“كعكتي المفضلة”.. عوالم الوحدة والشيخوخة في إيران

عبر تاريخها الحافل الطويل، استطاعت السينما الإيرانية أن تقتطع لنفسها مساحة مهمة، من فضاءات السينما المتقدمة فنيا، انطلاقا من الخصوصية التي عملت عليها، بعد سنوات من التطوير والإبداع والتميز.
فهي سينما مهادنة وشرسة في نفس الوقت، هادئة وصاخبة، مضحكة ومبكية، تصنع قوّتها من التفاصيل الصغيرة، فتولّد منها شاعرية طاغية، تصل بها للجمهور الذي يتجاوز حدود اللغة ومحيط الجغرافيا.
وبذلك كانت سينما إنسانية، صنعت لغة تجاوزت بها المنطوق، خلقتها من أبجدية الصورة، وصدق المواضيع والمعالجة، فكانت بذلك باقة ورد، تعبق بالروائح الزكية والألوان الزاهية، فيحبها ويقع في سحرها كل من يشاهدها.
لهذا لا تكاد تمر سنة أو موسم، من دون أن نرى أفلامها في أرقى المهرجانات وأهمها، ولا تقتصر على المشاركة بل تتوّج بأهم الجوائز، ويُحتفى بها نقديا وجماهيريا، تقديرا للمحمول الجمالي والمعرفي والإنساني الذي يميزها.
السينما الإيرانية ومهرجان برلين.. عناق حار
تعوّدت الأفلام الإيرانية على المشاركة في مهرجان برلين السينمائي، وبات الجمهور الألماني على موعد سنوي معها، يعيش فيها جانبا من جوانب حياة المجتمع الإيراني، فمن سمات السينما أنها مرآة عاكسة للمجتمعات.
وأحدث هذه المشاركات فيلم “كعكتي المفضلة” (My Favourite Cake)، الذي كتبه وأخرجه الزوجان “مريم مقدم” و”بهتاش صانعي ها”، وقد شارك في المسابقة الرسمية من الدورة الـ74، التي أجريت في فبراير/ شباط 2024، وحصد جائزة الاتحاد الدولي للنقاد السينمائيين (الفيبرسي).

أثار الفيلم عند عرضه نقاشات كبيرة، لا سيما بعد منع مخرجيه من مغادرة إيران، فتحتم عليهما إرسال خطاب قُرئ أثناء فعاليات المهرجان، كما خصصت لهما الإدارة مقعدين شاغرين بالقاعة، وُضعت عليهما لافتة باسميهما، وهي بادرة رمزية.
كما شارك فيلم “كعكتي المفضلة” في عدد من المهرجانات الأخرى، منها “مهرجان شيكاغو السينمائي الدولي”، ومهرجان “بلد الوليد السينمائي الدولي” الذي نال فيه جائزة المخرجين الجدد، و”مهرجان القاهرة السينمائي الدولي”، إضافة إلى قائمة طويلة من المشاركات والتكريمات.
ثرثرة نسائية على مائدة الغداء
يروي الفيلم قصة المرأة السبعينية “ماهين” (الممثلة ليلي فرهادبور)، التي تعيش حياة رتيبة في بيتها الواسع، وتحيا فيه وحيدة بلا أنيس، منذ أكثر من عشرين سنة، فقد تزوجت ابنتها واستقرت بالخارج، وأما زوجها فقد توفي وهي في العقد الرابع من عمرها، أي قبل ثلاثين سنة.
لهذا باتت أيامها مملة، تنفقها في النوم إلى غاية الظهيرة، وفي المساء تتسوق في محلات الخضر والفواكه أو البقالة، ومن حين لآخر تقيم مأدبة غداء، تدعو لها صديقاتها القديمات، من اللواتي لا تجتمع معهن سوى مرة في السنة تقريبا.

