فيلم “أشياء صغيرة كهذه”.. دراما موجعة عن مغاسل ماغدالين في إيرلندا بطولة “كيليان مورفي”

في أجواء رمادية باردة، يبدأ وينتهي فيلم “أشياء صغيرة كهذه” (Small Things Like These) لمخرجه البلجيكي “تيم ميلانتس”، ويعكس الطقس الكئيب الفكرة القاتمة التي تخيّم على بلدة نيو روس الأيرلندية الهادئة، في الأسابيع التي تسبق عيد الميلاد في تسعينيات القرن الماضي.

عُرض فيلم “أشياء صغيرة كهذه” أول مرة في مهرجان برلين السينمائي الدولي، يوم 15 فبراير/ شباط 2024، وهو مقتبس عن رواية بهذا الاسم، للكاتبة الأيرلندية “كلير كيغان”.
عندما يصبح الدير سجنا للعار
يكتشف تاجر الفحم “بيل فورلونغ” (الممثل كيليان مورفي) القسوة التي لحقت بإحدى الفتيات في أحد الأديرة المحلية، فبينما كان في صباح باكر يفرغ أكياس الفحم من شاحنته الصغيرة، ليضعها في المستودع، التقطت عيناه مشهدا صادما، حين رأى أما تجر ابنتها عنوة نحو بوابة الدير المجاور.

عندها أدرك أن المكان الذي يُفترض أن يكون ملاذا للسكينة والعبادة، ليس إلا فضاء مظلما يُسمى مغاسل المجدلية، تُودَع فيه الفتيات اللواتي حبلن من غير زواج، لقضاء أشهر الحمل بعيدا عن الأنظار، في محاولة “لغسل العار” بالاحتجاز والعمل القسري، وسط جو من القهر والعبودية.
ذاكرة الجرح الأول.. الطفل الذي نجا من العار
كانت هذه الحادثة الشرارة التي أوقظت في “بيل” ألما قديما من طفولته؛ فقد نشأ في كنف أم عازبة، وكان ثمرة علاقة غير شرعية، لكن أمه كانت محظوظة، فسلمت من ذلك المصير، ولم تُودع في تلك الأديرة.

تُظهر المشاهد الاسترجاعية أن ذاكرته لا تحتفظ بكثير من الصور الواضحة، بل بإيماءات صامتة وإشارات مبهمة، تحمل أثر جرح لم يندمل، ومع أن الفيلم يتلاعب على السطح ببنية الغموض، فإن المشاهد يستطيع أن يلمس بوضوح أثر تلك الندبة النفسية على شخصية “بيل”.
الفتاة الأسيرة.. عتمة الدير وسراديب الخوف
يتكرّر لقاء “بيل” بالفتاة التي أُدخلت عنوة إلى الدير أكثر من مرة، ففي المرة الأولى، تقوده خطواته إلى سراديب ذلك العالم السري الموحش، فيلمحها وسط العتمة، وتتوسّل إليه بأن يخرجها من ذلك المكان الذي يشبه السجن، ويأخذها إلى النهر أو إلى أي مكان آخر بعيد عن قبضتهن.

كان جسدها يرتعش وأفكارها مشوشة، وتبرق عيناها بذعر صامت يختصر كل العذاب. لكن خطوات إحدى الراهبات المهرولة تقطع هذا الاتصال القصير، فيُطلب من “بيل” بصفاقة أن يغادر المكان، وتقول له الراهبة ببرود:
“لا نسمح للناس بالدخول والخروج وقتما يشاؤون”
عند تلك العتبة يتضح أن ما يجري في الداخل خط أحمر لا يمكن المساس به، وأن حياة الفتيات في الدير سر يُعامل كأنه من أسرار الرب، ولم تكن القسوة في الكلمات، بل في الباب الذي يُصفق بعنف، وفي حركات الراهبات الآلية، وفي نظراتهن الجامدة التي تشي بسلطة لا ترحم.

يستعيد المشهد إرثا سينمائيا معروفا في الأفلام التي تناولت فضائح مغاسل المجدلية، ومنها فيلم “أخوات ماغدالين” (The Magdalene Sisters)، للمخرج “بيتر مولان” (2002)، لكن هذا العمل أكثر كتمانا وأقل مباشرة، فالمخرج يعتمد على الإيحاء لا المواجهة، وعلى ثقل الصمت بدل فضيحة القول.
بين دفء البيت وصقيع الضمير
يعود تاجر الفحم إلى بيته كما يفعل كل ليلة بعد عناء النهار، لكن هذه المرة محمّلا بما رآه، وحين يدخل مسكنه الصغير المتواضع، نرى فضاء منزليا دافئا، تملؤه الضحكات وضوضاء البنات ودفء الحياة اليومية.

