“أرزة”.. دراجة مسروقة تختزل واقع الشتات الطائفي

تخبرنا حكايات التاريخ المتوارثة أقاويلها، أن البداية الحقيقية لصعود شبح الطائفية في لبنان، قد انطلق مع تفشي أدخنة الحرب الأهلية في السبعينيات، لكن ما أُغفل سهوا هو أن ضعف السطوة المركزية للدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، ساهم فيما بعد بانفراط عقد هذا الوثاق الديمغرافي، وبالعودة للماضي نستطيع قراءة مشهدية الحاضر.
هذا الحاضر المغلف بالصراعات الخفية بين حدود هذه الطائفة وتلك، يقدمه الفيلم اللبناني “أرزة” (2024)، وقد كتب له السيناريو لؤي خريش وفيصل سام شعيب، وأخرجته اللبنانية ميرا شعيب، وهو أول تجاربها الروائية الطويلة، بعد سنوات من صناعة الأفلام الروائية والوثائقية القصيرة، أغلبها مشغول برصد تداعيات الواقع اللبناني المأزوم أمره على الدوام.

نحن أمام مخرجة تدرك تمام اليقين ما تريد قوله، وقد استطاع الفيلم جذب ردود أفعال واسعة الصدى، بعد عرضه في عدد من المهرجانات السينمائية الدولية والعربية، استحق الفيلم بسببها جائزة أفضل موسيقى تصويرية، من مهرجان أيام قرطاج السينمائية.
طموح تجاري يصطدم بجدران الطائفية
تقتنص أحداث الفيلم مقطعا من حياة بطلته أرزة” (الممثلة اللبنانية دياموند أبو عبود)، وهي تعمل في إعداد الفطائر المخبوزة منزليا وبيعها، ثم يدفعها طموحها التجاري لشراء دراجة نارية بالأقساط المؤجلة، لتوصيل عدد أكبر من الطلبات المتراكمة، لكن القدر يباغت تطلعاتها بسرقة الدراجة، وعندئذ يصبح لزاما عليها الوفاء بالتزامات الدين، بمحاذاة متطلباتها المالية الأخرى.
هكذا ينسج الفيلم سرديته، مقدما الواقع اللبناني كما هو، خاليا من الرتوش التجميلية المشروعة فنيا في بعض الأحيان، مدثرا هذا الغشاء السردي بجرأة وقدرة استثنائية على البوح والتعري المجتمعي.

فالمضمون العام للفيلم يبدو معنيا في المقام الأول بإثارة تساؤلات الانتماء وإشكالات الهوية، فهو يستعرض أزمة الطائفية بأريحية مخلوطة بتوابل السياسة، وتلك أزمة مؤثرة ضمنيا على وحدة النسيج الداخلي للشعب اللبناني.
ومن هذه الاستفاضات الفكرية الشائكة أحيانا، والمثيرة للتأمل حينا آخر، ثمة قماشة سردية أخرى تغزل خيوطها على مهل، قوامها الواضح بلا مواربة أن مسارات الحياة لا تتدفق أمواجها، إلا بقوة الأمل وحده، ولا شيء سواه.
في ظلال هذه الأوضاع المحكومة بالضيق والخناق الاقتصادي، كيف ستدير بطلتنا ما تيسر من حياتها؟
مفتتح سردي.. نظرة على واقع الشارع اللبناني
يشيد السيناريو عالمه السردي، استنادا على المبدأ الدرامي التقليدي، القائم على النسيج الخطي، الخالي من الالتواءات الدرامية أو الزمنية، وبهذا التدافع الحكائي تطالعنا تدريجيا الإجابة المنتظرة.
تبدأ الأحداث بتتابع مشهدي، نرى فيه “أرزة” وهي تقتحم المجال البصري للشاشة، من ناحية اليسار تقديرا لأهميتها الشخصية والدرامية، ثم تستكمل سيرها في الشوارع المكتظة بالتنوعات البشرية، متجاهلة بابتسامة عابرة دعوات التظاهر والاحتجاج على النظام السياسي، حتى تعود من حيث بدأت إلى منزلها، وهذه المرة تعبر الإطار من الناحية اليمنى، بعد أن انتهت من شراء أغراضها المنزلية.

