة جديدة، وينخرط اجتماعيا بهوية جديدة، فيغير مساره المهني، ويخلق دوائر اجتماعية وعلاقات صحية، وتسير الأمور سيرا جيدا، حتى يكتشف أن جارته في السكن القديم “إينغريد” (الممثلة ريناتي رينسفي) تعد لمسرحية تستند إلى حياته قبل الجراحة.

ومن هُنا يبدأ الفيلم بالتعقيد من الناحية الذهنية، لأن اهتمامه بالمسرحية يتناقض مع رغبته الملحة بالانسلاخ الجذري من حياته السابقة.

تحريك الروح من جسد إلى آخر

يبدأ الشعور بالغرابة يتنامى، ففضول “إدوارد” الأوّلي يصبح هوسا يدفعه إلى تقديم نفسه لـ”إنغريد”، على أنه شخصية جديدة مناسبة للعب الدور الرئيسية على المسرح، فيقنعها ويبدأ التحضير للدور، وتتحرك القصة نحو جزئية جديدة كليا، جزئية يتجسد فيها ظهور الغريب (unheimlich) بوضوح.

محاولات “إدوارد” للانسلاخ والانفلات من هويته القديمة تتبعها محاولات جدية باستعادة تلك الهويّة مرة أخرى على المسرح، فالأمر أشبه بأن تتحرك روحك من جسد إلى آخر، حتى على مستوى التجسيد.

وضع “إدوارد” قناعا أخذه من الطبيب للذكرى قبل التحوّل، قناعا يشكل مدخلا للذات القديمة أو نمطا استعاديا، ويبدأ “إدوارد” يتداعى ويتماهى بين جسدين وهويتين، حتى يتحول في المنتصف إلى شيء يحمل من الغُربة اتجاه ذاته أكثر مما يحمل من الألفة.

“إدوارد” يخضع لعملية تجميل تحوله “أوزوالد”

يؤدي أداء دور “ستيفن” (اسم الشخصية في المسرحية واسم “إدوارد” قبل التحول) إلى إثارة سلسلة من المشاعر المتضاربة لدى “إدوارد”، تتراوح بين الإعجاب والحسد والقلق.

وبدافع من الانبهار وكراهية الذات، يتسلل “إدوارد” إلى حياة “ستيفن” مرة أخرى؛ أي حياته السابقة، تلك الشخصية المحجوبة عن العالم، الذي ظن أنها غير مثيرة للاهتمام وقبيحة وغير جديرة بالعيش أساسا.

ومع تقنية الأداء ومحاولة الاستعادة، نشعر أن الحدود قد تلاشت بين هويته القديمة والجديدة، فيفقد الإحساس بذاته الحالية، وتنفلت الأمور بطريقة عشوائية، ثم يبدأ في مطاردة شبح ما كان عليه ذات يوم، وفي نفس الوقت يحاول إحكام قبضته على الذات حديثة التشكل، حتى يحدث تضارب جوّاني.

تأطير الذات في النموذج المسرحي

تبدأ مرحلة جديدة مع ظهور “أوزوالد”، الذي هو شخصية لها حضور مؤثر على مستويين مهمين، أما الأول فهو شخصية تبدأ منافِسة على الدور المسرحي، ثم تتوغل بطريقة غير مباشرة في حياة “إدوارد” كأنها تسلب حياته. ذلك الحضور المفاجئ يسبب نوعا من الريبة، لأنه يتماس مع رؤيته لنفسه في الأساس.

وأما الثاني فهو الحركة الموازية للمخيال، أي تجسيد حياة “إدوارد” السالفة، وذلك ما يدفعه للجنون، لأن الهوس الذي تخلّفه تلك المنافسة على دور في أحد المسارح المغمورة ينتج نوعا من الاضطراب، فـ”أوزوالد” يعيش حياته بطريقة مختلفة تماما عن ماضي “إدوارد”، وكلاهما يحاول تجسيد شخصية “ستيفن”.

إذن فكلاهما يتجه إلى تأطير ذاته داخل نموذج مسرحي؛ ذلك النموذج هو “إدوارد” حرفيا من سنوات أو ربما شهور، وعلى الجانب الآخر فـ”ستيفن” الشخصية المسرحية هي “أوزوالد” في اللحظة الحالية، لذلك تبدأ الأمور بالتعقد.

