“فيرميليو”.. دراما الحرب والحب في قرية جبلية نائية

تعتمد بعض الأفلام على الهوية المكانية لقيادة الفيلم، فتمنح المكاني مساحة ليصبح شخصية مستقلة، يمكن تناولها والاشتباك معها في مواطن إبداعية، تقارع الشخصيات في حضورها.

فبجانب كون المكان هو الإطار التي توجد بداخله الشخصية، ويحيطها بالمرئيات والصور التي تغذي الشخصية بأكثر من طريقة، فإنها من الأشياء التي لا يمكن التحرر منها تقريبا في سياق سينمائي غير تجريبي.

فالمكاني ليس مجرد صور سطحية وتضاريس وأبنية مرتفعة تكتنف البطل، بل هي الأساس الجوهري للسردية السينمائية؛ كما في فيلم “فرميليو” (Vermiglio) للمخرجة الإيطالية “مورا ديلبيرو” (2024)، الحاصد جائزة الأسد الفضي، وأربع جوائز أخرى في مهرجان البندقية السينمائي، وبذلك يصبح من أهم أفلام العام 2024.

تلعب المسافات دورا محوريا في بناء النمط البصري لفيلم “فيرميليو”، فالفيلم لا يتحرك إلا في إطار معين، وذلك الإطار هو ما يكسبه خصوصيته، فلا يستخدم انتقالات زمانية إلا في سياق خطي، ولا يحاول التلاعب أو كسر الإيقاع الذي يؤسس له منذ اللقطة الافتتاحية لمجموعة من الصبية ينامون على ملاءات بيضاء.

سحر سردي في قصة شديدة العادية

من اللحظة الأولى نلاحظ أن المخرجة تحاول أن تحكي قصة شديدة العادية، في بيئة تتسم بالبطء، لكونها تعيد بناء وتكرار نفسها يوميا، فالمجتمع الريفي التي ترصده المخرجة، يتميز بموقع جغرافي استثنائي على جبال الألب، ولكنه يتسم بالاعتيادية المفرطة والألفة المنتظمة.

يتنامى هذا الشعور بمراقبة الثلج والصقيع الذي يتصدى لكل شيء، مثل سجادة بيضاء مشدودة الأطراف بإحكام، لا تُرى لها بداية ولا نهاية، فلا وجود لما قبلها أو ما بعدها، ولا وجود إلا للداخل الرافض للتجاوز، وكل ما يقع وراءه لا يتوفر، ولا يُدرك إلا في الكتب والحكايات والأمنيات.

لذا فالإيقاع يرتبط بزمن القصة في أربعينيات القرن المنصرم، وبالطبيعة الاجتماعية للعالم القروي المنغلق على ذاته، إلى جانب تأثر إيطاليا برمتها بالحرب العالمية، فالحرب تلتهم كل شيء تقريبا، شباب الصبية وأحلام الصبايا.

ملصق فيلم “فيرميليو”

وبجانب كون المخرجة تحاول التأسيس لحكاية شديدة العادية، فإنها تفتش في دواخل الشخصيات، لكل فرد في الفيلم صراع مختلف مع ذاته، سواء كان صراعا على المستوى الجسدي أو النفسي.

ومع أن الصراعات المرصودة -حتى الداخلية منها- ليست فائقة بأي شكل على الإطلاق، ولا تحمل أي تفرد حقيقي، فإن الجهد المبذول على المستوى الشكلي يرفع الفيلم إلى مستوى مختلف، ويفرض علينا النظر إلى تلك الأحداث شديدة العادية في إطار شديد الاستثنائية على المستوى البصري.

رهان على خطر الأحداث الخارجة عن العادة

استخدمت المخرجة لقطات ثابتة لتكثف الشعور بوطأة الزمن اليومي، ذلك السكون البالغ الذي يعظم الأحداث البسيطة، ويتعاطى معها على أنها أحداث استثنائية، فالحدث الخارج عن إطار العادة يولد شعورا بالخطر.

وهذا ما تحاول المخرجة التفاعل معه؛ التهديد والمجازفة التي يرتكبها بعض الأبطال، كأن يخوضوا في علاقة، أو يشربوا سيجارة في الخفاء، أو حتى أن ينظروا إلى صور عارية في كتاب.