ومن ثم اختار الفيلم أن يبدأ حكايته بهذا القوس الافتتاحي، فهو لا يكتفي بتقديم الشخصية الرئيسية محل التناول فحسب، بل يقدم كذلك لمحة يسيرة من عالم سردي تدور في إنائه الشخصيات، وهي تناضل وتصارع لبلوغ تطلعاتها.
ولذلك فإن البناء العام يقوم على توليفة من العلاقات الثنائية والثلاثية، وبالاحتكاك المتوقع بين بعضهم تتدافع الأحداث للأمام، نحو الذروة المنتظرة.
ومن هنا يمكن القول إن نسيج الفيلم الدرامي، لا يتكئ على البطولة الفردية أو الجماعية للشخصيات، مع ما نرى من بطولة فردية مستحقة لشخصية “أرزة”، ذلك أن المكان يحظى بنصيب من تلك الكعكة، لرغبة أصيلة في تسليط نيران النقد اللاذع نحو جوهر المكان، المكتظ حتى الحافة بالتناقضات، وهي لا تنكشف على جرعة واحدة، بل يعمد السرد إلى إزاحة غموضها وتفكيك شفراتها شيئا فشيئا.

فالبداية مع الفصل التمهيدي الأول، الذي يكشف عن أبطال الساحة السردية، ومعضلتهم الإشكالية مع معوقات المكان، وهي تتضح تدريجيا مع دخول الفصل الثاني، فيدخلوا في خصومة واضحة المعالم ضد حيثيات هذا العالم المحيط والمحِبط في نفس الآن، إلى أن تتم إجراءات المصالحة مع أجواء المكان في الفصل الثالث.
أوضاع البلد.. بيئة تدفع أبناءها إلى الهجرة
لا يتأخر السرد في تقديم رؤيته الوصفية للمكان، فالمشاهد الأولى الكاشفة عن الشخصيات ودوافعها كفيلة بتحقيق هذا الغرض، فنرى كنان (الممثل بلال الحموي) وهو ابن أرزة في لقطات عدة يطلق قذائف انتقاداته للوضع العام.
فالاحتجاجات الثورية الدؤوبة لا تحقق التغيير المطلوب، ناهيك عن التدهور الملحوظ في الأداء الاقتصادي، ويقدمه السيناريو عبر مشاهد عدة، يظهر فيها قوة الدولار الشرائية مقابل الليرة.
هذا على نطاق الوضع العام، الذي يلقي بتأثيراته على الشخصيات، فلا ترى مخرجا سوى الهروب إلى الخارج في قوارب الهجرة غير الشرعية، ثم يبدو المكان مكبلا محصورا بالضيق، أو بمعنى أكثر دقة طاردا لأهله ورفاقه، ولذلك يلجأ الأسلوب الفيلمي إلى المباشرة في تقديم عالمه السردي، فالتعبير الشجاع عن الواقع لا يحتاج إلى الاختباء والمواربة.

