“البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”.. حياة مثقلة بقسوة القاهرة على أبناء الهامش

شهدت السينما المصرية منذ بداية العقد الفائت تحولات مركزية على مستوى والمجال الفني، ودفعت الأفكار السينمائية الجادة نفسها إلى مساحة انفصالية عن الجمهور.

لا يعد هذا الانفصال قرارا إبداعيا فقط، لأنه استجاب لحيثيات إنتاجية وتصاعد في حصرية المنتج السينمائي لصالح الخطاب السياسي، إضافة إلى مسحة نخبوية وقيمة ثقافية أضفيت على الأفلام التي لا ترتكز على الاستهلاك، فالتقطتها “كتل” فنية تتخذ من عدم الجماهيرية قيمة مسبقة للمنتج الإبداعي، لا اختيارا فنيا مرتبطا بالموضوع.

خلال هذه المرحلة، تعاظمت الهوة بين جودة الفيلم في شباك التذاكر، وبين جودته التقنية والسمعة الفنية التي يكسبها من الدخول إلى بوابة المهرجانات الدولية، إما بسبب منع الفيلم لغرض سياسي، أو للدخول إلى تضخيم قيمة الفيلم من الباب السهل، حيث سيادة الهوس بالتجارب الذاتية وعكسها في مواد فيلمية، والتوهم بالجودة التقنية على حساب قيمة أخرى، تشمل متطلبات شديدة الصعوبة، وهي محاولة الوصول إلى الجمهور.

لم تنل الأفلام المصرية التي برزت في مهرجانات عالمية حقها في الوصول إلى الجمهور، أما البقية فقد انزوت في مجموعة مشاهدين يتشاركون نفس الحالة الذهنية من التعالي، والارتكاز على مشكلات للأزمة، لا يتحمل صانع الأفلام فيها أي مسؤولية، ولذلك امتلأ الفراغ المعني بالجمهور بدفعات من أفلام استهلاكية وعابرة، تقوم على أفكار ساذجة ومفرغة من المعنى.

تقدير ملفت في المحافل السينمائية

في السنة الماضية 2024، حصل فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” على تقدير ملفت في مهرجانات البندقية، والبحر الأحمر، وقرطاج. ومع بداية السنة الحالية بدأ عرضه في دور السينما المصرية.

فمنذ زمن طويل، لم يجمع فيلم مصري بين حضور دولي، ومحلي معتمد على العرض في دور السينما المصرية، فهناك أفلام مثل “آخر أيام المدينة” للمخرج تامر السعيد، و”ريش” للمخرج عمر زهيري، وقد مرت على مهرجانات كبيرة لكنها لم تعرض في السينما، فضلا عن طبيعة لغتها الفيلمية الخالية من معطيات الفيلم التجاري.

كارم وحسن يتواجهان

اشتركت الآراء الإيجابية حول فيلم “السيد رامبو” في إطار القرب والسهولة، والتدفق الذي انطلق منه الفيلم، للاشتباك مع مدلولات مركبة لمدينة عميقة مثل القاهرة، كما انتشر تعليق عام يشير بأن المساحة العاطفية التي عكسها الفيلم عبر شخصية “حسن” (الممثل عصام عمر) بدت قريبة من الشارع، وتشتمل على مفارقات تتعاطى مع مباشرة القهر والخيبات والخوف، الذي يعيشه المنسيون في الهوامش.

صراعات الحياة على حافة الهامش

يُفتتح الفيلم بلقطة قريبة على شاشة تلفزيون، تعرض اقتتال ضباع، يبدو أحدها وفمه ممتلئ بالدماء، وعلى الجهة الأخرى يلعب حسن مع كلبه البلدي “رامبو”، يمسك لعبة صغيرة بفمه، والكلب يحاول أن ينزعها.

تعطي هذه المفارقة البسيطة مبررا حكائيا لحالة الفيلم، بخاصة الطابع الإنساني الفريد الذي يربط حسن -وهو شاب وحيد لا صداقات له- بكلبه رامبو. وتأتي إشارات العلاقة بينهما سريعة، من دون استعادة تاريخ هذه العلاقة، فنرى حسن يعامل رامبو على أنه جزء من العائلة، معه هو ووالدته.

يتحدث حسن مع رامبو، ويطلب منه التواطؤ على الوالدة ألطاف (الممثلة سما إبراهيم)، لينبش في مقتنيات الوالد، الذي يحضر كشبح بسبب تخليه عن العائلة في طفولة حسن.

