الفيلم الخيالي “المخطط الفينيقي”.. يتناول الصراع في منطقة الشرق الأوسط

ملصق دعائي عملاق لفيلم "المخطط الفينيقي" على ناطحات سحاب هوليود. واللافت أن الفيلم يُختتم بإهداء إلى فؤاد ميخائيل معلوف. والاسم ليس تفصيلا عابرا، ففؤاد هو والد جومان زوجة "ويس أندرسون"، ووالدتها الكاتبة اللبنانية المعروفة حنان الشيخ. هذا الخيط العائلي يضيء ملامح العمل وعنوانه الذي يستدعي فينيقيا، بوصفها بلاد الشام القديمة، ويرسم مسارا بصريا وسرديا يتنقل بين بيروت والقاهرة. (صور غيتي)

من الصعب الحديث عن المخرج الأمريكي ويس أندرسون، من دون المرور على ما يمكن تسميته “الانضباط الأسلوبي”، وهو ذلك التوق الثابت نحو النظام البصري، والتماثل الهندسي، والدقة اللونية التي أصبحت مع الوقت هوية متفردة لأعماله.

في كل إطار يلتقطه “ويس أندرسون”، يبدو العالم كأنه مرسوم بمسطرة خفية، فكل خط له معنى، وكل تماثل هندسي هو طريق نحو الجمال المنضبط. لقطات من أعماله تختصر فلسفته البصرية: النظام بوصفه شعرا، والتماثل إحساسا بالطمأنينة وسط الفوضى.

غير أن هذا الانضباط الذي شكّل سر سحره، أصبح في الوقت نفسه مرآة لأسْر أسلوبي خانق، يدفع الناقد والمشاهد معا لطرح السؤال المتكرر: هل ما يزال “أندرسون” يجدد في عالمه البصري، أم أن أسلوبه بدأ يلتهم ذاته؟

منذ التسعينيات وحتى أحدث أفلامه، حافظ المخرج على علامات أسلوبية شبه مقدسة، هي التكوينات المتناظرة، وتوزيع الشخصيات الدقيق في الإطار، والألوان المشبعة التي تقترب من التجريد.

لقد حوّل “أندرسون” هذا التماثل من مجرد أسلوب تصويري إلى ركيزة لهويته السينمائية، وجعله لغة بصرية متكاملة، تقوم على الانضباط والتوازن والألوان المدروسة بدقة. فكل إطار عنده يشبه لوحة زيتية، لا مشهدا من فيلم.

ومع فيلمه الجديد “المخطط الفينيقي” (The Phoenician Scheme)، الذي شارك في المسابقة الرسمية بمهرجان كان 2025، بدا “أندرسون” أكثر تمسكا بهذه القواعد من أي وقت مضى، حتى وهو يغامر بموضوع يبدو مختلفا، ألا وهو الصراع على العدالة والمال والعائلة، في عالم يتلمس أثر الشرق الأوسط المعاصر بعدسة خيالية.

فريق فيلم “المخطط الفينيقي” قبل عرضه في الدورة الـ78 من مهرجان كان السينمائي: (من اليمين) ويس أندرسون، ومايكل سيرا، وميا ثريبليتون، وبنيسيو ديل تورو

العالم البصري عند ويس أندرسون

يُفتتح الفيلم على نحو مألوف لدى متابعي “أندرسون”: حركة دقيقة للكاميرا، وتناظر صارم في الإطار، وموسيقى مرحة تخفي وراءها قلقا عميقا. يظهر بطل الفيلم “زا زا كوردا” (الممثل بنيسيو ديل تورو)، وهو رجل أعمال جشع وذكي، نجا من سلسلة مكائد مالية، وتجاوز كل عقاب محتمل بقدرة لا تصدق.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

لكن “أندرسون” لا يقدمه شريرا مطلقا، بل صورة رمزية للرأسمالي الذي يسعى إلى تأسيس “مملكة فينيقيا”، ليمنحها لابنته “ليزل” (الممثلة ميا ثريبليتون)، الراهبة التي تعود إليه بعد قطيعة طويلة، لتشكّك في ماضيه ومصيره.

