“سينغ سينغ”.. نافذة مسرحية تفتح الآفاق في سجن شديد الحراسة

ما قيمة التمثيل داخل سجن؟ هل يصنع الفن فارقا في حياتك إن كانت مهددة؟ وأي معنى للخيال إن كانت حريتك مسلوبة؟

كل هذه الأسئلة ستجد نفسك مضطرا للتفكير فيها، أثناء مشاهدة فيلم “سينغ سينغ” (Sing Sing) للمخرج الأمريكي “غريغ كويدار” (2023)، وهو يدور حول فرقة مسرحية داخل سجن أمريكي شديد الحراسة، غالبية المحتجزين فيه من الأمريكيين السود.

حصد الفيلم 45 جائزة في عام 2024، وترشح بطله “كولمان دومينغو” لجائزة “غولدن غلوب” في فئة أفضل ممثل في عمل درامي، لكن أهم من هذا كله الرؤية التي يقدمها، لإجابة الأسئلة التي يطرحها، هل يمكن أن يتخطى الفن دوره الترويحي، حتى يصبح عملا تحرريا؟

تدريبات الأداء على المسرح.. جلسات العلاج الجماعي

تدور أحداث الفيلم عن “ديفاين جي”، وهو أمريكي أسود سُجن في جريمة لم يقترفها، ويشاركه رفاق السجن في فرقة مسرحية تقدم عروضها داخل السجن، يصبح الفيلم هكذا بشكل رئيسي عن المسرح، كيف تتشكل الفرقة، كيف يتدرب الممثلون على أداء أدوارهم، وكيف يختارون موضوع مسرحيتهم؟

هكذا يصبح الوسيط الفيلمي الذي يعتمد بالأساس على الصورة وسيلة لسرد قصة عن الوسيط المسرحي الذي يعتمد بالأساس على الكلمة، هكذا تظهر الروح المسرحية في الفيلم، من خلال تكوينه من مشاهد حوارية طويلة، تتخللها حركة الممثلين في معظم الأحيان داخل إطار ثابت.

الملصق الدعائي لفيلم “سينغ سينغ”

البقاء داخل زنازين وعنابر ضيقة يجعل الإطار ثابتا وضيقا، لكن حين ينتقل الفيلم لمشاهد المسرح يتسع الإطار، ليتحرك الممثلون داخله وكأنهم على وشك الطيران.

مشاهد تدريبات الأداء داخل المسرح تشبه هنا جلسات علاج نفسي جماعي، يتحدث كل فرد من المجموعة عن شخصيته وأحاسيسه، وعن معاناته وأحلامه، ويحاول كل منهم وصف مشاعره مع تغيير لغة جسده، فتكون التدريبات كأنها ذات وظيفة علاجية، لا وظيفة فنية فقط.

صورة من الماضي

حين تشاهد الفيلم تشعر أنك تشاهد فيلما قديما قادما من الماضي، ربما من السبعينيات، وليس الأمر شعوريا فحسب بل تقنيا أيضا، فقد صُوّر باستخدام خام الفيلم على شرائط 16 مليمتر، وهكذا تصبح صورة الفيلم أكثر أصالة، وكأنها قادمة من زمن قد ولى.

تدور أحداث الفيلم داخل سجن أمريكي شديد الحراسة

هذا الاختيار في صناعة الفيلم، يترك أثرا واضحا في مشاعر المتلقي، وتصبح مشاهدة الفيلم فعلا استعاديا يتعلق بالحنين أساسا، كأنك تشاهد يوميات حقيقية لأناس تعرفهم، فالفيلم يعطي طابعا وثائقيا واقعيا، وذلك وثيق الصلة بكونه مستندا إلى قصة حقيقية، ويصور في مواقع تصوير حقيقية أيضا.

هكذا ينتقل الإحساس بالضيق والقهر، وبأنك محاصر وسجين تماما، مثل شخصيات الفيلم في المشاهد التي نرى فيها الزنازين والممرات والطرقات ذات الألوان الباهتة الباردة، وتشعر معهم بالحرية حين يعتلون خشبة المسرح، المكان الوحيد الذي يتميز بمساحة شاسعة وأسقف عالية.

تمثيل من الواقع

يتحدث الفيلم أساسا عن صداقة اثنين من السجناء، الأول “ديفاين جي” (الممثل كولمان دومينغو)، الذي يبدو كأنه رئيس للفرقة المسرحية، يحبه ويقدره الجميع، لدرجة أن بعض السجناء يطلبون توقيعه حين يلقونه في ممرات السجن، والآخر هو “كلارنس ماكلارين”، وهو سجين نتعرف عليه من مشهد يهدد فيه سجينا بأنه سيلاحقه ويضربه إن لم يعطه مالا كثيرا.

يبدو “ديفاين جي” منذ اللحظة الأولى رجلا هادئا مسالما مثقفا، و”ماكلارين” يبدو من البداية رجل عصابات عنيفا شرسا. لكن التمثيل والمسرح يجعل هذين الرجلين في النهاية صديقين، والفيلم هو تتبع لهذه الرحلة.

من خلال هذه الرحلة يقدم الممثل “كولمان دومينغو” واحدا من أفضل الأداءات التمثيلية في السنوات العشر الماضية، فهذا رجل يجسد الحزن والحسرة والأمل تجسيدا ملموسا، بتفاصيل بسيطة للغاية.