الملصق الدعائي لفيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو”

يمنح الفيلم علاقة حسن ورامبو منذ بداية الفيلم مساحة كبيرة، بوصفها علاقة عائلية أساسا، قادرة على أن تشغل القطب الأساسي من تحولات الفيلم.

يرافق رامبو صديقه في كل مكان، ويتشاركان الحركة في المدينة، بما فيها من أوقات حرجة وأوضاع استثنائية ومبررات للخوف والفزع. ويبدو حسن مكتفيا بعلاقته مع رامبو، لأنه لا أصدقاء في الحارة البسيطة التي يعيش فيها، وكذلك في العمل. هناك إطار ضيق يدور فيه النشاط الارتباطي بين حسن ووالدته ورامبو.

جوار هذا الأساس النوعي، يتحرك الفيلم مؤطرا أطراف الحكاية في بنية تقليدية، فحسن يعيش مع والدته تحت تهديد الأسطى كارم (الممثل أحمد بهاء) بطردهما من البيت، حتى يستطيع توسيع ورشته. وأمام هذا التهديد، يعيش حسن حياة شبابية بسيطة، فهو يعمل فرد أمن في مؤسسة معمارية، ويتبعه هاجس فشله العاطفي جوار طيف أبيه الذي لا يزول.

شخصية حسن.. بنية خيّرة في واقع منزوع القدرة

ترتكز شخصية حسن على أساس الاشتباك مع الأشياء من بعيد، فهو ابن مطيع لكنه منزوع القدرة، وعامل أمين ومحبوب، لكنه يعمل في وظيفة محدودة، وحبيب مخلص، لكن الفقد يناسب حياته أكثر.

وفرت هذه البنية -الخيّرة بتطرف- اشتباكا واقعيا مع الحياة الهامشية والمجهلة في مدينة القاهرة، مثلما شكلت ثنائية مستهلكة ومكررة بينه وبين كارم، كما خلقت انطباعا مسبقا بالتعاطف تجاه حياة حسن، قبل الاشتباك مع حيثيات هذه الحياة.

حسن يعيش مع والدته وكلبه، في بيت صغير مهدد بالتهجير

وتتجلى حالة التورط العاطفي السهل في الفيلم، عندما يفتعل كارم شجارا مع حسن، فيتدخل الكلب ليدافع عن صديقه، ويهاجم كارم بعضة قاسية تجرح ذكورته، فتتولد لديه خصومة طفولية تجاه الكلب، تدفع حسن ورامبو إلى الهيام في أحراش المدينة.

ديمومة الشعور بالفقد والحاجة

تميزت البنية العاطفية لشخصية حسن بديمومة الشعور بالفقد والحاجة، فهو دائما ما يعاني من غياب مشكلات مركزية في حياته، مثل البنوة والحب، لذلك يأتي تمسكه باستثنائية العلاقة مع رامبو مبررا.

غير أن هذه الميزة -مع تطور أحداث الفيلم- أصبحت نقطة سلبية، جعلت هذا الفقد قيمة مسبقة تدفع إلى التورط العاطفي مع حياة حسن قبل فهمها، ولذلك بدى التورط قِشريا، يغلف المادة الحكائية للفيلم، وينزع عن بقية أطراف الحكاية حركة مستقلة، تتبين خلالها الدوافع الشخصية، التي لا تتبلور إلا بانتهائها عند حسن.

وقد جاء الأداء التمثيلي السيئ لشخصية كارم منحصرا في صفات شرانية خالصة، تتخذ فعاليتها من مدى امتصاص حسن لها، كذلك تراجع الحضور الأمومي لدى ألطاف، التي لم يتطرق الفيلم لتأثير تخلي زوجها عنها، ولم يتح لها أي مساحة سوى شعورها بالعجز العائلي، الذي يتحرك في النهاية تجاه تأثر ابنها به.

مدينة القاهرة وفضاءات التهديد

ينقسم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” إلى 3 محطات أساسية ترتكز على خطر الفقد، فيبدأ من خطر فقدان البيت، ثم خطر فقدان رامبو، وأخيرا فقدان رامبو اختياريا والبيت إجباريا، ثم العودة إلى الحارة بشخص جديد مفعم بروح صدامية حادة، وقناعة بضرورة الانتقام.

خلال رحلة تكوين المحطة الثانية، تصل العلاقة بين رامبو وحسن إلى ذروتها، ليس من حيث توطدها وتمسكهما المشترك ببعضهما وتعاظم القيمة الإنسانية واللغة الفريدة بينهما فقط، بل أيضا من حيث اشتباكهما المباشر مع الفضاء الخارجي للمدينة.