ولأن الواقع يضغط بأحماله الثقيلة على الجميع، حتى يعلي شأن الفردية في مقابل انحسار التضامن الإنساني، تلجأ أرزة لسرقة سوار أختها الذهبي، لسداد دفعة مقدمة من ثمن شراء دراجة نارية، حتى يقودها ابنها للمساعدة في توصيل طلبات الفطائر التي تعدها للبيع.
بحث عن الدراجة في جغرافيا ممزقة
مع بهجة الأيام الأولى، وفي غفلة من الابن تسرق الدراجة، ومنذ ذلك الحين يورط السيناريو المتفرج معه، في دوامة البحث عن ذرات الدراجة التائهة في شوارع بيروت.
يتوالى كشف السرد على نحو أكثر تفصيلا، عن ماهية المكان الذي يغلفه الشتات من كل حدب وصوب، فالقوس الافتتاحي لملحمة الانقسام الداخلي تلك، تبدأ مع بيع السوار الذهبي لتاجر أرمني، ثم شراء الدراجة من تاجر درزي، وكل منهم لا يأمن الآخر.
ومع اختطاف الدراجة، تدخل الأم وابنها رحلة بحث في كل بقاع بيروت، فكل بقعة تسيطر عليها طائفة ما، وكل فصيلة طائفية لا تساعد من هم خارج حيزها الآمن.
ويستثنى من هذه السيمفونية السكانية المبعثرة متجر الهدايا والحلي، فهو يجمع كافة الشعارات الدينية والسياسية، وتتردد أرزة عليه في ديمومة مكررة تبعا لحالات التنكر، وهكذا في دوامة متصاعدة المتاعب، لا تقترب من المراد، ولا تبتعد كذلك.
متاهات البحث.. صراع متعدد الأوجه بين الشخوص والمكان
مع الفصل الثاني تنطلق أرزة وابنها كنان في رحلة بحث عن أي أثر للدراجة المفقودة، بأسلوب يقترب إلى حد كبير من الفيلم الإيطالي الأيقوني “سارقوا الدراجات” (Ladri di biciclette) للمخرج الإيطالي “فيتوريو دي سيكا”، وهو من إنتاج عام 1948.
فلئن كان الفيلم القديم يقدم الواقع الإيطالي وقد تهاوى اقتصاديا وسياسيا بفعل الحرب العالمية الثانية، فإن البيئة العامة للأحداث في فيلمنا لا تختلف كثيرا، فالإطار العام مغلف بالتراخي الاقتصادي، الذي ينعكس على الفرد، وبين هذا الضعف وذاك يقبع وطن ممزق الأوصال.

وللتعبير عن هذا السياق، يمزج الفيلم في تناوله بين التراجيديا والكوميديا، فالضحك يتوالد تلقائيا من مشاهد أرزة المكررة، أثناء تنكرها الشكلي، بما يناسب كل طائفة، بحثا عن الدراجة المسروقة، لكنه ضحك مبتور تصحبه مرارة الواقع، فتبدو الكوميديا -التي تبزغ من تلقاء الموقف- سوداء ساخرة وناقمة على هذا الوضع المثير للتأمل والحيرة.
وعندئذ يمكن الوصول إلى صيغة تفاهمية بشأن الصراع الدرامي، الذي يبدو مهموما بالتعبير عن النزاع من أجل البقاء على الحد الأدنى من الحياة، ولذلك تخرج الدراجة النارية المسروقة، من حدود كونها وسيلة لتحسين المستوى المعيشي، إلى دلالة الرمز، وكأنها تمثل طوق نجاة.

ولا تتوقف أركان الصراع عند هذه النقطة، بل يصاغ بصورة أكثر اتساعا مع توغلنا في السرد، حين يكشف عن تباين الرؤى بين الأجيال، أما أرزة فترغب بالتشبث بجذورها، وأما كيان فيسعى بدأب للفرار من محدودية هذا المكان المحصور بالكبت.
وهكذا يقدم الفيلم توليفته السردية، ويتضمن نسيجها المتشعب صراعا متعدد الأوجه، يحيل تطلعات الشخوص الفردية إلى إطار أوسع وأشمل، فتصبح الصراعات الشخصية تأويلا وانعكاسا للصراع العام، الذي يحيط بالحيز الجغرافي المنقسم على ذاته، والذي يلقي صدى تفاعلاته على الأبطال، فالواقع أن كلا منهما يتفاعل مع الآخر وضده.
ثنائيات متشابكة وبشائر منتظرة
مع أن الحكاية تتميز ببساطة مقنعة، فإنها لا تخلو من بعض التعقيد على مستوى العلاقات بين الشخصيات، فالبناء العام يقوم أساسه المعماري على الدوائر الثنائية، البداية مع العلاقة التقليدية بين أرزة وكنان، وبين أرزة وأختها ليلى، وكذلك بين ليلى وكنان، ثم نصل إلى الدرجة الأكثر تفصيلا، بالعلاقة بين كنان وصديقته ياسمين.
وبنظرة واسعة المدى، يمكن أن نلاحظ أن هيكل الأحداث لا يسير على خط درامي وحيد، لكن هذا السياق يحتوي في داخله خطوطا سردية أخرى، تتفرع من رحم الخيط الأصلي، وكل منها يسهم بقدره المتوازن في إثراء النسيج السردي بألوان متباينة من الحكي.

