“احتضار”.. قصة عن أولئك الموتى الذين يعيشون بيننا

هناك شيء ما يمكن الحدس به من مشاهدة فيلم كهذا، حتى من دون أن تعرف مخرجه، إنه فيلم شخصي. هناك ألم حقيقي جدا تلمسه بين منعطفات الحكاية.
حين عدت إلى محاورات المخرج “ماتياس غلاسنر” حول فيلمه “احتضار” (Dying)، وجدته يصفه بأنه أكثر أفلامه ذاتية، وهو الفيلم الذي أعاده للسينما بعد غياب 12 عاما.
كان والداه قد توفيا في عام 2018، وخلال هذا العام ولدت طفلته الأولى، وهو يفتتح بها فيلمه عبر فيديو مصور بالهاتف، فتقول: “عليك أن تصدق قلبك، أن تتبعه وأن تفعل ما يخبرك به”. تبدو نصيحة مناسبة لشخصيات الحكاية، المُمعنين في اغترابهم عن ذواتهم الحقيقية.
عُرض الفيلم أول مرة في مهرجان برلين السينمائي 2024، وفاز بجائزة الدب الفضي لأفضل سيناريو، وفاز أيضا بجائزة الفيلم الألماني المعروفة باسم “لولا” (LOLAS)، بوصفه أفضل فيلم لهذا العام.
حكاية عن الموتى الأحياء
يمكنك توقع جانب مما يدور حوله فيلم “ماتياس غلاسنر” الذي يحمل عنوان “احتضار”. يدور الفيلم بفصوله الخمسة حول عائلة “لونيز”، فيبدأ السرد بالوالدين “ليسى” و”جيرد” اللذين يعيشان احتضارا مريرا.
يصور “غلاسنر” ذلك بواقعية شديدة من دون أي تجميل، وبطبيعية توحي بأن هذا يوم آخر في حياة الزوجين المسنين. من هذا المنطلق، ينتمي الفيلم لما يسمى “أفلام شريحة الحياة” (Slice of Life Movie).
تمنحنا هذه البداية المؤرقة تصورا واضحا لمحنة الشيخوخة، لكن مع تتابع الحكاية نكتشف أن ما يعنيه عنوان الفيلم المصاغ في زمن المضارع المستمر، هو حالة الموات التي تعيشها عائلة بأكملها.
أما السؤال الذي تطرحه خطوط الحكاية، فهو سؤال وجودي: متى يتوقف المرء عن الحياة ويبدأ في الموت؟
وبالإضافة للموت الحقيقي، يعبّر الفيلم عن نوع من الموت الوجودي، عن لحظة خفوت ممتدة للحياة، واغتراب عن الذات، والسير عكس عقارب القلب. وما يعيشه ابنا العائلة “توم” و”إلين” لا يقل قسوة وصعوبة عما يجده الوالدان العجوزان، فالفيلم بأكمله هو تأمل في الموت والميلاد وما بينهما، إنه فيلم عن الموتى الأحياء أو الأحياء الموتى.
يهرول “توم” (الممثل لارس أيدينغر) في الحياة مثل دجاجة خائفة، بل مثل دجاجة مذبوحة، ومع ذلك يهرول على أي حال، وهو وصف دقيق للحياة المذعورة التي يعيشها. أما أخته “إلين” (الممثلة ليليث شتانغنبرغ) فلا تكاد تفيق من سكرها، وحين نراها أول مرة نجدها تستيقظ وحيدة في فندق ببلد غريب، وهي لا تذكر الرجل الذي كان معها الليلة البارحة.
يعمل “توم” قائد أوركسترا، وحين يحاول أن يقدم لعازفيه القطعة الموسيقية التي ألفها صديقه والتي تحمل عنوان الفيلم، فإنه يخبرهم أن ما تعبر عنه الموسيقى هنا شيء مرعب، شيء كالموتى الأحياء.
أمام قبر الأب يردد القس مقولة شعرية عن أن هناك مملكتين في هذا العالم، مملكة الأحياء ومملكة الموتى، ولا يفصل بينهما سوى الحب.
“لقد كنت أحد الرجال الجيدين”.. فاجعة تجمع العائلة
هذا الفيلم هو تشريح دقيق لعائلة ألمانية شديدة الاختلال، فهناك تاريخ مشترك من الألم يجمعهم معا في رابطة مؤلمة، تجعل كل واحد منهم يتحاشى التواصل مع الآخر، وكأن كل اتصال بينهم يهدد بإيقاظ الجرح النائم تحت ثقل هذا التاريخ.