وفي خضم هذا الجو العائلي الحميم، يتجه بثقل نحو المغسلة، فتلك عادة أصبحت جزءا من دأبه اليومي، فيغسل يديه من أثر الفحم، ويركز المخرج على طول فرك الصابون على الجلد المتسخ، في لقطة بصرية كثيفة بالرمز والمعنى.
إنهما يدان تعملان لتوفر لقمة العيش، لكنهما أيضا تحملان خطيئة الصمت، وكأن فركهما لا يُزيل سواد الفحم، بل يُخفي أثر الذنب.
يصبح هذا المشهد استعارة قوية لضمير يريد أن يتطهّر من رؤية أليمة، لكنه لا يجرؤ على الكلام، فإفشاء السر الذي تتكتّم عليه الكنيسة قد يعني له النبذ والتشرد، وربما حرمان بناته من التعليم، في مجتمع تتحكم فيه المؤسسة الدينية بكل مفاصل الحياة.

تحذّره صاحبة الحانة قائلة “إن أصابع الراهبات في كل فطيرة بالمدينة”، وتلك عبارة ساخرة تلخّص طبيعة سلطة الكنيسة الأخلاقية الكاسحة يومئذ، وتجعل الصراع بين الضمير والمصلحة محور الفيلم كله.
تواطؤ الجميع مع الجريمة
لا يتطرق الفيلم مباشرة إلى فظائع مغاسل المجدلية، التي ظلّت من أسرار الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا عقودا، بل يلمّح إليها من بعيد.
تذكر الإحصاءات أن أكثر من 30 ألف فتاة قد احتُجزن في تلك الأديرة بذريعة التوبة، وأُجبرن على أعمال شاقة امتدت سنوات، ولقيت بعضهن حتفهن، أو اختفين بلا أثر.
مع ذلك، لا يسعى المخرج “تيم ميلانتس” إلى تقديم وثيقة إدانة تاريخية، بل يذهب أعمق من ذلك، متأملا الذنب الجمعي، وارتباك الضمير الإنساني أمام الظلم. فهو لا يسأل فقط عن من ارتكب الجريمة، بل عن من صمت عنها أيضا.
كيف يتصرّف الإنسان حين يجد نفسه شاهدا على الجور؟ هل يختار الصمت اتقاء لغضب المجتمع، كما تفعل الزوجة التي تمثل صوت التواطؤ قائلة: دعنا لا نتعدى حدود الناس.
أم يبرر انسحابه كما تفعل صاحبة الحانة التي تختبئ خلف حكمة واقعية تقول فيها:
تجنب المشاكل لا يعني الضعف،
بل القدرة على العيش بسلام.
بهذه المفارقات يصنع الفيلم توتره الداخلي، في مواجهة بين الأخلاق الفردية والسلطة الجمعية.
وتبلغ القراءة الفلسفية مستوى عميقا، إذ يلامس المخرج “ميلانتس” الحدود بين الموقف الأخلاقي الكانطي (نسبة إلى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط) القائم على الواجب، والروح الموضوعية الهيغلية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني جورج هيغل)، التي تبرّر الخضوع للنظام الاجتماعي.
وبهذا الصراع، ينسج الفيلم شبكة من التناقضات الداخلية، والعُقد النفسية، وجروح الماضي التي لا تشفى.
ضباب إيرلندا.. وقيادة في العتمة
خلف زجاج شاحنته الصفراء الصغيرة، يخوض “بيل فيرلونغ “صراعا صامتا بين ضميره ومخاوفه، يقود في الضباب ويمشي في الضباب، حاملا أكياس الفحم، كمن يحمل أثقال العالم على كتفيه.

يُطيل الفيلم لحظات الصمت وكبح الانفعال حتى حافة الاختناق، وكأن المخرج يختبر حدود الاحتمال الإنساني أمام وطأة الذنب، وتقترب الكاميرا من وجه “بيل”، تتعقّب حركاته البطيئة وتفكك سكونه، لتقرأ ما لا يُقال، من وجع يطفو من تحت الجلد، وتردد يغلفه سؤال وجودي ثقيل.
هنا تصبح الإيماءة والنظرة لغة السرد الحقيقية، فالصورة تتكلم بدل الكلمات، والسكوت يصبح حوارا مع النفس. وفي هذا الفضاء الرمادي يبلغ أداء الممثل “كيليان مورفي” ذروته، فيجسّد الرجل المنكسر، الذي يواجه قسوة العالم وعجز الغفران، في تماهٍ نادر بين الجسد والمعنى.
الكاميرا التي تصغي.. ضوء يتلمّس وجوه الصمت
توسع الكاميرا إحساس الاختناق طوال زمن الفيلم، فتصبح الصورة مساحة للتأمل أكثر من السرد، ويمنح المخرج الضوء والظل أدوارا رمزية متقنة، فالضوء لا يكشف تماما، والظلمة لا تخفي كل شيء.
تتحرّك الكاميرا في المنازل والطرقات، كأنها تتنصّت على الأرواح لا على الأصوات، تقتبس من وجوه الشخصيات ضوءا خافتا يكفي لقراءة الوجع.