ذلك التعرض النادر لمدخلات استثنائية على البيئة الريفية هو ما يصنع الدراما، خصوصا مع الارتباط الجذري للمعيشة القروية بالظرف الديني والخلفية المسيحية التي تؤثر على الوضع العام، وتخلق قوة مضادة لا نهائية، تحفز صراعا داخليا لدى شخصية الابنة أو الأخت.

أحداث الفيلم تدور في قرية نائية على جبال الألب بإيطاليا

تدور أحداث الفيلم خلال أواخر الحرب العالمية الثانية، في قرية نائية على جبال الألب، موقعها الجغرافي يحافظ على بقائها الداخلي الذي يعتمد على العوامل الأولية في الحياة.

ويركز على عائلة “غراتسيادي”، التي تكافح في ظروف صعبة في ظل الحرب التي تزحف ببطء على جسد القرية، وتحاول الحفاظ على مظاهر الحياة الطبيعية وسط الطبيعة القارسة.

“لوتشيا”.. كبرى بنات العائلة تجتذب الجندي الهارب

تتمحور قصة الفيلم حول “لوتشيا” (الممثلة مارتينا سكرينتزي)، وهي كبرى بنات “تشيزاري غراتسيادي” (الممثل تومازو رانيو)، الذي يعد في قمة الهرم الاجتماعي داخل المجتمع القروي، وهو يتحكم بسلطته المعرفية والمركزية في كثير من شؤون المنزل والقرية.

تتحرك القصة عند وصول “بييترو” (الممثل غوزيبي دي دومينيكو) إلى القرية، وهو جندي صقلّي أنقذ أحد أبناء “تشيزاري” في الحرب، وهربا معا إلى القرية. ويؤدي وصول “بييترو” إلى قلب التوازن الهش للمجتمع، حين ينجذب الجندي ذو الوجه البائس والعينين الحزينتين إلى “لوتشيا”، ويشكل ارتباطهما هروبا من القيود الخانقة للتقاليد والحرب.

“لوتشيا” ترنو إلى الجندي “بييترو” الذي يزور قريتها النائية

ولكن علاقتهما محفوفة بالخطر، ليس فقط بسبب وضع “بييترو” الهارب، بل أيضا بسبب القواعد غير المعلنة التي تحكم الحياة في “فيرميليو”، فالتقاليد العائلية لا تبارك زواج أحد أبناء القرية من أجنبي، فالشأن هنا داخلي، والعالم كله جوّاني، فلا شيء خلف تلك الهضبة ذات الألوان المتناسقة مع الفصول الأربعة، ولا توجد إلا رموز ومصطلحات وإشارات.

صراع اكتشاف الهوية وكسر التقاليد القروية

في داخل عالم الفيلم شخصيات كثيرة على هامش الخط الرئيسي، وتفريعات جانبية تحيلنا إلى إشكاليات كان يمكن استغلالها استغلالا أفضل، فالفيلم يلقي نظرات خاطفة على كل شيء، ولكن لا يكمل أيا من الخطوط إكمالا جيدا، ولا يركز إلا في خط “لوتشيا” الرئيسي، لكونها تجسد عقدة الفيلم الأساسية.

بيد أن أخواتها قد أسّسن مشكلات أخرى يفترض أن تتقاطع بشكل ما مع الخط الرئيسي، ولكننا نتجاوزها كطلقة طائشة تحدث ضجيجا ولا تخلّف أي جراح.

فالأخت الوسطى “إيدا” (الممثلة راكيلي بوتريك) تعاني من استكشاف هويتها الجنسية في حدود القرية، فهي تمارس الإمتاع الذاتي عدة مرات على صور في أحد كتب والدها، وتبدي إعجابا بإحدى فتيات القرية الجامحات، ولكنها تكبح جماح نفسها، بل لا تخرج عن إطار الخطيئة الذاتية، فتحاول الاستغفار والتكفير عن ذنبها في كل مرة بطريقة أعنف وأكثر قسوة.

اجتماع للعائلة حول مائدة العشاء

تُرك هذا الخط مفتوحا ولم يُستغل بالشكل الكافي، ولكن وجوده كان ذا قيمة في الرؤية العامة للقرية، إلى جانب خط الأب أو المعلم الوحيد داخل القرية، الذي يحاول تعليم أبناء القرية الأبجديات الأولى التي ستساعدهم بعد ذلك في حياتهم اليومية، ولكن يتحتم عليه اختيار أحد أبنائه المتفوقين، لإرساله إلى مدرسة خارج إطار المرتفعات الجبلية على مد البصر، نحو العالم الآخر، فيختار لذلك ابنته الصغيرة الذكية.