الصديقان اللدودان “ديڤاين جي” و”كلارنس ماكلارين”

في أحد أهم مشاهد الفيلم يدخل “ديفاين جي” جلسة استماع، لتحديد مصير إطلاقه أو استمرار سجنه، وندرك خلال الفصل الأول من الفيلم أن هذا الرجل بريء، لكنه يجاهد لإثبات براءته.

في جلسة الاستماع تسأله إحدى القاضيات عن فريق التمثيل المسرحي، فيبتسم ويتحدث بشغف وفخر عما أنجزه مع هذا الفريق، ثم تفاجئه بضربة قاسية للغاية، حين تسأله هل يمثل أثناء جلسة الاستماع؟ وهنا تحضر دمعة متحجرة داخل عينيه، لكن ابتسامته لم تتوقف بعد، ثم يتحدث بصوت متهدج عن أن التمثيل لا يعني هذا، لا يعني الكذب، بل يعني العكس تماما.

هذا الأداء المتميز الذي قدمه “كولمان دومينغو” يصبح جزءا من صورة متجانسة، حين ننظر لأداء باقي الممثلين في الفيلم، ثم ندرك في الخاتمة أنهم ممثلون يؤدي كل منهم دوره الحقيقي، ويحمل اسمه الحقيقي أيضا، هم كلهم من سجناء سجن “سينغ سينغ” الحقيقي.

وكان أبرزهم أداء بلا شك “كلارنس ماكلارين”، وقد بدأ الفيلم بداية عنيفة وقاسية للغاية، وكان صندوقا مغلقا أيضا، ثم يتفتح هذا الصندوق شيئا فشيئا لنعرف قصته ومعاناته وأسرته، ثم نلمس حبه وجانبه الحساس في النهاية.

“بالخيال تعبر هذه الأسوار المنيعة”

يقدم فيلم “سينغ سينغ” مزيجا من السينما الروائية والسينما الوثائقية، فنرى قصة روائية تعتمد على أحداث حقيقية، وشخصيات حقيقية تجسد نفسها على الشاشة. هذا المزيج -بالإضافة لموضوع الفيلم- يذكرنا بكلمات المخرج الإيراني الراحل عباس كيارستمي، حينما قال:

“سألت نفسي كثيرا.. ما وظيفة الأحلام؟ من أين تأتي؟ لماذا نستطيع أن نحلم؟ ولماذا ينبغي أن نحلم؟ إن لم تكن للأحلام وظيفة في حياتنا؛ فما السبب في وجودها؟ وأخيرا وُجد السبب، فمتى نلجأ للأحلام؟ في الأوقات التي لا نرضى فيها بظروفنا؟”

دمعة متحجرة داخل عين “ديڤاين جي” أثناء جلسة الاستماع

“الشيء العجيب أنه لا ديكتاتورية في العالم تستطيع التحكم في أحلامنا، فلا يوجد نظام تحقيق يستطيع التحكم في خيال المرء، يمكنهم أن يزجوا بك في السجن، ولكنك ما زلت قادرا على أن تحيا طوال مدة سجنك خارج كل هذا، وبدون مساعدة من أي أحد، فبالخيال تستطيع أن تعبر هذه الأسوار المنيعة، من غير أن تترك أثرا، ويمكنك دائما أن تعود ولا يشعر أحد”.

لقد صنع “كيارستمي” سينما شاعرية إنسانية ترتكز أساسا على شخصيات حقيقية، استعان بهم في الكثير من الأحيان لأداء أدوارهم أمام الشاشة، وتذكرنا كلماته أن هذا المزيج بين الروائي والوثائقي يمكن أن يترك أثرا لدى المشاهد سنين كثيرة، بشكل مختلف تماما عن أثر الأعمال الروائية التي تعتمد على الخيال، بعيدا عن صلته بالواقع.

رسالة الفن.. وسيلة لإحياء الأحاسيس البشرية

هكذا يصبح فيلم “سينغ سينغ” أحد منجزات سينما الواقعية، السينما التي تهتم بحكايات المهمشين والعاديين والمظلومين، وتصبح مشاهدة حكاية هذه الفرقة من السجناء -الذين قرروا أن يقضوا زمن سجنهم في التمثيل- دليلا على أن الفن ليس فقط عملا ترويحيا، بل عملا تحرريا أيضا.

حتى داخل السجن الكئيب، يمكن للمرء الإيجابي أن يصنع حياة مضيئة

يصبح التمثيل هنا وسيلة لتواصل هؤلاء الرجال فيما بينهم، بصفتهم بشرا لهم مشاعر وأحاسيس، لا مجرمين أو كائنات في مرتبة أقل من البشر كما يراهم النظام.

ويكتسب الفيلم معنى كبيرا حينما نشاهده في هذا التوقيت، تحاصرنا الحرب والموت من كل جهة، لندرك أن الفن حتى في هذا اللحظات عمل ضروري لمن يعيش هذه المعاناة، ليس للترفيه والتوثيق فقط، بل لنشعر -نحن البشر- بأننا ما زلنا بشرا، وأننا نستحق حياة أفضل من التي نعيشها الآن، تصبح هكذا السينما كالأحلام، نوافذ في حياتنا، حتى لو كانت حياتنا داخل سجن.


إعلان