“المصارع 2”.. هوية بصرية قوية وأحداث تاريخية مغلوطة

انتهت الإمبراطورية الرومانية منذ أكثر من 15 قرنا، لكن هذه الحضارة ما زالت تشحن العقل الغربي المعاصر، بعقليتها الاستعمارية والعنصرية، ورفضها للآخر بكل مكوناته، بمحو تاريخه وثقافته واهتماماته، وقد تجلّى هذا التأثر في إعادة تجسيد تلك “الأمجاد” بصيغ فنية شتى، لا سيما في السينما.
فمنذ تأسيسها إلى اليوم، أنجزت هذه الصناعة مئات الأفلام والمسلسلات التي تناولت تلك الحقبة، مع أن كثيرا منها يحتوي مغالطات تاريخية شنيعة، وأسوأ من ذلك مزج الخيال ببعض الحقائق التاريخية، ثم تقديمها للجمهور الواسع على أنها حقائق تاريخية يجب تصديقها.
وأدهى وأمرّ من كل هذا إعادة تجسيد أحداث الترفيه والتسلية المشهورة، تلك التي جعلت حياة الإنسان غير الروماني لا تساوي شيئا، فهو أداة تسلية وترفيه فحسب، يرمى في المسرح ليواجه الوحوش الضارية والمفترسة، ثم تصبح تلك المناظر الوحشية والدماء المتطايرة مصدر بهجة للرومان، فيطلقون صيحات الفرح والرضا.
وأشنع من ذلك كله، أن هؤلاء الضحايا هم أسرى حروب، كل ذنبهم أنهم دافعوا عن أرضهم وعرضهم، فأصبحت أجسادهم فيما بعد طعاما للوحوش، ووسيلة ترفيه لحكّام روما وشعبها.
هذه الصور وأخرى، أعاد تجسيدها المخرج البريطاني “ريدلي سكوت”، في أحدث أفلامه “المصارع 2” (Gladiator 2)، وهو جزء ثانٍ وتتمة لفيلمه الأول الذي أُنتج سنة 2000، ولقد حافظ فيه على نفس العنوان مع إضافة أحداث مختلفة، لكنها مترابطة ومتشابكة ومتشابهة وتحمل نفس السمات.
تطابق الجزأين.. ضعف الإبداع واستغلال النجاح
تفصل بين الفيلمين 24 سنة، لكن مع ذلك فقد حافظ المخرج “ريدلي سكوت” على نفس الأجواء تقريبا، لا سيما من ناحية البناء أو الشكل الهندسي الكلي، وحتى في تقديم الموضوع، وكذلك التوزيع وطريقة بسط شتى عناصر الفيلم، وهي معطيات متقاطعة ومتشابهة.
فمن ذلك أحداث تقديم المصارع “ماكسيموس ديميسوس” (الممثل راسل كرو) في الجزء الأول، ونقله في العربة، والمرور به في شوارع روما، ودهاليز حلبات المصارعة، وخلق أعداء له في الحلبات، وهي نفس المنطلقات التي مر عليها المصارع “لوسيوس” (الممثل بول ميسكال) في الجزء الثاني.
كما تطابق تشييد الحبكة، بحكم أن المصارِعَين من ورثة الطبقة السياسية الشرعية أو حماتها، وكل واحد منهما لديه الحق في تخليص الإمبراطورية الرومانية من أيادي العابثين، أولئك الذين أذهبوا مجد روما.

