وثائقي “المشهد الأخير”.. في ذكرى رحيل الفنان الليبي صالح الأبيض: ضحكة لم تكتمل

منذ انطلاقته في مسلسل "الطيب درويش" عام 2006، شكل صالح الأبيض ظاهرة غير متوقعة في الكوميديا الليبية، كأنه المعجزة التي جاءت بعد سنوات من الركود في الحركة الدرامية، فصار وجهه مألوفا في البيوت الليبية، وابتسامته ملاذا في زمن يضيق بالفرح. الملصق من تصميم رواس سعيد

في فيلم وثائقي مؤثر، ترسم قناة الجزيرة الوثائقية بورتريها عميقا عن أحد أبرز أيقونات الكوميديا الليبية، وهو الفنان الراحل صالح الأبيض.

صالح الأبيض داخل الإستوديو، في لحظة تجسد تنوع مواهبه الفنية. الفنان الذي لم يكتف بإضحاك الجمهور على خشبة المسرح، بل امتد إبداعه ليشمل التمثيل والأداء الصوتي، مؤكدا أن الكوميديا الحقيقية تُصنع بالجسد والصوت والحضور معا

يحمل الفيلم عنوان “المشهد الأخير”، وقد أخرجه أمان الغربي، وهو لا يقدم سيرة فنية فحسب، بل يغوص في حكاية إنسان، استطاع أن يوحد بالضحكة شعبا أنهكته الصراعات، مانحا إياه ابتسامة كانت بمنزلة خلاص مؤقت.

صانع البهجة في زمن الصراع

يبدأ الوثائقي بمشهد رمزي من طفل يدخل المسرح الشعبي في بنغازي، وذلك استهلال يختزل بداية فنان، انطلق من مسرح المدرسة، ليؤسس مدرسة كوميدية فريدة، لم يستطع أن يجاريها أحد، فبقيت بصمة خاصة به.

صورة تجمع الفنان صالح الأبيض بعدد من زملائه في أحد تدريبات أعماله الكوميدية، وتبدو فيها ملامح التركيز جلية. إنها لحظة عادية، لكنها تختصر روح صالح الأبيض، الذي كان يرى الكوميديا عملا جادا ورسالة إنسانية

يصور الفيلم كيف أصبحت النكتة على لسان صالح الأبيض أداة للمقاومة النفسية والاجتماعية في بلد ينتظر الخلاص.

من كواليس إنتاج الفيلم الوثائقي “المشهد الأخير”، لحظة تسجيل شهادة للفنان سالم عيسى عن رفيق دربه الراحل صالح الأبيض، حيث يستعيد المشاركون ذكريات صادقة عن فنان عاش للكوميديا وترك أثره في وجدان من عايشوه

لقد كانت كوميديا مختلفة، فخلف كل ضحكة شعور بالاختناق، وهو ما التقطه الفيلم ببراعة، مقدما الأبيض وجها حزينا أعياه المرض في أيامه الأخيرة، لكنه ظل رمزا للابتسامة، التي تخفي خلفها صمتا وألما كثيرا.

صورة الإنسان خلف الكوميدي

يعيد المخرج تركيب مسيرة الفنان بشهادات من مقربيه، وأبرزهم ابنه محمد ورفاق دربه من الفنانين، مثل ميلود العمروني، وسالم عيسى، وكانت الشهادات ممزوجة بمشاهد تمثيلية، تعرض بداياته واختيار اسمه الفني، وترسم ملامح شخصيته المركبة.

تتجلى مفارقة الإنسان الفنان بين المرح الدائم على المسرح، والجدية المهنية الصارمة خلف الكواليس، وهي جدية لم تمنعه من أن يكون داعما لمن حوله، بسيطا إنسانيا في تعاملاته.

الفنان صالح الأبيض في استقبال جماهيري حافل ببنغازي، حيث تحتفي به مدينته بأكاليل الزهور. لحظة توثق علاقة استثنائية بين الكوميدي الليبي وجمهوره، الذي رافقه على مدى سنوات من الإبداع الفني

وقد تجاوز الوثائقي فخ مادة التأبين، فأصبح مرآة لزمن كامل، كان يضحك ليمنع آخرين من الانهيار. وتبرز شهادات النساء -لا سيما الفنانة الصحفية يقين عبد المجيد- قوة شخصية صالح الأبيض، وقدرته على دعم زملائه، مما يفسر سر محبته الجارفة.

لقد أثبت الفيلم أن شخصية الفنان الحقيقية هي أساس نجاحه، وأن ما قدمه صالح الأبيض في المسرح والكاميرا مس قلوب الناس مباشرة، لأنه كان تمثيلا لشخصيته الحقيقية البسيطة.

رؤية إخراجية وسرد متصاعد

يتميز الفيلم بتصاعد خطه الزمني، الذي يأخذ المشاهد في رحلة سردية متماسكة من البدايات حتى لحظة الرحيل، من غير لجوء إلى تقنية العودة إلى الوراء، لكن يُلاحظ على المخرج عدم استخدامه مادة بصرية من مدينة بنغازي في حقبة الثمانينيات، معتمدا بدلا من ذلك على صور فوتوغرافية.

من كواليس المسرح الشعبي في بنغازي في حقبة التسعينيات، حيث يظهر صالح الأبيض (الثاني من اليمين) محاطاً بزملائه الفنانين أثناء بروفة إحدى المسرحيات. صورة تعكس روح العمل الجماعي والإبداع الذي ميّز المدرسة الكوميدية الليبية في عصرها الذهبي.

ومع أن ذلك قد يبدو غير مبرر فنيا، فإنه ينسجم مع طبيعة الفيلم التأملية، التي تفضل التلميح البصري على التوثيق الصارم. وكذلك تبدو الموسيقى التصويرية المصاحبة مناسبة لموضوعه، وهي اختيار جيد من المخرج وفريقه.

