“مركب فرسان”.. لحظات خطرة في حياة سعوديين ضلوا طريقهم في البحر

في افتتاحية كتاب “مداريات حزينة” لعالم الإنسان والشعوب الفرنسي “كلود ليفي شتراوس” يقول: أنا أكره السفر والاستكشاف، وها أنا ذا أتهيأ لرواية رحلاتي.

بهذا القدر من السخرية قرأنا سرد واحد من أكثر كتب الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) شهرة عن الموضوع الذي يكرهه؛ ألا وهو السفر والاستكشاف. ومن هذا المنطلق كذلك يمكن أن نحكي قصة فيلم عن رحلة يكره أصحابها سردها، مع أن الاستماع لها ممتع، يمكن أن نحكي عن فيلم “مركب فرسان”.

يحكي فيلم “مركب فرسان” قصته من قلب البحر الأحمر في السعودية، وقد عُرض في مسابقة وثائقيات مهرجان البحر الأحمر السينمائي. وكانت الجزيرة الوثائقية حاضرة لمتابعة تطورات المهرجان، واختارت الكتابة ضمن برنامجها عن إحدى المشاركات السعودية الوثائقية، للإجابة عن أسئلة باتت ملحّة عن اللحظة الفنية في السعودية مع المشهد الجديد.

فإلى أي مدى تطورت صناعة الأفلام هناك؟ وإلى أي مدى على المستوى العربي كله في مهرجان يختتم عاما سينمائيا صعبا في لحظة سياسية مضطربة عربيا؟

رحلة تضل الطريق إلى سواحل الحرب اليمنية

في عام 2016، انطلقت مجموعة من الشّباب السعودي في رحلة صيد قصيرة حول جزيرة فرسان قبالة ساحل جازان، وكان مقررا أن يعودوا بعد ساعة واحدة في البحر، لكن تغير ذلك بعد اكتشاف أنّهم ضلّوا طريقهم في ضباب كثيف، واتّجهوا من دون قصد نحو الحدود اليمنيّة، تلك التي كانت تشهد حربا ضروسا.

وعندما أدركوا أنّ مسارهم خطأ حاولوا العودة، لكن وقود قاربهم نفد تماما، فطافوا بلا مأوى 90 ساعة تقريبا، عانوا فيها من العطش والجوع، ولوّحت في خيالاتهم تهديدات القراصنة، كما رأوا أمامهم نيران الحرب اليمنية من الشاطئ، فقد مرّوا بلحظات يأس شديدة، ولكن لاح لهم بصيص الأمل في آخر المطاف.

جزيرة فارسان قبالة ساحل جازان

هذه قصة حظ عاثر عن أبطال نجّاهم الأمل، وهي حكاية للفيلم الوثائقي السعودي “مركب فرسان.. 128 كيلو عن بر الأمان”، وهو الوثائقي الأكثر انتظارا في الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر 2024، وهو من كتابة نايف نجر، وإخراج موفق علي، وإنتاج أيمن خالد.

قبل أن يبدأ حديثنا عن الفيلم، نتحدث أكثر حول جهة الإنتاج السعودية، التي دعمت ذلك التجريب والمغامرة السينمائية؛ ألا وهي شركة ثمانية.

بسبب الغيوم والضباب، تاه المركب واتجه بعيدا عن الجزيرة

قدمت الشركة في هذا الفيلم ثاني أفلامها الطويلة في المهرجان، بعد الفيلم الوثائقي “قصيدة الملك”. وفي هذا المقال نتتبع مسار الفيلمين، وهو أمر قد يحكي كثيرا عن السعودية الجديدة، تماما كما يحكي عن جرأة ذلك الاختيار، سواء في “قصيدة الملك” أو في “مركب فرسان”.

هدوء لا تحتمل خفّته في قصة مقلقة

المفارقة العجيبة التي يحملها هذا الفيلم يجدها المشاهد في أول مشهدين على التوالي؛ حين يبدأ “مركب فرسان” من مشهد -سنفهم بعد نهاية الفيلم لماذا يعد أقوى عناصر الفيلم اكتمالا على الإطلاق- يحمل تشويقا للحد الأقصى.

كلمات مفتاحية تعد بمسارات أحداث شتى، تتقاطع بين الاجتماعي والثقافي والسياسي، وصورة سينمائية تتحرك بين أرشيفية بالأبيض والأسود، وتخييلية ملوّنة تخلق إيقاعا جيدا. كل ذلك قد يحرك المشاهد أو يجهّزه لاستقبال ثقل مرتقب ومغامرة مغرية.

ملصق فيلم “مركب فرسان”

في المشهد اللاحق مباشرة، تعطّل نسبيا أغلب تلك الوعود بوجود الأبطال في موقع تصوير مريح وهادئ، يبتسمون ابتسامات حالمة نوعا ما، ويقصون حكاية ضاع أثرها عليهم نسبيا، فيخلق ذلك إحساسا عكسيا قد يعطّل سابقه. ربما كان يحتاج المشاهد أن يبقى على توتّره في فيلمٍ نقطةُ تأثيره الأكبر هي خلق قلق للمشاهد، وتخويفه نوعا ما مثل الأبطال الذين يشاهدهم.