أوزوالد” هو التجسيد الحقيقي لماضي “إدوارد”

وعند التحدث عن “إدوارد”، يجب أن نأخذ في الاعتبار أنه شخصية حديثة التشكل، يمكن أن نتعاطى معها على أنها نموذج في طور التكوين، ليس له استقرار حقيقي ولا تصور حقيقي للإرادة أو الإشكاليات الوجودية، فسعيه لمحو شخصيته الأولى كليا خلّفت لديه فراغا لا يستهان به.

لذلك نراه يحاول استكشاف الأشياء من جديد، لكن بعين “إدوارد” لا عين “ستيفان”. كل تلك المحاولات الأولية لدفع “ستيفان” للوراء، وإغراقه في اللاوعي؛ أنتجت رد فعل معاكسا مع ظهور “ستيفان” مرة أخرى على السطح.

مركزية الجسد المتجاوز للمادية

لدى الفيلسوف الفرنسي “موريس ميرلو بونتي” نظرية معروفة عن الذات، تتمحور في متنها حول الجسد مركزا للتجربة، وفي ذلك مقاربة لموضوع الفيلم الحقيقي، الذي يتأرجح بين الكوميديا الساخرة ورعب الجسد.

يتحدى “ميرلو بونتي” وجهة النظر التقليدية التي تفصل بين العقل والجسد، وينطلق من الجسد بصفته كيانا متجاوزا لما هو بيولوجي ومادي.

ففي نظره، فإن الذات ليست شيئا “داخل” الجسد أو خارجه؛ بل كلاهما شيء واحد، كُليّة واحدة، فالجسد هو الوسيلة التي ندرك بها العالم ونتصرف على أساسه، ويخبرنا أن الجسد يجمع بين ما هو داخلي وخارجي، ما هو ذاتي ومجرد في دواخلنا، ومادي لدى الآخرين، ويشير إلى ما يسمى الإدراك المتجسد؛ أي أن استيعابنا للعالم متجذر في منظورنا الجسدي، فالحواس ليست منفصلة عن الجسم ولكنها مرتبطة به جوهريا.

ويأخذ الموضوع إلى مستوى آخر بتوضيحه أن الذات لا تنفصل عن العالم ولا عن الآخر، بل تتميز بالسيولة والتغير الذي يجعلها عابرة لحدود القولبة والانفصال، والحقيقة أن من الممكن تأطير شخصية “إدوارد” في إطار فلسفة “ميرلو” عن الجسد، فنموذج البطل الذي يعاني تدريجيا من الاضطراب الهوياتي، النموذج المتغير العابر للشخصية الواحدة، يعيدنا إلى ما هو جسدي في الأساس.

والجسد هنا هو رمز جوهري للتكامل، المتلقي والمستجيب، والقصة هنا ترتكز على الجسد مدخلا لكل ما هو مجرد، فالولادة الثانية التي أنتجت “إدوارد”؛ أنتجت هوية جديدة، وربما نمطا جسديا وشكلانيا أحدث وأكبر قدرة على التعامل، بيد أنها لم تتخلص من بقايا ولادتها الأولى.

وحتى لو حدث انفصام على مستوى الهوية، فما زال الجسد يربط العالمين معا، فالجسد طبقا لـ”ميرلو بونتي” ينطوي على ما هو أكثر من اللحم والدم، لذلك كان سهلا أن يشعر “إدوارد” بالانتماء إلى حياته السابقة، لأن جسده هو شخصيته وذاته.

أسئلة وجودية حول الحقيقة والأقنعة

يتبدى ذلك التحول -ذو الطبيعة الجمالية- سمة لرعب الجسد أكثر من كونها نزوعا نحو الاستقامة والجمال الروحاني، لأن “إدوارد” لا يستطيع التخلص من شخصيته السابقة، ولا يستطيع الموازنة، خصوصا مع ظهور “أوزوالد” الذي يشكل “البيرسونا”، فهو شخصية مستقلة بذاتها.

ولكن في عقل “إدوارد” هو القرين الذي بعث ليدمر حياته، شبح يطارده، ويتفوق عليه بوجهٍ مشوه، مع كل التطور الوظيفي والاجتماعي والجمالي الذي صحب تحوله، مما يطرح أسئلة وجودية حول الأصالة والأقنعة التي نضعها في المجتمع، سيولة الذات، والقوالب والنماذج المخادعة في منظورنا نحن.

يلعب الفيلم على أوتار الهوية والجسد ومراوغتهما بعضهما، ويعيدان استكشاف الذات في مواقع وأشكال شتى، بطرق جديدة صحية وأخرى مدمرة، فالهوية ليست قالبا ثابتا، بل بنية متغيرة وسائلة، تتشكل من خلال النظرة الخارجية والصراع الداخلي.


إعلان