يبدأ الفيلم برجل الصناعة وتاجر السلاح زا زا كوردا (بنيسيو ديل تورو) وهو يحلّق بطائرته فوق سهول البلقان، حين تقطع الرحلة حادثةٌ غامضة. ومن تلك اللحظة، يجد “كوردا” نفسه في أزمة وجودية عميقة، يواجه فيها موته المحتمل، ويلجأ إلى ابنته الوحيدة، الراهبة المبتدئة “ليزل” (ميا ثريبليتون)، لتساعده على تنظيم شبكة أعماله المشبوهة الممتدة عبر القارات

من هنا يبدأ “أندرسون” في بناء نسيجه السردي المعتاد، وهو شبكة من القصص المتوازية، وشخصيات تتقاطع ثم تنفصل، ومحطات حكائية تتدرج في شكل لوحة فسيفسائية مبهرة.

لكنه في هذا الفيلم يمزج بين الأسطورة والواقع، بين الرغبة في الخلاص والوقوع في فخ الجشع، فيخلق عالما يبدو مأخوذا من حكايات الشرق القديمة، لكنه مغمور بألوان الحداثة الغربية.

زا زا كوردا.. الرأسمالية في قناع أسطوري

تبدو رحلة الأب والابنة في ظاهرها بحثا عن تمويل لمشروع ضخم، لكنها في العمق رحلة نحو معنى العائلة والذنب والخلاص، فنراهما يتنقّلان عبر لقاءات سريالية مع أمير يحلم بمملكة متخيلة، ومقاتل شيوعي متقاعد، وصاحب ملهى ليلي غريب الأطوار.

كل هذه الشخصيات “محطات رمزية” في مسار إنساني يشبه المتاهة، لكنها تكشف أيضا إصرار “أندرسون” على التعامل مع الشرق الأوسط فضاء أسطوريا أكثر منه واقعيا، حيث تختزل السياسة في الحكاية، والعنف في زخرفة اللون.

تؤدي “ميا ثريبليتون”، البالغة من العمر 24 عامًا دور ليزل، الراهبة المبتدئة ذات الشفاه الحمراء، والمدخنة للغليون، وهي ابنة الممثلة كيت وينسلت بطلة فيلم تيتانك

غير أن هذا الخيال المتقن يخفي وراءه مأزقا دراميا، فكلما ازداد الأسلوب دقة، انكمش الإحساس بالحياة. الشخصيات تتحرك بصرامة آلية، والمشاعر تُدار كأنها جزء من هندسة الصورة لا من عمقها.

رحلة في فضاء متخيل بلا زمان

ينطلق “المخطط الفينيقي” من فكرة التجريد لا من الإضافة، فهو يبتكر أرضا لا نعرف جغرافيتها، وزمنا يبدو خارج التاريخ، وشخصيات تتحرك بحرية مطلقة في فضاء يتجاوز الواقع.

تجعل هذه البنية الفيلم أشبه بمدينة طوباوية مشتهاة، لكنها أيضا تضعه في مفارقة صعبة، فيصبح غياب العلامات الواقعية سهلا في البداية، لكنه سرعان ما يصبح استسهالا دراميا، حين لا يعود المشاهد قادرا على التمييز بين الحقيقة والوهم، أو على الشعور بالخطر الإنساني، الذي يفترض أن يولّده الصراع.

يضم الفيلم نخبة من النجوم، من بنيسيو ديل تورو، وسكارليت جوهانسون، إلى توم هانكس، وميا ثريبليتون، وريتشارد أيوادي، وبيل موراي. إن اجتماع هذا الحشد من نجوم السينما في مشاهد قصيرة -كأنهم زاروا موقع التصوير يوما واحدا فقط- يظهر المكانة التي بلغها “أندرسون” بعد 31 عاما من مسيرته الإخراجية

يقدّم “أندرسون” رحلات متتالية لا تُفضي إلى غاية محددة، كأننا في متحف من القصص الصغيرة المفككة، كل منها يستعرض جمالياته، من دون أن يلتقي بالآخر.

