“ضي”.. كيف تنتهي الرحلة وهي ثابتة في مكانها؟

تؤثر حيثيات صناعة الفيلم السينمائي في تحديد جمهوره، والاتجاه الذي سيسلكه، ليحقق النجاح المطلوب. فثمة أفلام تفقد القدرة على الانتشار الجماهيري سريعا، بسبب انتقائيتها في العرض، وخصوصية لغتها السينمائية، واستهداف فئة محدودة من الجمهور.
وأفلام أخرى تتحرك تجاه تحقيق شعبية كبيرة، فلا قياس لها إلا شباك التذاكر، لكن هذا النوع من الأفلام يدخل إلى الأفكار من أيسر الأبواب، فيرتكز على مغازلة الجمهور بأفكار عابرة ومختزلة، وأي محاولة لاكتساب التفات مؤقت وسريع النسيان.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4فيلم “خط التماس”.. قصة دمية اكتوت بنيران الحرب الأهلية اللبنانية
- list 2 of 4فيلم “شرق 12”.. المستعمرة مرآة للواقع: حين يبتلع الخيال تفاصيل الحياة
- list 3 of 4وثائقي “الفردوس”.. رحلة رجل الجبال الذي عاش 50 عاما بعيدًا عن الكهرباء والمرافق
- list 4 of 4فيلم “الملعونون”.. خلل بشري يدير مشهد الحرب العبثية
يأتي الفيلم الذي يحاول الجمع بين الجمهور والجودة السينمائية، فهي التوليفة المرجوة دائما، وإن تحققت سدت فراغا إشكاليا بين بعدي الجودة والجماهيرية.
عندما يدخل الفيلم ضمن دائرة نقاش واسع، تتكون لديه أبعاد جديدة، بفعل انطلاق ما هو فني وجمالي إلى حيز مقروئية الجمهور العام، الذي يدفع الجماليات والشخصيات السينمائية إلى أدوات ترد إلى الواقع، فتشتبك معه، وتكون حكاية أكثر سعة ومرونة.
عُرض فيلم “ضي” في مهرجان البحر الأحمر ومهرجان برلين السينمائي، وهو من إخراج كريم الشناوي، وتأليف هيثم دبور، ويطمح إلى تكوين توليفة تنطلق من محاولة الانتقاء في الموضوع، لكنها تتشكل على نحو يستقطب الجمهور الواسع للسينما.
يتناول الفيلم رحلة ضي، وهو صبي نوبي مصاب بالألبينو، وهي حساسية مفرطة من التعرض للشمس، يسعى للتخلص من إطار حياته الضيق المحفوف بتنمر الأصدقاء وحرص الأم المبالغ فيه، إلى سعة العالم، ونعمة القبول والتعبير عن الذات.
لا يملك ضي إلا صوتا جميلا نادرا، ولذلك يُقبل في تجارب أداء برنامج غنائي للأطفال، وكانت أمه زينب ترفض في البداية. يصطحب ضي عائلته ومدرسته الودودة من الجنوب إلى القاهرة ليلحق بالبرنامج، فيخوض رحلة يلتقي فيها عدة شخصيات، يتبادلون التأثير معه، فيخلقون لطريقه معنى أكبر من مجرد النجاح في برنامج غنائي.
حكاية تبحث عن مَخرَج
يأتي المخرج كريم الشناوي من مساحة متعددة الحضور في السينما والدراما، ففي مسيرته خبرة في خلق مادة بصرية سلسلة وممتعة، لكنه في هذا الفيلم يجرب مسارا مغايرا عن كل أعماله السابقة.
إذ يقدم فيلما يمتلئ بعناصر كثيرة جديدة عليه، بداية من شخصية ضي (الممثل بدر محمد)، المحكومة بثنائية الحلم والواقع الاجتماعي، مرورا بحركية الفيلم من الجنوب إلى القاهرة، وانتهاء بخلق تنويعات قصصية، تحاول أن تتضافر لتكون وحدة حكائية لفيلم روائي طويل.
وخلال هذه المحطات لا يوسع الفيلم دائرة شخصياته، بل يتوقف عند الشخصيات الأربع الأساسية، تمثل لضي العائلة، وتعبر عن رحلتهم بصفتها رحلة فرد واحد، لأنها رحلة رغبة واحدة.