وقد أُسر البطلان في سياقات ما، ووُسم كل واحد منهما بسمة العبيد، لهذا يحولان إلى حلبات المصارعة، بحكم القوة الجسدية والمهارة التي لديهما، وحين يثبتان قوتهما يرسلان إلى حلبة “الكولوسيوم” بعد مراحل شتى من المصارعة.
وهناك في تلك الحلبة المبهرة، يبدآن صناعة مجد المصارعة أو المجالدة في قلب روما، أمام الأباطرة والقناصلة، وأعضاء مجلس الشيوخ، وقادة الجيوش والشعب، ثم يُربط كل فرد منهما بالصيغة التاريخية.
وفي حالة فيلم “المصارع 2″، نرى “لوسيوس” يتلو على الإمبراطورين الأخوين “كاراكلا” (الممثل فريد هيكينغر) و”جيتا” (الممثل جوزيف كوين) مقولة أو جملة شعرية، لكن تلك الجملة لها أبعاد كان يقولها جده.
من هنا تعرف “لوسيلا” (الممثلة كوني نيلسن) أن ابنها ما زال حيا، وكانت قد أبعدته من بيتها عندما كان يبلغ 11 سنة، وذلك بعد موت المصارع “لوسيوس” في الجزء الأول، وهو الحفيد الوحيد الذي لديه الحق في كرسي الحكم، ولذلك كان عُرضة للقتل والتصفية، ثم استقر بعدها ناجيا في صفوف جيش “نوميديا”، وتواجه مع جيش روما، ثم أصبح مصارعا في روما.
حاول المخرج “ريدلي سكوت” خلق روابط فنية وتاريخية ودرامية كثيفة ومنوعة، كي لا يشعر الجمهور بغربة ما، وتركهم يلتحمون التحاما كبيرا مع الجزء الأول، ليضمن لهم الإثارة والنجاح الذي حققه بالجزء الأول.
روما القديمة.. ثنائية الجمال والقبح
لم يكتف المخرج “ريدلي سكوت” بالمنطلقات ولا ظروف التطابق الفني التي رسمها في فيلمه “المصارع 2″، بل حاول اللعب أيضا على الثنائيات الضدية في الفيلم، وأبرزها ثنائية الجمال والقبح، لهذا قدّم صورا بانورامية من مدينة روما المترامية، من مراكزها المتقدمة وشوارعها النظيفة وعمرانها المتفرد، وأسقف بناياتها المغطاة بالقرميد الأحمر، ومبنى “الكولوسيوم” الذي يُعد من العجائب العمرانية والهندسية المهمة.
وفي نفس الوقت يظهر مداخل المدينة وضواحيها، حيث المتسولون في كل جهة، يبحثون عن الرغيف أو ما يملأ بطونهم الخاوية، كما انعكس ذلك في ثيابهم الرثة ووجوههم المتعبة.

تلك الثنائيات تعكس الظرف السياسي الذي تعيشه روما، والمفارقة الكبيرة بين طبقة النبلاء وطبقة الكادحين، فهناك من يمارس السلطة بأكمل صورها، ويحاول أن يسلب أراضي ومستعمرات جديدة لروما، لخدمة مجد الإمبراطورين، وفي المقابل هناك من يتلوى جوعا ولا يجد ما يسد به رمقه.
كما انعكست ثنائية الخير والشر في بناء الشخصيات وتقديمها، فنرى جانب الخير الذي يميز الجنرال “أكاسيوس” (الممثل بيدرو باسكال) فاتح “نوميديا”، وهو قائد لا يهتم بمجده الحربي بقدر اهتمامه بجوع الناس ومجد روما. وفي المقابل نرى “ماكرينوس” (الممثل دينزل واشنطن)، الذي يدير ألعاب المصارعة والمراهنة، وفي نفس الوقت يتآمر ويستغل كل فرصة، ليتمكن سياسيا وينال من كل خصومه.
والأمثلة التي تجسد هذه الضدية متعددة، وهي خاصية تستعمل بكثرة في السينما، للوصول إلى نتيجة أن الخير هو من ينتصر، وذلك تلاعب فني يولّد الدراما المناسبة، بما يتخللها من عناصر الإثارة والتشويق والترقب والانتظار، وكلها معطيات تخدم فعل المشاهدة عموما.
تزوير التاريخ.. بين صناعة الدراما وتمجيد روما القديمة
استند “ديفيد سكاربا” كاتب سيناريو الفيلم إلى قصة كتبها الروائي “بيتر كريغ”، وكان “سكاربا” قد تعاون مع “ريدلي سكوت” قبل هذا الفيلم، في فيلمه “نابليون” (Napoleon) الذي صدر سنة 2023.
ومع أن الفيلم اعتمد على “كريغ” و”سكاربا” وهما اسمان بارزان في مجال الكتابة السينمائية، فإنه مليء بالأخطاء التاريخية، وهي ليست صغيرة، ولا من النوع الذي يمكن التغاضي عنه، ولا من الأخطاء التي تُغفل بسبب الضغط الهائل.