بين هذا وذاك يحافظ مدير التصوير ياسر بن غانم على إيقاع بصري جيد نوعا ما، وذلك بالانتقال بين لقطات الأبطال الثلاثة في جلساتهم المنفردة، وبين الاعتماد على إعادة تمثيل مشاهد البحر، أو اللقطات الأرشيفية في الفيلم، التي صوّرها الأبطال أنفسهم أثناء الحادثة.

ثمة سؤال يظهر على مدار الفيلم يخص قلة ظهور هذا الأرشيف أو ندرته، فربما كان سيعطي ذلك الأرشيف قوة أكبر للتأثير في الفيلم من بعض المشاهد التمثيلية.

أبطال الفيلم.. شباب من عوالم تعديل السيارات

يقف الفيلم أمام ثلاثة أبطال رئيسين؛ هم علي السحيباني المهوس بعالم تعديل السيارات، ويصفه صديقه بأنه “مجنون ميكانيكا”، ومحمد العكاسي الأكثر هدوءا في إعادة سرد القصة كما استقرت في خياله، وعبد العزيز المهدي عضو “قروب ديفرنت” للسيارات المعدّلة.

ثلاثة شباب يخوضون تجربة بحرية مخيفة

يعد سوق تعديل السيارات في السعودية السوق الأوسع والوحيد الذي ينافس دبي في ذلك الأمر، بل يمكن الذهاب إليه في وثائقيات أخرى مستقلة، تسجّل أفكارا ومنافسات من عالم يمثّل ترفيها رئيسيا لدى الشباب الخليجي.

يحكي الثلاثة عن لحظة مفصلية في حياتهم، كانوا فيها على حافة ضياعهم في البحر. ومع مرور الثلث الأول من الفيلم، يعود الإيقاع القلق -المفترض وجوده أساسا- نوعا ما مع بداية حكاية تفاصيل الفيلم. ثم ينغمس الفيلم على مستوى السيناريو في قلب الأبطال تماما ولا يخرج، فيتورط معهم ولا يسعى لفك طلاسم الصورة وثائقيا، وفي مشهد بعد آخر، تدرك العمل بصفته قصة تميل للروائية أكثر من الوثائقية.

الماء ينفد من القارب ويوشك الجميع على الهلاك

كثير من أفلام اللحظة يختلط لديها معيار الفرق بين الأفلام الوثائقية والروائية، وربما بات أغلبها الآن في موجة من السرد الوثائقي التخييلي في آن، وجميعها محاولات إعادة خلق حكاية حقيقية للأبطال، بشكل ينغمس فيها، لظهورها بشكل مبهر، من دون فك طلسمها الوثائقي الذي يعطيها نقطة قوتها الأكبر، وهي مع جودتها -التي لا خلاف عليها- تفقد جزءا أصيلا من ذلك التسجيل، وربما بدا هذا الفيلم نموذجا مثاليا لذلك.

أبو الريش.. نقطة القوة الكبرى حاضرة غائبة

السؤال مركزي للحديث عن “مركب فرسان” هو: ما نقطة قوة الفيلم الوثائقية الأكبر؟

إنها ليست قطعا التركيز على الأبطال الثلاثة مباشرة، بل الذهاب أبعد إلى قبطانهم الغامض أبو الريش. ففي أثناء المشاهدة، يفهم المشاهد أن شبابا يسعون للمرح في البحر قليلا، يقضون وقتا مع قبطان لديه حياة سابقة مغرية للحكي، وقوة تؤهله للاعتماد عليه في سرد موازٍ للحكاية.

القبطان الغامض أبو الريش

ويبدو غياب أبو الريش هو الأكثر حضورا منذ اللحظة الأولى للتعريف به، فهو بطل الفيلم الحقيقي دون شك، وقد يتمنى المشاهد لو تحوّل هذا العمل إلى مسلسل لمعرفة قصّته كلها.

يقول أحد الأبطال في مشهد من المشاهد “ضايعين في نص البحر وما في شي”، ثم يعود الفيلم من السرد المتلاحق للحكاية إلى الوقوف والتقاط الأنفاس، فيجلس الأبطال في منطقة فرسان على حدود اليمن، منطقة الحرب ذاتها.

وفي شيء أشبه بالمعجزة يتذكر المشاهد أن الأبطال الذين يشاهدهم لا يزالون أحياء، فيتأملهم وربما يتخيل رحلتهم أشبه بفيلم سينمائي، تتطوّر فيها شخصياتهم التي يتعاطف معها المشاهد تدريجيا.

قبل عدة سنوات قابلنا المخرج عثمان أبو لبن، صانع فيلم “المركب”، وهو فيلم روائي قديم نسبيا، يحكي قصة أبطال لديهم مشكلة شبيهة بقصة أبطال “مركب فرسان” الوثائقية هذه المرة.