يبدأ الفيلم باتصال بلا رد من الأم إلى “توم”، لتخبره بتطورات حالة أبيه الصحية، التي لم تعد قادرة على التعامل معها، ثم يعاود الاتصال بها لاحقا، وهذه المكالمة يكررها “غلاسنر” مرتين، مرة من جهة الأم، وأخرى من جهة الابن.
هذا التكرار ليس مجانيا، بل يكشف بوضوح عبر انفعال الطرفين أثناء المكالمة أن هذا الاتصال غير مرغوب فيه. ويخبر “توم” الأم في مشهد لاحق أنه طالما أحب والده، ولكنه لم يعُده في مرضه، لأن زيارته كانت تعني رؤيتها والاضطرار للحديث معها. والوضع ليس أفضل حالا في علاقته مع أخته، ولا في علاقاتهما العاطفية.
هناك جُمل ما قصيرة، لكن سياقها يمنحها ثقلا معنويا هائلا. يطلب القس من الأم أن تودع زوجها الميت ببضع كلمات، وما تقوله يكشف الدور الذي لعبته الأم في اختلال هذه العائلة.
تودع الزوجة زوجها التي عاشت معه عمرا كاملا، وهي تقول: “لقد كنت أحد الرجال الجيدين، شكرا لك”. تقولها بتردد واقتضاب ثم تمضي. تمثل الأم القلب البارد والموحش في هذه الدراما العائلية.
كراهية قتلت الحب في مهده
عند منتصف الفيلم تقريبا، يأتي المشهد الأهم والأكثر كشفا عما عاشته هذه العائلة، حين يجلس “توم” مع والدته بعد وفاة الأب، ويتحدثان بصراحة أول مرة في حياتهما.
في هذا المشهد، تخبره أنه لم يكن طفلا مرغوبا فيه، وأنها لم تحبه أبدا، لذلك لم يُحزنها برود مشاعره تجاهها، لكن ما كان صادما لها هو كراهية “إلين” لها، لأنها أحبتها حقا.
هذا فيلم عن إرث العائلة، إرث صادم من غياب الحب، والصدمة تغربك عن ذاتك، فلا شيء يجعل الإنسان أكثر حياة من الحب، من قدرته على منحه وتلقيه. غياب الحب يجعل أفراد هذه العائلة يعيشون كالموتى الأحياء، يجعلهم يهربون من المشاعر الحقيقية والعلاقات الجادة.
مزيج حرج من المأساة والكوميديا
أتذكر أنني شاهدت الفيلم في قاعة سينما بها خليط من جنسيات شتى، وأتذكر جيدا مشهد المكاشفة المؤلم بين “توم” وأمه. كنت أحيانا أشيح بوجهي عن الشاشة، لأن ما أشاهده مؤلم وجارح، وكانت الفتاة التي تجلس قربي تحدق بعيدا، كان هناك صمت يمكن الإحساس به، وكان هناك ضحك.
أرى أن ما يميز الفيلم هي نبرته التي يختلط فيها ما هو مأساوي بما هو كوميدي، وتنبع كوميدياه التي تتناول موضوعات مأساوية من مد المأساة على استقامتها، حتى تلتقي بنقيضها.
خوف “توم” من العلاقات الحقيقية ومن الأبوة، يجعله يتعهد بمساعدة حبيبة قديمة في تربية طفلتها من رجل آخر، لذلك حين يصف لصديقه علاقته بهذه الطفلة، يقول إنها نصف طفلة لي أو ربما ثُمن طفلة. هذه التعليقات الكوميدية التي تلقى بمنتهى الجدية تخفي حرجا ذاتيا.
في بداية الفيلم، تعود الأم بعد تسوّقها إلى سيارتها، فتجد زوجها -الذي يعاني من حالة متقدمة من الخرف- يجلس في مقعد السائق، فتخبره: لقد منعك الطبيب من قيادة السيارة، ومع ذلك عليك أن تكون عيني، لأنني لم أعد أرى.
تحضر “إلين” حفلا لأخيها “توم”، ربما يكون الأهم في حياته، لكن في المشهد الذي تتقيأ فيه تفسد الحفل، وذلك أمر مأساوي، ولكن من خلال دفع المأساة يختفي الخط الفاصل بين المأساة والكوميديا، فالمأساة والفكاهة متشابكان تماما.
يستولد المخرج “ماتياس غلاسنر” كوميديا قاتمة من قلب المأساة، وينجح هنا في تحقيق هذا المزيج المتوازن من المشاعر المأساوية الكوميدية في قصة هي تعبير عن دائرة الحياة المريرة الساخرة.