فمن ذلك مثلا مشهد المقهى في شوارع روما، ففيه رجل يقرأ جريدة مطوية، ولم تكن الجرائد في تلك الحقبة موجودة، وإنما كانت تُنحت نشريات على صفائح صخرية.
كما أن هناك مشهدا محوريا صنع فرجة مهمة، لكنه لم يثبت تاريخا بعد الاطلاع على عدة مصادر، وقد جسّد تعويم ساحة الكولوسيوم بالمياه، مع إعادة تجسيد معركة روما ونوميديا من خلال سفينتين، ووجود عدد من أسماء القرش.
ثم إنه لم يثبت توظيف وحيد القرن، بوصفه حيوانا مصارعا يمتطيه الفارس، ناهيك عن أخطاء توظيف الأسماء والأحداث، وحتى سلوك الإمبراطورين “كاركلا” و”جيتا” وصفاتهما.
يوغرطة.. أخطاء في قصة الملك الذي حارب روما
الخطأ الجسيم الذي وقع فيه الفيلم، هو تزوير بعض الوقائع التاريخية المثبتة في المراجع التاريخية الصريحة والمهمة والمنتشرة، وهي من وقائع حرب روما ونوميديا.
كانت نوميديا مملكة أمازيغية ضمت الجزائر وتونس وليبيا، وكانت عاصمتها سيرتا (قسنطينة حاليا)، ولقد تداول عليها عدد من الملوك، أهمهم وأقواهم الملك “يوغرطة”، وقد وُلد سنة 160 ق.م، وتوفي سنة 104 ق.م، وخاض حربا مع روما، وكبّدها خسائر فادحة ومتتالية.
استمرت تلك الحرب نحو 6 أعوام، ما بين عامي 111-105 ق.م، ثم انتهت بأسر الملك “يوغرطة” وبعض أبنائه، بعد خيانة صهره حاكم موريطانيا، فسُجن في روما حتى مات جوعا وكمدا في السجن، وكان ذلك في عهد الجمهورية الرمانية، وفي تلك الحقبة كان نظام الحكم بيد مجلس الشيوخ الروماني، الذي ينتخب قناصل سنويا هم من يتولون الحكم.

لكن الفيلم تجاوز هذا التفصيل المهم، بتصويره معركة حربية ضارية بين جيشي روما ونوميديا، أُسر فيها الملك “يوغرطة”، وهذا في عهد الإمبراطورين التوأمين “كاركلا” و”جيتا”، بمعنى أن الفرق الزمني بين أسر “يوغرطة” وحكم الإمبراطورين كان أكثر من 300 سنة.
كما صوّر المخرج “ريدلي سكوت” بأن روما وضعت الملك “يوغرطة” الأسير في حلبة مصارعة، وأُطلقت القرود المتوحشة عليه وقتل، لكن الحقيقة التاريخية أنه مات جوعا في الأسر.
ثم إنه وُظف لأداء دوره الممثل الأسود “بيتر مينساه”، لكن الحقائق الميدانية تقول إن لون بشرته بين القمحية والسمراء، والغالب الأرجح أنها بيضاء، ولا يُعلم من أين استقى المخرج تلك المعلومة الخطأ التي جعلته يصوره أسود البشرة.
كما أن هناك أخطاء كثيرة، رصدها الخبراء والمختصون في التاريخ القديم، منها طريقة حكم الإمبراطورين “كاركلا” و”جيتا” وموتهما أيضا.
جمالية الإبهار.. قوة الصورة السينمائية تصنع التأثير
استطاع المخرج “ريدلي سكوت” أن يطوّع التكنولوجيا الحديثة لصالحه، فولّد بها جماليات بصرية غير محدودة، منها المناظر البانورامية التي نقل بها معالم وشكل مدينة روما، وتجسيد بحيرة حلبة الكولوسيوم التي تسبح فيها القروش، وتلك معطيات جسّدت عملية الإبهار، واستحوذت على انتباه المتلقي، وأدخلته في تفاصيل الفيلم.
وكان تصوير قتال المصارعين مع المفترسات واقعيا لحد التطابق تقريبا، مثل القرود المفترسة وشراستها، ووحيد القرن، وتلك معطيات تولد شحنة من المتعة واللذة لدى المشاهد الذي يحب هذه الأجواء، وقد ساعد الذكاء الصناعي في تجسيدها، لخلق هذه الأجواء واختزال الوقت وتصحيح الألوان، لهذا كانت الأخطاء البصرية -لا التاريخية- قليلة، لا سيما في تدرج الألوان ومنطلقات الإبهار.

يعكس فيلم “المصارع 2” الحداثة السينمائية من جانبها البصري، أما باقي التفاصيل فقد جاءت تقليدية، لكنها مثيرة ومشوقة ومهمة، استطاعت أن تستحوذ على فعل المشاهدة.
ومن جهة ثانية كشف “ريدلي سكوت” أحد وجوه روما الوحشية، تلك التي كانت تجرد الإنسان من إنسانيته، وتجعله أداة للتسلية والترفيه والعقاب، وقد تجسد ذلك في مشاهد العنف والدم الكثيرة التي جاء بها الفيلم.
لكن لا يمكن التغاضي عن الأخطاء التاريخية الجسيمة التي جاءت في الفيلم، ولا يمكن التأكيد ولا النفي حول مدى تعمدها، أو إن كانت عن طريق التسرع والأخطاء وعدم التمحيص، لكن الأكيد هو أن المعلومة الصحيحة يمكن الوصول لها بسرعة وبكبسة زر.