فقدان الأمل والخوف من الموت في البحر

وقتها كان في حديثه عن الفيلم أنه كان يتساءل كيف يرى الإنسان نفسه في لحظة ما يرى أنه قد أدركه الموت، ربما هي المشاعر ذاتها التي يجدها المشاهد في الفيلم الوثائقي؛ قصة من البداية للنهاية تجعلك تتساءل عن تحوّل الحياة، الذي قد يحدث في لحظة غير مدركة إلى موت محقق.

“مركب فرسان” بمثابة تجريب سعودي جريء نوعا ما، حتى لو كان يحتاج لاحقا إلى تطور خطاب، يحاول سرد قصة الأبطال من سياقات شتى، من دون الغطس في قلبها أكثر مما يجب.

“قصيدة الملك”.. خفايا قصة أثارت سخرية السعوديين

قبل عامين، أثناء فعاليات الدورة الثانية من مهرجان البحر الأحمر السينمائي، وبعد الخروج من إحدى قاعات الأفلام، سأل أحد الحضور صديقه: هل تحضر معي فيلم “قصيدة الملك”؟

لم يكن الآخر قد سمع بالفيلم، فأخبره أنه يحكي قصة “شاعر سكنانا”، ففهم هذه الجملة على أنها تعبير ضمني ساخر، ثم ضحكا بصوت عال، ووافق على الحضور لسماع قصة الرجل الشهير.

فيلم “قصيدة الملك” يروي قصة تفاصيل إلقاء قصيدة “مخطوطة القرى والظلال” في عام 2016، وقد ألقاها الشاعر في استقبال الملك سلمان بن عبد العزيز، أثناء زيارته المنطقة الشرقية، وقد تسببت طريقة إلقاء القصيدة في سخرية لاذعة من الشاعر في مواقع التواصل.

الشاعر حيد العبد الله يفوز بلقب أمير شعراء 2016

لذلك كان الفيلم أساسا وثيقة تحقيق في القصة التي شغلت بال السعوديين سنوات، بطلها الأساسي هذا الرجل الذي يكشف الفيلم قصة حياته، وهو الشاعر السعودي حيدر العبد الله، وقد اختارت منصة “ثمانية” أن تكون قصته أول فيلم تقدمه في سلسلة “جواب”، التي قالت إنها “تكشف من خلالها الجانب الآخر من قصص المشاهير”، لذلك افترضت البداية الفيلمية التعريفية شهرة صاحبها، واعتمدت على الجانب السيئ الذي تسببت فيه تلك الشهرة، أو كانت سببها أساسا.

وبينما تظهر طوال الفيلم شذرات متفرقة وتفصيلية من قصة الرجل، تبدو وراء القصة أشياء تُظهر السعودية من الداخل، كالمدينة التي اشتهرت بكتابة القصائد التي تمدح الملوك، ثم تُلقى بقوة وحماسة تعبر عن الرجل السعودي ودولته القوية وهيبة الملك الحاكم، ويصبح هذا الحدث السياسي محط أنظار الشباب وتعليقاتهم.

وربما يتوازى ما يحكيه الفيلم بشكل مباشر عن الرجل مع ما يظهر ضمنيا في سياق القصة، فالدولة لا تزال ترعى كتابة الشعر أكثر من الجميع، ربما لما يمثله من عراقة وقدم وتعبير عن هذا المجتمع عموما، كما لا يزال يشغلها التعبير عن حب الملك الذي يمنح شبابها رخاء وأمانا، يدركه أغلب الشباب في المملكة، ويظهر في التعليقات المضادة على طريقة الشاب “غير المناسبة”.

محلية الحكاية.. نقطة ضعف الفيلم

كانت نقطة ضعف الفيلم الوحيدة أنه اعتمد على معرفة سابقة بالقصة لكل متفرج بالضرورة، وحصر جمهوره على الداخل السعودي أكثر، فجعل الفيلم يبدو محليا نسبيا، يقدّم قضية يصعب فهم سياقاتها، في حين تصلح القصة مجازا أوسع، يصح التمثيل بها من كل بلد في لحظة تسببت فيها مواقع التواصل الاجتماعي بأزمات شبيهة.

وربما من نقطة الضعف تلك تولّدت نقطة القوة في الفيلم وهو محاولة السرد من موقع مختلف تماما، أكثر سينمائية، وأقرب لفك حلقات اللغز من أي شيء آخر.

كانت “ثمانية” في سباق جيد للمراهنة على قصص استثنائية جريئة التقديم، تجرب فيها ذوقا وإيقاعا وقصصا متنوعة، تحكيها أحيانا وهي متورطة مع كل ما يحكيه الأبطال، مثل “مركب فرسان”، أو في سعيها لسرد خطاب مواجه للذي اعتمده المجتمع وقتما صنعت “قصيدة الملك”، لذلك فهي لا تزال تحتاج لتسليط الضوء نقديا أكثر على تجاربها لدعمها أكثر، بوصفها قصصا تحكي عن سعودية قد لا يعرفها كثيرون.


إعلان