يحطم هذا الاختيار أحلام الأخت الوسطى “إيدا” في الخروج من القرية، فلم تبق لها خيارات أخرى إلا أن ترضى بما قسم لها الأب، فستتزوج في وقت ما، وتعيش مثل أمها وجدتها وبنات قريتها، فلا مكان للطموح أو النظر البعيد.

المجتمع القروي في ذلك الوقت لم يوفر أي مساحة للخروج، وليس عليك إلا النظر تحت قدميك والرضا، أما الحرية والفرار بعيدا عن السلطة الأبوية والدينية فهي أشياء إذا خطرت للمرء، تتملكه التعاسة والبؤس، لذا عليه أن يكون كما سبقوا.

الأخت الكبرى كسرت التقاليد القروية بالزواج من رجل غريب عن القرية

لكن الأخت الكبرى كسرت هذا التقليد، فتزوجت رجلا غريبا عن القرية، وربما كان عليها أن تنظر تحت قدميها كما فعل الأسبقون، فقد مضى “بييترو” لزيارة أهله ولم يعد.

بيد أن علاقتها به أيقظت داخلها شيئا ما، شيئا كان مجهولا وغريبا لديها، أيقظ داخلها شعورا بالحرية والاستقلال وبالوجود، وأدركت أنها يمكن أن تعيش بمفردها في ظل صرامة العالم.

فلسفة عالم النساء في أوقات غياب الرجل

يتمركز الفيلم حول النساء، نساء كثيرات في ظل غياب رجال كثيرين في الحرب، ويرصد بهدوء العلاقة الأبوية التي تفرضها المجتمعات الريفية على النساء، بحيث تحدد نمطا معينا للعلاقات الاجتماعية، يحكمه الرجل.

في حين أن وجود النساء يحمل في ذاته طبيعة مضادة، لأن الفجوة التي تخلّفها الحروب لدى الرجال، على المستوى الاجتماعي والنفسي، يمنح النساء مساحة لاستكشاف ذواتهن في الفراغ المتراكم، فالمكان الشاغر يجسد الفرصة السانحة بشكل غير مباشر، لاجتراح أفعال مضادة للنمط الاجتماعي التقليدي.

بالإضافة إلى ذلك، حاولت المخرجة دمج النمط البصري بالموسيقى الكلاسيكية، فنسمع سيمفونيات عتيقة في خلفية كثير من المشاهد، كأننا نلقي حجرا في بركة مياه راكدة. فالسيمفونيات أشبه بتنويهات أو إشارات للاضطراب الذي يحدث في دواخل الشخصيات.

بطلة الفيلم “لوتشيا” (الممثلة مارتينا سكرينتزي)

وبجانب كون المرأة تعزز سلطة الطبيعة، فإنها تنخرط داخلها لتضاعف حدة المشكلات الوجودية، التي تخلفها التصادمات بين الطموح البشري والجغرافيا البيئية، فلا يمكن قياس ما هو بشري بمقياس الطبيعة.

ذلك التفاعل التي ينتجه النمط البصري للمخرجة، يشد المشاهد نحو حالة تأملية، ويجلبهم للسؤال المعهود عن مكانهم في الطبيعة والكون، ويحيلنا إلى نوع من العبث الكامن في مواجهة غير متكافئة، بين الشعور الملحّ للبحث عن المعنى والحرية، وبين عدم اكتراث الطبيعة أو الكون الذي لا يرى البشر، فالقيود هنا تتجاوز البنية الاجتماعية، وتنتقل من خلال النمط البصري إلى قيود مرئية لا نهائية.

وبذلك يتجاوز فيلم “فيرميليو” كونه فيلم حرب، ويقدم نفسه على أنه استعارة اجتماعية، يطرح أسئلة شديدة الجرأة في مجتمع شديد العادية، يمزجها بصبغة سحرية، ولكنها في النهاية تفتقد لتطوير الشخصيات الجانبية، التي تجسد فرصة ضائعة، كادت أن ترفع هذا الفيلم إلى درجة أعلى.


إعلان