ومن أكبر مزايا الفيلم، إظهار القاهرة بوجه واقعي، على نقيض الصورة الذهنية لها في السينما المصرية خلال السنوات الماضية، التي تعامل المدينة على أنها مكان بلاستيكي، لا علاقة لها بالمادة الفيلمية، وحبيسة في مواقع تصوير داخلية تطفح رفاها معيشيا.

وفي حالة تصوير المدينة من الخارج، فإن جانب “القاهرة الحنون” المستمد من الماضي، حيث الشوارع جميلة وهادئة، يحضر كأنه قانون إجباري سائد على الأفلام.

في فيلم “السيد رامبو” تتجلى القاهرة في صورتها القاسية، لا تعبأ بالزحام البشري على هامشها، مدينة يعكس الفيلم زخم التداعي البشري الذي تخبئه.

حسن ينتقل بدراجته النارية، ورامبو دائما بجواره

ومن خلال رحلة حسن ورامبو، تتمثل عبر الشارع القاهري دلالة تهديد دائم، ينعكس عبر الحركة الدائمة لحسن ورامبو، يصحبهما شعور جذري بالخوف والقلق، وتطبع حركتهما الدائمة حالة من اللجوء والاختباء المؤقت، الذي يسلمهما إلى اختباء جديد.

ينتقل حسن بدراجته النارية، ورامبو بجواره دائما، من النوم في الشارع، إلى الاختباء في المطعم الذي تعمل به حبيبته السابقة، وكلما ظهر لهما منفذ جديد يمكن أن يأمن فيه رامبو من خطر كارم تُبرز لهما المدينة موطن خطر آخر، يدفعهما إلى حركة جديدة.

عادة ما يدور نوع “أفلام الطريق- road movies” حول سمة أساسية، يغادر البطل البيت ويخوض رحلة مدنية عبر الطريق، لتشكل الخبرات البشرية والتحديات الفارقة شخصيته من جديد، وينتهي الفيلم بميلاد شخص جديد، مختلف عن طبيعته في بداية الرحلة.

أسلوب مغاير للتعاطي مع أفلام الطريق

يتعاطى فيلم “رامبو” مع بنية “أفلام الطريق” من جهة مغايرة، فتنتقل الخبرات البشرية من حيز التواصل الإنساني إلى التواصل مع المكان، وعلى عكس المكان في أفلام الطريق، الذي عادة ما يكون مفعما بفراغ أو تكوينات طبيعية تعطي مساحة جمالية وحكائية لما يمكن للشخصيات أن تكونه، فإن المكان القاهري يظهر مطابقا لواقعه، بما فيه من بنية المدينة المركزية التي تقتل فكرة البطولة من جذورها.

حب حسن الضائع

لذلك يأتي الانتقال الدائم من تهديد إلى آخر، معبرا عن العجز في الوصول إلى روح المكان، التي يمكن من خلالها خلق ملمح من التماهي، بين رحلة البطل وفضاء رحلته المكاني.

شهد حضور شخصية كارم تراجعا سلبيا، ودفنت دوافعه الشخصية لصالح رحلة حسن ورامبو الخارجية، وتبدو إحالة الخطورة من خطر كارم إلى خطر آخر غير معلوم، يعكسه المكان بشكل مضمر، وتلك تفصيلة مميزة نقلت طابع التهديد من كونه معرفا ومنتهيا في ثوب انتقام شخصي، إلى آخر مضمر ومركب، تعكسه الصورة بمهارة غائبة عن الذهن المكاني في الفيلم المصري.

تحولات كبرى لحيوات عادية

على غير عادة الدارج من مواقع تصوير داخلية مشوهة للحارة، أو المنطقة الشعبية المصرية وعوالمها، يستعين المخرج خالد منصور بالممثل عصام عمر في أولى بطولاته السينمائية، ليعكس شخصية تسهل رؤيتها في الواقع، بداية من بنيته الجسدية العادية، ووجهه الخجول العادي الذي يعكس وسامة بسيطة وأصيلة، مثلما يعكس مزاجا قلقا وشعورا دائما بالحاجة.

يبدو حسن شخصا عاديا قبل أن يكون رمزا لطبيعة حياة خصوصية، فهو يعيش في شقة متهالكة تحت خطر الحرمان منها، لكن الإشكالية التي يقع فيها المكان السينمائي -بفعل الإضافة الرمادية المقبضة- تجعل الإحالة من المكان الواقعي إلى آخر مطعم بجماليات مشهدية، مثل المهارة الكروية في مباراة حادة، يمكن استقطاعها لتعبر عن ملمح فني سريع، لكنها لا تخلق معنى يمكن ربطه ضمن السياق الفيلمي.