نرى لقاءات متلاحقة على متن قطار، أو في قاعات راقصة، أو بين جدران قصور زاهية الألوان، لكن هذه الرحلات لا تخلق توترا سرديا حقيقيا، لأن كل العقد تُحلّ قبل أن تبدأ، كأن العالم الفيلمي مصنوع من رغوة، ينهار عند أول لمسة تحليلية.

تستند العلاقة بين الأب والابنة في الفيلم -محور القصة كلها- إلى ملاحظات “أندرسون” الحياتية لعلاقة فؤاد معلوف بابنته جومان، بل إن بعض التفاصيل الصغيرة في الفيلم مأخوذة حرفيا من حياة معلوف، مثل عادة الاحتفاظ بالمستندات في صناديق أحذية، التي تظهر في الفيلم مجازا بصريا عن الذاكرة والتنظيم والهوس بالسيطرة

يصبح الشرق في هذا الفضاء رمز زينة لا واقعا متشابكا، فالألوان الدافئة والعمارة المتخيلة والأزياء المستوحاة من التراث المتوسطي، إنما تُستخدم لإضفاء سحر بصري، لكنها لا تقدم قراءة فكرية لموقع الشرق في خريطة الفيلم.

فيصبح المكان مجرّد خلفية للزخرفة، لا فضاء للتجربة الإنسانية، ويغدو الشرق الأوسط أثاثا سرديا، يستدعى لتجميل الفكرة أكثر مما يُستدعى لفهمها.

الصورة حين تفقد روحها

يبلغ الفيلم ذروة جماله البصري، لكن هذا الجمال نفسه هو ما يكشف أزمته الأعمق. يُشبه “المخطط الفينيقي” دخول بيت من الدمى المزخرفة بعناية، تتلألأ فيه الألوان وتتماوج التفاصيل الدقيقة، لكن لا حياة تسري في تلك الدمى.

يحمل الفيلم كل نزوة وزخرفة اعتادها معجبو “أندرسون”، ويتذمر منها منتقدوه، فمن ذلك تصميم إنتاج بالغ الدقة، وطاقم حافل بالنجوم، يضم عددا من أسمائه المعتادة، مع اسمين جديدين، ولقطات متناظرة، وتنظيم يجعل الأثاث أشبه بخشبة مسرح

فكل لقطة مصمّمة بعناية تكاد تكون رقمية، وكل حركة كاميرا محسوبة بصرامة هندسية، تجعل المشهد أقرب إلى لوحة جامدة منه إلى مشهد حي.

أسلوب يكرر نفسه.. وفيلم بلا نبض

تبدو أزمة “المخطط الفينيقي” في نهاية المطاف امتدادا لأزمة أوسع في سينما “ويس أندرسون”، ألا وهي الوقوع في فخ النمط، فالأسلوب الذي بدأ في التسعينيات ثوريا ومختلفا، صار اليوم نظاما مغلقا يكرّر نفسه.

التماثل البصري صار واجبا لا خيارا، والأداء الكاريكاتوري صار تقليدا، والقصص المتشابكة فقدت مفاجأتها، كأن المخرج الذي كان يبتكر الجمال صار أسيرا له، يقدّم النسخة ذاتها بألوان جديدة فقط.

الأب “زا زا كوردا”، رجل الأعمال الثري الذي يشرع في تنفيذ مشروعٍ ضخمٍ مشبوه يعرف باسم “المخطط الفينيقي”. تنقلب حياة الأبنة الراهبة، حين يأمرها الدير بمرافقة والدها في رحلة طويلة، إذ يحاول أن يصنع منها وريثته، على طريقة دون كورليوني الكوميدية، لتأخذ مكانه في إدارة الإمبراطورية العائلية

في “المخطط الفينيقي”، يهيمن الشكل على المضمون، فيتراجع الإنسان إلى خلفية اللوحة، فالشخصيات تتحدث بنبرة واحدة، وتتحرك كأنها تروس في آلة بصرية ضخمة، والحوارات تبدو مصممة لتكمل الإيقاع البصري أكثر مما تكشف عن دوافع داخلية. حتى موت الأم يبقى معلقا، يطفو على السطح من حين لآخر ثم يختفي، من دون أن يترك أثرا شعوريا حقيقيا، وقد كان يُفترض أن يكون مركز التوتر في القصة.