“ماتياس غلاسنر”.. صانع سينما المعضلات الأخلاقية
“ماتياس غلاسنر” هو مخرج وكاتب سيناريو ألماني، وهو معروف بأفلامه التي لا تعرف المساومة، كما يعدّ صوتا مهما في السينما الأوروبية الحديثة.
ومن أعماله السابقة “الإرادة الحرة (Der freie Wille) الذي أنتج عام 2006، و”جمال” (Gnade) الذي أنتج عام 2012، وهما يستكشفان العلاقات الإنسانية المعقدة والمعضلات الأخلاقية. وفي أحدث أفلامه يخوض في أسئلة الحياة والموت وديناميكيات الأسرة والصداقة، بمزيج من التعاطف والصدق.
ففي مشهد من مشاهد الفيلم يتحدث “توم” وصديقته عن أن كثيرا من أمور الحياة لا يمكن تصنيفها على أنها صواب أو خطأ، لأنها دائما ذات جوانب عدة، ولا يمكن اختزالها في شيء واحد ولا محاكمتها أخلاقيا.
وذلك ما يجعل الحياة محتملة لدى بعض الناس وغير محتملة لدى آخرين. يتعاطف “غلاسنر” بصدق مع شخصياته ولا يدين أحدا في الطريقة التي اختارها لعيش حياته.
هل الحياة الخالية من البهجة تسمى حياة؟
تواصل “إلين” حياتها كما هي، غارقة في الكحول، أما “برنارد” (الممثل روبرت جواسديك) وهو صديق “توم” ومؤلف المعزوفة الموسيقية التي تحمل عنوان الفيلم، فقد قرر أن ينهي حياته، لأنه يجدها لا تحتمل.
يحتضن “توم” جسد صديقه المنتحر، ويسمح له بتنفيذ ما أراده وأصر عليه. ويمكن فهم المعضلة التي يطرحها الفيلم هنا عبر سلوك “توم” تجاه انتحار صديقه، وإسهامه في تسهيل رحيله.
يذكرني ذلك بالمعضلة التي يطرحها عباس كيارستمي في فيلمه “طعم الكرز”، هل الحياة الخالية من البهجة تسمى حياة؟
يعترف “غلاسنر” ضمنيا بمدى صعوبة الحياة، فهو يجدها غير محتملة أحيانا، وأيا كانت طريقتك في التعامل مع صعوبة الحياة، فعلينا تجاوز الأحكام المسبقة، حسب رأي “غلاسنر”. هذه هي المعضلة التي يطرحها في فيلمه.
“الأمل في قدرتنا على الكتابة والعزف والتواصل”
حتى لو لم تشاهد الفيلم واكتفيت بقراءة هذا المقال، لا بد أن يكون قد تبادر إلى ذهنك الآن هذا السؤال: ما الجدوى من تقديم فن عن الموت؟ عن الاحتضار المادي والمعنوي؟ وعن مفارقة الحياة طوعا؟
يجيب الفيلم عن هذا التساؤل ضمنيا، حين يسأل “برنارد” عازفي الأوركسترا عن رأيهم في مقطوعة “احتضار” التي ألفها، فيجيب أحد العازفين: ما الجدوى؟ إنها لا تحمل أي أمل.
فيجيبه “برنارد”: الأمل هو في قدرتنا على كتابة مثل هذه المقطوعة وعزفها، والتواصل عاطفيا خلالها مع جمهور المستمعين.
يعول هنا المخرج “غلاسنر” على قدرة الفن على لمسك من الداخل، قدرته على الوصول بين قلبين، عبر الأثير في حالة الموسيقى، أو عبر شاشة السينما في حالة الفيلم.
يخلق “غلاسنر” من فعل اللمس فكرة تسهم بوضوح في خلق معنى الفيلم، ففي الفيلم أحضان خالية من الحميمية، وممارسات حب خالية من الحب. وحين ينفصل عن “إلين” عشيقها يخبرها أن علاقتهما لا تنجح إلا بالكحول، أما حين تفيق فترفض الانخراط معه في أي حديث حقيقي.
هذا فيلم عن فقدان التواصل مع الذات والآخرين. ومن المفارقات الساخرة أن العناق الحقيقي الوحيد والحميم في هذا الفيلم يحدث عندما يحتضن “توم” صديقه وشريكه الإبداعي “برنارد”، وهو يرقد محتضرا في حمامه.
إن ملحمة “ماتياس غلاسنر” الممتدة 3 ساعات، هي كوميديا سوداء عن الموت والحياة والإرث الثقيل للعائلة، وعن حق الإنسان في اختيار مصيره.