على المائدة تبدأ ثرثرتهن النسائية التي لا تنتهي، فكل واحدة منهن تسرد ما يعكس اهتمامها أو يسبب جراحها، فواحدة تتحدث عن أمراضها الكثيرة، وأثرها عليها، والأخرى تتكلم عن الحياة وما فيها، وعن الرفقة الجيدة التي تؤنس الوجود، ثم تتشابك الحوارات والنقاشات، وتعلو الضحكات والقهقهات، لا سيما بعد الحديث عن العلاقات، وعن الأشياء التي تربط الرجل بالمرأة.
وقد عكست تلك الثرثرات النسائية مسار كل واحدة منهن تقريبا، لا سيما الشخصية الأساسية “ماهين”، التي وُضعت أهم منطلقات حياتها أمام المتلقّي، وعرف اهتماماتها وأحلامها وكوابيسها، وعرف عواطفها التي تعطف بها الخطوات المكررة، وتصبغ أيامها المتشابهة، تلك التي تقربها يوميا وفي كل لحظة من أجلها المحتوم.
وحدة السبعين.. ضيق الخيارات على حافة النهاية
استطاع المخرجان أن يسلكا طريقا واضحا ومختصرا في الفيلم، وقد أوصلهما هذا المسلك للمنطلق النفسي السلوكي، الذي عكس تصرفات الفئة العمرية للمتقدمين في السن.
وفي حالة الفيلم، سُلطت أضواء الصور السلوكية على حقبة السبعين من العمر، وهي مرحلة حساسة جدا، تعكس إحساس الاقتراب من خط نهاية الحياة، وعنده يبدأ الإنسان يفكر في كيفية استغلال ما بقي له من العمر، كحال “ماهين” وسائق التاكسي “فارامارز” (الممثل إسماعيل محرابي)، وحتى المسنات الأخريات.

أتى هذا بعد أن وجدا نفسيهما بلا أنيس أو رفيق، عندما أخذت مشاغل الحياة كل فرد لجهة معينة، وهو ما حدث لـ”ماهين”، فباتت تتجرع الألم والوحدة والعزلة، حتى أنها لم تستطع التواصل بطريقة جيدة مع ابنتها في الخارج، بسبب انشغالها مع أولادها، حتى أنها لم تجد لحظة هادئة بدون قطع الحديث، بسبب شغب الأطفال ومطالبهم.
ومن النقاط الموجعة، أنها أرادت أن تريها بكاميرا الهاتف سجادة نسجتها لحفيدها، لكن المشاغل جعلت المكالمة تنقطع، من هنا تزداد الحسرة أكثر، وشعرت “ماهين” بغربة جارحة وقاتلة في بيتها الخالي من الحركة، لا سيما أن حياتها بدأت تضيق أكثر.

هي منطلقات نفسية صيغت بحِرفية متقدمة، على بساطتها وعفويتها وجراحها العميقة، ويعود هذا إلى فطنة المخرجيْن، فقد أحسنا نسج تلك المعطيات المستمدة من سلوك البشر، لهذا ولّدا تلك الحسرة والوجع والفقد والعزلة وعدم القيمة والاهتمام، وكلها انفعالات يحس بها أي فرد، ومن ذلك الجمهور، لأن المتفرج -مهما كان عمره- سيأتي عليه يوم يصبح عمره يحاكي أعمار تلك الشخصيات، لهذا سيكون هناك تأثر ومعايشة وتلقٍّ قوي.
تقلبات الزمن.. ندوب غائرة وملامح متغيرة
يصبح الزمن مادة محسوسة، من خلال الشخصية الرئيسية في الفيلم، بمعنى أن الندوب الغائرة أو علامات التقدم في السن قد انعكست على جسد “ماهين” المترهل، وشعرها الذي فقد لونه.
ولم يكن المعطى الجسدي ميدان التغيير، بل حتى الموجودات الأخرى، مثل تغيير اسم الفندق الذي كانت تذهب إليه لإحياء الحفلات الراقصة في شبابها، وكان اسمه يومئذ فندق “الحياة”، ثم تغيرت التسمية وأصبح يسمى “الحرية”، وفي البداية كان الناس يشعرون بتلك التسمية، ثم أصبح مجرد شعار.
حتى إنها عندما دخلت مطعم الفندق، طلبت من النادل أن يحضر لها مشروب شاي بالثلج، فأخبرها أن تلك المشروبات قديمة لم تعد في القائمة، وعندما طلبت منه قائمة الطعام والمشروبات، قال لها امسحي “الكود” وستظهر القائمة على الهاتف، فعرفت حينها أنها تعيش زمنا ليس لها، لذا شربت كوب شاي وانصرفت.