إنّ هذه الحالة من الجمود الحيوي، تجعل الفيلم أقرب إلى محاكاة ذاتية لأفلام “أندرسون” السابقة، كأن المخرج يعيد تمثيل ذاته في دائرة مغلقة. ومن هنا يبدو “المخطط الفينيقي” فيلما جميلا ومبهرا، لكنه بلا نبض، مثل ساعة فاخرة تعمل بدقة تامة، لكنها نسيت أن تُخبرنا بالوقت.

تغادر “ليزل” الدير لترافق أباها في أسفاره. يعثر “كوردا” على فرصة جديدة، يسميها الفيلم “المخطط الفينيقي”، وهي خطة خيالية لاستثمار العمالة القسرية في دولة أسطورية تقع في المشرق (بلاد الشام)، يحكمها الأمير فاروق (رضا أحمد). تجمع الخطة بين الجشع الاقتصادي والمغامرة السياسية، لكنها تصبح رمزا للانحلال الأخلاقي، الذي يقوم عليه عالم “كوردا” التجاري الذي صنعه بيديه

حين تصبح الصورة نظاما صارما، يفقد الفيلم احتمال الخطأ، فيفقد إنسانيته، ذلك لأن السينما في جوهرها هي فنّ الارتباك، لا فنّ الإحكام وحده. ومشكلة “المخطط الفينيقي” أنه فيلم مصنوع بإتقان شديد، لكن من دون لحظة عفوية واحدة، فلا زلة، ولا نَفَس مفاجئ، ولا انفعال حقيقي يخرج عن النص.

وهذا ما يجعل المشاهد -مع انبهاره بكل لقطة- يشعر بالبعد العاطفي عن الشخصيات، فكل ما هو إنساني يُرقم في منظومة هندسية مغلقة، وكل ما هو فوضوي عفوي غير متوقّع يُهذَّب حتى الذوبان. إنها سينما تُبهرك بعقلها وتخذلك بقلبها.

الأسلوب حين يلتهم ذاته

في خاتمة الفيلم، نرى الأب والابنة يعبران فضاء فارغا، كأنهما يخرجان من قصة لم تُكتب بعد، وتبدو النهاية استعارة دقيقة لحال “ويس أندرسون” نفسه، فهو مخرج يسير في عالم من الجمال المرسوم، لكنه لا يعرف إلى أين يصل.

لقد بنى “أندرسون” أسلوبا بصريا لا نظير له في دقّته وأناقة تكويناته، لكنه الآن يواجه المأزق الأكبر، وهو أن هذا الأسلوب بدأ يلتهم المعنى الذي أنشأه.

ليس الفيلم سيئا بقدر ما هو متخم بالبراعة حتى الاختناق، فكل ما فيه جميل ومصقول، لكنه خالٍ من نبض الإنسان الذي كان يسكن أفلام “أندرسون” الأولى. إنها المفارقة التي تصيب الفنان حين يصبح أسلوبه أكثر حضورا من رؤيته، وحين تصبح بصمته قيدا يمنعه من المفاجأة.

المخرج “ويس اندرسون”، الذي لا يزال يحتفظ بملامحه الصبيانية وقد بلغ 56 عاما، صار مرادفا لأسلوب بصري متفرد يعد من الاكثر تميزا في السينما الحديثة. لقد أصبح اسمه علامة جمالية راسخة، تستهوي صناع المحتوى والنقاد على حد سواء، حتى غدا يقلد على منصات التواصل كما تقلد العلامات التجارية العالمية

ربما ما يحتاجه “ويس أندرسون” اليوم ليس خيالا جديدا ولا تقنية أخرى، بل إعادة اكتشاف الخطأ، ذلك الخطأ الذي يصنع صدق الفنّ وحرارته. فالفن العظيم لا يُقاس بمدى إتقانه، بل بقدر ما يجرؤ على الانفلات من نظامه.

وإذا كان “المخطط الفينيقي” يرسم خريطة جديدة للشرق الأوسط في خيال “أندرسون”، فإنه في الوقت ذاته يرسم خريطة لأزمته الفنية، فهو مخرج يملك كل شيء إلا الحرية، وصورة تملك كل الجمال إلا الروح.


إعلان