وفي هذا الجو البصري الملبّد بالضباب، تُطل المدينة بأزقتها المبتلّة، ونوافذها الشاحبة، التي لا تطل إلا على داخل “بيل” المكدود.
وفي حركة أبطأ، تُقرّب الكاميرا وجهه، حتى تلامس عبء ذاكرته وصدمة وعيه، وتسلّط الضوء على برود الأشياء المتعمد حوله؛ التلفاز، والغلاية، ومرجل العشاء، والمائدة التي تجلس إليها بناته المهذّبات.
كل شيء مرتب منضبط، كأنه يعيش تحت رقابة الكنيسة نفسها، وذلك مشهد يتجلى فيه تأثير المؤسسة الدينية على تفاصيل الحياة اليومية، حتى داخل البيوت.
أسلوب “ميلانتس” هنا يُذكّر بالسينما الأوروبية الكلاسيكية، التي تمزج بين الواقعية المظلمة والتصوير التأملي، فتُصبح الكاميرا عينا متأملة لا راصدة، تُصغي ولا تتكلم، تراقب ولا تحكم.
اللغة التي تُقال بالصمت
الاقتصاد في الحوار عنصر أساسي في بنية الفيلم، فالمعاني لا تُقال، بل تُستنتج من النظرات والإيماءات، فتبدو كل كلمة أثقل وزنا، وقد بنى المخرج إيقاعه السردي على الصمت البطيء والانكشاف المتدرج، تاركا للمشاهد فسحةَ التأويل.
وقد كان يسيرا أن يقع الفيلم في فخ الميلودراما، نظرا لطبيعة موضوعه الأخلاقي الحاد، لكنه حافظ على حس فني متماسك، ظل وفيا لروح رواية الكاتبة “كلير كيغان”، التي عُرفت بدقّتها واقتصاد لغتها.
وجوه الممثلين.. همس الصورة وبلاغة السكون
قدم الممثلون أداء متوازنا متقشفا، يناسب أجواء الفيلم الكئيبة، ويتحدثون بصوت خافت، وتبدو وجوههم كأنما هي جدران تُخفي ما لا يُقال.

تبرع الممثلة البريطانية “إميلي واتسون” في تجسيد شخصية الراهبة “ماري”، بحضور صلب يخفي هشاشة نفسية وتناقضا أخلاقيا واضحا، فتصبح ملامحها تجسيدا لهيمنة المؤسسة على الفرد، ولذلك الصراع الأبدي بين الإيمان والخطيئة، وبين الطاعة والرحمة.
حين ينتفض الضمير.. لحظة الخلاص الأخيرة
فجأة، وتحت وطأة صمت ثقيل، لا يُسمع فيه سوى أنفاس “بيل” عند حلاق يتهيأ لقصّ شعر زبون جديد، ينتفض الرجل الشارد بوخزة من ضميره، فيخلع رداء الحلاقة عن عنقه كمن يخلع خوفه القديم.

وبخطوات واسعة في ليل موحش، لا تكاد تضيئه مصابيح الشوارع الخافتة، يذرع المسافة نحو مرقد الفتاة المنهكة وسط أكياس الفحم، ثم يأخذها بين ذراعيه عبر الطريق المبتل على ضفاف النهر، نحو بيته الصغير المضيء، وسط بلدة غارقة في الصمت.
لكن هذا الفعل اليسير، الذي يبدو كأنه خلاص شخصي، يهدد في العمق بنية السكون الجماعي، ويقوّض النظام الأخلاقي الذي يحكم البلدة.

يتركنا الفيلم على حافة الرجفة بلا إجابة، كأنه يقول إن الخلاص الفردي لا يتحقق إلا بثمن جماعي، وإن الضمير حين ينتفض لا يحرر صاحبه فقط، بل يهزّ العالم من حوله.
وفي الختام، يهمس بسؤال في وجداننا: هل يكفي أن نرى المأساة ولا نتكلم؟ أم أن الصمت خطيئة؟