لكن الملفت حقا للنظر، هو المساواة بين جميع الشخصيات في معيار البؤس والتعاسة المستحق لكل منهم، فأرزة قد تركها زوجها في بداية زواجهما، وفر هاربا من دون أن يترك أدنى وسيلة للتواصل، وأما ليلى فما تزال تنتظر عودة زوجها، ولا تعلم أنه قد لقي حتفه في سجون النظام السوري، وعلى الرقعة الأحدث نرى كنان وقد باغتته ياسمين برحيلها المفاجئ إلى أوروبا مع أسرتها.
وهكذا يبدو الإطار العام مدثرا بغلالة رقيقة من الفقد والحنين، مما يدعم النسيج السردي بمسحة شفيفة من العذوبة والشاعرية.
وعندئذ يمكن بمنتهى السهولة واليسر الوصول إلى مفتاح قراءة الفيلم، وهو يكمن ببراءة بين الإيمان غير المحدود بقوة الأمل، والرجاء في المستقبل الأفضل، الذي سيأتي بالتأكيد في الوقت المعلوم.
فالجميع ينتظر وصول بشارة مجهولة حسنة الطالع؛ أرزة الباحثة بدأب واجتهاد عن دراجتها، وليلى المنتظرة عودة زوجها، وبينهما كنان الذي ينبش عن فرصة ملائمة، للفرار من جحيم هذا الواقع المشلول بندرة الفرص.
عودة الدراجة.. مصالحة بين مجتمع متشابك
لا يتوقف التعبير عن الحصار الذي تعاني منه الشخصيات على السياق الدرامي فحسب، فعناصر التكوين والصورة تقول كلمتها أيضا، فتطالعنا أرزة في مشاهد عدة، وهي في إطار محصور ضيق المساحة، تعبيرا عن الحصار النفسي والذاتي الذي يغلف حياتها.
ولاكتمال الصيغة التعبيرية، يلجأ الإخراج إلى زوايا التصوير المتوسطة الحجم، التي تسهب في التعبير الوصفي عن محتويات تلك الحياة التي يعيشها أبطالها.
لقد اختير أبطال الفيلم بعناية فائقة، فانتماءاتهم الطائفية والدينية حقيقية تماما، فكل منهم يعبر عن عقيدته المذهبية، فالتاجر الدرزي ومن يماثله من الموارنة ينتمون إلى تلك الطوائف.
لذلك تتباين اللكنات باختلاف الشخصيات والمكان كذلك، فلكل ضاحية لكنتها المغايرة عن الأخرى، أما ما يثير الإعجاب حقا، فهو الالتزام كذلك بأماكن التصوير الواقعية، التي تسيطر عليها كل طائفة بحسب تعدادها السكاني.

يتوالى السرد باندفاع محموم نحو الذروة، وحين نصل إلى الفصل الثالث تلتئم الخيوط السردية معا، وتجري وقائع المصالحة مع المكان، بعد أن يستعيد الثنائي أرزة وكنان الدراجة المسروقة، وتقتنصهما الكاميرا في لقطات متعاقبة أثناء تنقلهما السعيد في شوارع بيروت.
وفي طرح موازٍ يقول الشاعر اليوناني “قسطنطين كفافيس” عن التشبث بالهوية المكانية: “لن تجد بلادا ولا بحورا أخرى، فسوف تلاحقك المدينة، ستهيم في نفس الشوارع وستدركك الشيخوخة، في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها”.
وكأن شاعر لبنان جبران خليل جبران اختزل ذلك السيل الجارف من التعلق بالمكان حين قال:
بِلادي لا يزالُ هواكِ مِنِّي
كما كانَ الهوى قبلَ الفِطامِ
ومن ثم يمكن القول إن السياق السردي نجح في خلق فيلم جذاب المحتوى الشكلي والفكري، يحرض على التأمل والتدبر، ويبعث على التساؤلات المشروعة، الباحثة عن إجابة مؤكدة راسخة اليقين، عن السبب الحقيقي في تجانس هذا المجتمع شكلا، وتباعده مضمونا.