مجموعة من ملصقات أعمال الفنان الليبي صالح الأبيض، التي شكلت علامات بارزة في مسيرته الفنية، ما بين المسرح والتلفزيون. من الطيب درويش، إلى عالمي ماشي، وكوشي ياكوشة، والأستاذ قلية، تتجلى بصمته الفريدة التي جمعت بين العفوية والذكاء الكوميدي

وبسبب اعتماد الوثائقي على الشهادات، وغياب التسلسل الزمني لأعمال صالح الأبيض، يفقد المشاهد أحيانا رؤية بانورامية لمسيرته الفنية، وإن ظل محتفظا بصورة الإنسان والمبدع.

لكن هذا لم يمنع من رؤيته كاتبا أيضا، وصانعا مسرحيا مختلفا، لا سيما في محاولته تشخيص دور مزدوج، يجمع بين شرق ليبيا وغربها، في بيان للوحدة بين أطراف البلاد.

دفء يحمل عاطفة لا فكرا

تمنح شهادات رفاق الفنان وزملائه دفئا، يكسب الفيلم طاقة وجدانية صادقة، لكن هذا الخيار الإخراجي سلاح ذو حدين، فبينما ينجح في استحضار الإنسان،الفنان من وراء الأضواء، يظل أسير الدائرة الحميمة، التي تتحدث بعاطفة أكثر مما تفكر.

صورة جماعية تجمع صالح الأبيض (الثالث يمينا) بكوكبة من نجوم المسرح الليبي والأصدقاء، بما يوثق أواصر الصداقة والعمل المشترك بين رواد الفن الكوميدي في ليبيا. وجوه أضاءت المسرح الليبي، وتركت بصمة لا تُمحى في ذاكرة الجمهور

تصبح الذاكرة هنا مرثية جميلة، لكنها أحيانا تغلق الأفق أمام قراءة نقدية أو تحليل فني أعمق. مع ملاحظة منصفة عن البلدان التي تفتقر للتوثيق المكتوب أو التوثيق المؤسسي، فهذه الشهادات كنز نادر، يحفظ تاريخا شفهيا مهددا بالضياع.

وهذه الشهادات -مهما بلغ صدقها- تضيء الداخل، لكنها تترك المحيط في العتمة، فيندر أن تتجاوز التجربة الشخصية إلى فهم المرحلة التي كونت هذا الفنان، أو البيئة التي صاغت حسه الكوميدي. لذلك يبقى الفيلم مؤثرا مع حاجة للمزيد مما يلمس القلب، ويشبع العقل كذلك.

ضحكة في مرآة التاريخ

هكذا يقدم فيلم “المشهد الأخير” أكثر من مجرد تكريم لفنان كبير، فهو وثيقة بصرية ونفسية عن مرحلة كاملة من تاريخ ليبيا، ونموذجا معبرا عن حياة الفنان الليبي، من ضغوط الأسرة التي منعت استمرارية عطائه وتجربته وخبرته، حتى وإن كانت الضحكة سلاحا للبقاء.

صالح الأبيض (يمين) في لحظة عمل مع أحد الفنانين. صورة تلتقط الجانب المهني من حياته، حيث النقاشات الفنية والتحضيرات التي تسبق صعود الخشبة، بعيدا عن الأضواء والجمهور

هذا الفيلم شهادة عن فنان عاش ليُضحك الآخرين، حتى نسي نفسه، فجسد مقولة الفنان وليد الكور عن “القائد الكوميدي”، الذي هو أقوى فنيا من الكوميدي العادي، حيث يصير الضحك من صنعته بوجهه وجسده وحركته لا من مجرد النص، ولهذا ترك الراحل خلفه إرثا من البهجة، حتى وإن ظلت تخفي وراءها حزنا نبيلا.

صورة مؤثرة توثق لحظة إنسانية من الفنان الليبي صالح الأبيض، أثناء رحلة علاجه بين القاهرة وتونس، حيث بدا محاطا بزملائه وأصدقائه، الذين جاؤوا يزرعون حوله دفء المودة، ويبادلونه حبا يليق بمكانته في قلوبهم. برغم ملامح الإرهاق، يظل في عينيه بريق الضحكة التي لم تخبُ، وابتسامة تختصر فلسفته في الحياة

إن هذا الفيلم لعمل يستحق المشاهدة، لا لمعرفة قصة صالح الأبيض فقط، بل لنفهم أن الفن يمكن أن يكون طوق نجاة في أصعب الأوقات.

رحل صالح مفتاح بوجرادة المعداني، ابن بنغازي الذي ولد عام 1964، بعد صراع مرير مع مرض الكبد في أكتوبر 2019، تاركا خلفه إرثا من البهجة. لم يكن مجرد ممثل كوميدي، بل روحا تسكن ذاكرة الليبيين، ومرآة لما عاشوه من وجع وأمل

في المشهد الأخير، تحتشد بنغازي -كما يقول أحد المشاركين- في وداعه، وذلك وداع رجل لا يترك جمهوره بضحكته فقط، بل بمرآة لليبيا التي لا تزال تبحث عن ابتسامتها.

صالح الأبيض.. المشهد الأخير – الجزيرة 360

بطاقة الفيلم

عنوان الفيلم: المشهد الأخير.

الشخصية: صالح الأبيض.

جهة الإنتاج: قناة الجزيرة الوثائقية.

المخرج: أمان الغربي.

منتج منفذ: محمد البرغثي.

تاريخ الإنتاج: 2021.

تاريخ البث: 17 أكتوبر 2025.


إعلان