وقد انعكس كثير من مظاهر التغيير وتقدم الزمن، مثل ما وقفت عليه في الحديقة العمومية، عندما وجدت شرطة الأخلاق وهي تعتقل فتيات بحجج شتى، مثل أنهن متبرجات أكثر مما ينبغي، أو يظهرن القليل من شعورهن، لهذا ذهبت “ماهين” ودافعت عن إحداهن بشراسة، وواجهت رجال الشرطة.
وقد تواصلت بعدها مع تلك الفتاة (الممثلة مليكة بازوكي)، ووقع بينهما حوار عن الماضي والحاضر، ماضي “ماهين” وحاضر “فتاة الحديقة”، وقد أفرز ذلك الحوار منطلقات التغيير، وما كانت عليه الأجواء بين الأمس واليوم.
جماليات سينما التقشف.. إدارة الممثل واستغلال الموجود
تتشكل قوة السينما الإيرانية -وفيلم “كعكتي المفضلة” تحديدا- من حسن إدارة الممثلين، ودقة اختيارهم لأداء منطلقات التشخيص، وهو عمل يقع دائما على عاتق المخرج أو من ينوب عنه، لهذا فإن هذا العنصر هو الذي يحدد مصير الفيلم، لأن الموضوع -مهما كانت قوته واختلافه وحضوره- لا يساوي شيئا أمام غياب الممثل الجيد، أو عدم إدارته بشكل محترف.
وفي حالة هذا الفيلم، استطاعت الممثلة “ليلي فرهادبور” التي أدت دور “ماهين”، أن تحمل الفيلم على أكتافها، لأنها عاشت كل لحظة فيه، وتوحدت مع شخصيتها، لا سيما وهي تقاربها سنا (عمرها 64 سنة)، لهذا كان هذا الاختيار ذكيا، لأنه يعكس العامل النفسي لدى الممثلة.
ويقابلها أيضا الممثل “إسماعيل محرابي” الذي أدى شخصية سائق الأجرة “فارامارز”، وقد عكس ذلك الدور بكل مقدرة، كأنه عكس فيه حياته بشكل ما، من خلال تعامله مع التفاصيل الدقيقة، فقد بلغ عمره 81 سنة، ومن هنا كان أكثر قربا من الشخصية، لأنه فهمها أكثر من الكل.

معطيات الفيلم تظهر بأنه لم يستهلك ميزانية كبيرة، انطلاقا من معطى “سينما التقشف”، تلك التي تقود آليا إلى استغلال الموجودات، وفي هذه الحالة انعكست في السيناريو القوي، والفضاءات المغلقة والمحدودة، ومعظمها جرى في داخل البيت، لهذا استطاع التحكم فيها.
لكن من جهة ثانية، لم يأت هذا التحكم اعتباطيا، لأن ذلك قد يغيّب الجمالية، ويكون موت الفيلم تحصيل حاصل، لكن مخرجي “كعكتي المفضلة” ذهبا لقوة الضوء وهالته الجمالية، وجعلاه مصدرا لا ينضب من الجمال البصري، لا سيما من خلال اللعب بالظل والنور، وزرع الضوء الخافت على الوجوه، وتقريب الكاميرا من الملامح، لخلق علاقة قوية بين المتلقي والفيلم، أتقن صناعتها المصور محمد حدادي.

كما استطاع المخرجان خلق لغة سينمائية قوية، من خلال ربط الموجودات واستغلالها بشكل رهيب، فمن ذلك إصلاح المصابيح، وري الحديقة، وحفر القبر، وصناعة الكعكة، وإعداد الطعام، وصور العائلة على جدار البيت، والاستحمام في الثياب، وكلها أدت وظيفة تواصلية قوية، وخلقت نوعا من الرضا البصري والتواصلي.
روح السينما الإيرانية.. انتقاد الواقع ومستويات التكثيف
فيلم “كعكتي المفضلة” للمخرجين “مريم مقدم” و”بهتاش صانعي ها”، عمل سينمائي جيد، تبرز فيه كل الشروط الجمالية والفنية، وقد استمد أهميته من روح السينما الإيرانية التي أشرنا لمنطلقاتها أعلاه.

وقد جاء الموضوع انتقاديا للواقع المجتمعي، لا سيما التغييرات التي حدثت فيه، وحرمت فئات من الناس حريتها وطريقة عيشها، في ظل وجود ضوابط معينة لا يمكن الحياد عنها.
كما عكس الفيلم، وبدرجة متقدمة، مفهوم التكثيف الجمالي، بمعنى أنه استطاع أن يوازن بين الحوارات المنطوقة والصور المعبرة، من دون أن يقحم الحشو في الفيلم، أي إن فيه لكل حدث أو فعل مبررا دراميا، وهذا التكثيف قاد بالضرورة لخلق جماليات كبرى، أنتجت فيلما بمستوى جيد.