أبطال الفيلم في مهرجان البندقية

تأرجحت الإضاءة السينمائية بين دور التعبير الوظيفي، وبين التطرف في إثقال الفيلم بحمولة جمالية، بدت أكبر من قدرة الفيلم على احتوائها. حاول الفيلم التماهى مع الثقل الزمني لقطبي اليوم، فجعل النهار شيئا من الراحة لحسن ورامبو، أما الليل -بمشاهده الطويلة الغالبة على زمن الفيلم- فقد جاء مثقلا بقلة الحيلة وكثرة التنقل.

ومع هذا التماهي، فقد خلق الفيلم قدرة على عكس الدواخل المركبة لدى شخصية حسن وعلاقته برامبو، والعالم الذي يهيمان فيه، فحضر الارتكاز على الإضاءة مكونا أساسيا لمواقع التصوير الداخلية، مؤرجحا بين الانحباس داخل سمة دلالية محدودة، في جماليات انفصالية تحجب التباين بين المشاهد الداخلية والخارجية من ضرورة اتساق المكان السينمائي، وبين النفاذ إلى مساحة تعبيرية شديدة العمق والتأثير.

استراحة المسجد.. بعد روحاني تطهري في ملاذ آمن

يجد حسن بعد عناء مكانا آمنا على أطراف المدينة، يمكن أن يعيش فيه رامبو، لكنه يفاجأ بإطلاق كارم عيارا ناريا على رامبو، فيفقده رذاذه إحدى عينيه، فيتركه حسن في المستشفى عدة ساعات، يقضي بعضها في مسجد صغير على جانب الطريق الصحراوي.

يبلور الزمن الكثيف لحسن في المسجد نقطة انفجاره وتحوله الكبير، وتأثير كل تشكيلات الحكاية عليه وما تمثله من ثقل ضخم، بداية من هوسه بوالده الغائب، مرورا بمرارة فقد حبيبته، والصعوبة الشديدة في الحفاظ على حد أدنى من الحياة الآمنة له هو ووالدته ورفيقه المقرب رامبو، وانتهاء بالثقل الكبير للمدينة وما عايشه فيها من حركة محمومة، مفعمة بنزوع نحو الهروب من خطر يتجاوز الخطورة المعرفة في تهديد كارم.

حسن في المسجد حيث الراحة والطمأنينة

يأخذ الجامع الصغير في المشهد حضوره من خلال مدلوله الذهني في التدين الشعبي، بصفته بيتا آمنا خارج سياقات التهديد، أو وسيلة للخلاص والتخفف، لأنه مكان يقوم على اللجوء والاحتماء بما هو روحاني وفوق واقعي.

وتتخذ تصرفات حسن بُعدا تطهريا، فيغتسل في المسجد، ويحاول التخلص من لعنة وظيفته المحدودة بقحط الحروف المطبوعة على سترة العمل، ثم ينتهي بالتسليم لما هو آت. وكل هذه الطاقة المفرغة تأتي عن غير وعي من شخص غير متدين، لكنه منقوع في شكل غير واع من العلاقة مع الله، وهي تحضر وتأخذ ذروتها حينما يشعر بحتمية التداعي الحر.

سرد الحكاية من باب صعب

بعد أن تطرد والدة حسن من البيت خلال انشغاله بتأمين رامبو، يأتي التحول الأخير في حياة حسن، الذي يفقد عنده كل شيء، وينصاع للتحولات التي خلفتها رحلته الصعبة، من داخل المدينة إلى خارجها.

توظف الضرورة الدرامية المنوطة بالعودة إلى البيت مرة أخرى، عبر استعادة حسن شيئا داخليا قبالة الفقد الخارجي الكبير، ويظهر ذلك في ضرورة انتقامه من كارم.

المخرج خالد منصور مع الكلب “رامبو”

يتعثر فيلم “البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو” في بعض مادته الفيلمية، لكنه لم يعرض حكايته من باب آمن وسهل، فقد ارتكز على تنويعات تقنية وجمالية مميزة، وكوّن في جملته مادة بصرية وحكائية مشابهة قليلا للهموم العادية، إضافة إلى استنطاق شكل مغاير من “أنسنة” الفقراء، من خلال علاقة حسن بالكلب رامبو.

بهذه الكيفية يمكن للفيلم الفاعل إيجابيا في شباك السينما أن يتطور، ويتشكل تراكم طويل يستطيع أن يزيح بالتتابع التعلق الجماهيري بالأفلام التي تحضر بسهولة، وتتلاشى بنفس السهولة.


إعلان