بدأ الفيلم بحكاية واضحة، تركز على اللحظة الراهنة، وتعطي بطل الفيلم الحق في الرغبة، فيصوره شخصية محملة بكثير من الأشياء المناسبة للحكي الاستعادي، بفعل واقعها المحدود بسبب بشرته، وكذلك حياته التي لا يستمدها إلا من أمه زينب (الممثلة إسلام مبارك)، بسبب غياب الأب.
ومع ذلك، يتمسك الفيلم بالبداية من حيز من الرغبة يتعلق بالتجاوز، والانطلاق نحو أفق أوسع، يعتمد على التجاوب مع الموهبة والتعبير بالذات عنها. وبهذه البداية، بدا يسيرا أن يحدد سيناريو الفيلم سياق حركته ونوعية حكيه مبكرا.
غياب عناصر أفلام الطريق
مع دخول الفيلم في إطار “أفلام الطريق”، سرعان ما يصبح عرضا نمطيا. كما تعوزه الحاجة إلى تعميق تناوله، ليتحقق أثر هذه الرحلة على الشخصيات.
ترتكز أفلام الطريق عادة على عدة عناصر أساسية، تبدأ من وجود دافع كافٍ لخوض الرحلة، وتمر على الأثر الذي تتركه الرحلة خارجيا على مصائر الشخصيات، وداخليا على ما يتغير فيها.
وخلال الحركة على الطريق، من الضروري أن يتكون ثقل يتراكم في بنية الفيلم، تغذيه تنويعة من التغيرات التي تثري الرحلة، فلا تتوقف عن دفع الفيلم إلى مساحات جديدة، بل تنتهي عند خلق شخصيات تختلف تماما عما بدأت عليه.

افتقد فيلم “ضي” إلى العناصر المؤسسة لفيلم الطريق، فلم يحتو إلا على نقطة الانطلاق المناسبة، ثم غابت هذه الرغبة في دائرة من الاستهلاك الحكائي، والتشوش بنقلات درامية حادة ومفاجئة، تظهر وتتلاشى بلا سياق، لتدفع الفيلم إلى الأمام، من دون أن تجتمع هذه النقلات في وحدة فيلمية.
يظهر ذلك في أحادية الحوار، التي انحصرت في مبالغات واضحة، بدلا عن الكلام العادي الذي يناسب عالم هذه الشخصيات.
حكاية على سطح الشخصيات
أثر الحوار المحدود بدرجة كبيرة في مدى تشرب الشخصيات عصارة رحلتها، أو التجاوب مع العلامات الفارقة فيها، وهي من يشكل الشخصية الجديدة، التي نراها في نهاية هذه النوعية من الأفلام “نواة التجربة”.
كما تحول كل مشهد إلى حركة مستقلة، يمكن أن تتعثر في جملة معبرة، لكنها ستظل حبيسة استقطاعها وافتقارها إلى الاندماج في جسد الفيلم ونسيجه الحكائي، الذي يضفي معنى أبعد للمشهد، بحيث لا يتوقف عند ذاته.
لذلك ظل الفيلم على سطح الشخصيات، ولم يكن لدى أي منها قدرة حقيقية على التطور، بل بدأت الشخصيات المحيطة بالبطل معرفة برغبته، وانتهت عند ذلك الحد.
وعند انحصار الشخصيات في صورتها الخارجية، يأخذ الفيلم منحى نمطيا، يتسم بالثبات على إعادة إنتاج المشاهد، بتطويلها في لحظات التأثر، وتسطيح طبيعة الخلاف الذي يحدث بين شخصيتي زينب وصابرين (الممثلة أسيل عمران)، فالشجار بينهما حوار متكرر.

حتى على مستوى التعاطي المبدئي مع الشخصيات من حيث أسماؤها، فقد حملت أخت ضي اسم ليل، ليكونا مثلا للنهار والليل. ومثل هذه الثنائيات والرمزيات الفقيرة والمباشرة، تدفع الفيلم إلى نوع آمن من الحكي، يصدر حكاية مفرغة لا تحمل أثرا ما بداخلها.
ظهرت تنويعة من الممثلين ضيوفا في الفيلم، منهم أحمد حلمي، ومحمد ممدوح، وصبري فواز، وعارفة عبد الرسول، وقد خلق ذلك حالة من الحيوية في الحكاية، فقد أثرت هذه الشخصيات تجربة البطل على نحو مميز، فكانت ممثلا لعنصر الصدفة الذي عادة ما يصطدم به أصحاب الرحلة في أفلام الطريق.
جاءت هذه الأداءات العابرة في إطار مواقف أخلاقية يسهل دمجها في النسيج الفيلمي، فضلا عما بثته في روح الفيلم من سخرية خفيفة ومميزة.
هل يمكننا الاكتفاء بإطارات جميلة؟
يشغل المكان قطبا من كل فيلم سينمائي على اختلاف نوعه، لأنه يؤسس لنوعية الفيلم، ويحدد المعطيات الأساسية لواقعه وحدوده، لكن في أفلام الطريق يأخذ المكان منحى أكثر أهمية، وهو أن يكون بمنزلة شخصية إضافية.
مثلما تتحرك الشخصيات جغرافيا، وتصطدم بخبرات جديدة، يتحرك المكان أيضا في موازاة هذه الشخصيات، فيصوغ بُعدها الجمالي من جهة، ومن جهة أخرى يصوغ تعريفا متجددا لها، فتغيرها مع تغير المكان لا يفرض تحدّيا جديدا فحسب، بل يفرض بداية جديدة.

تظهر من التنوع المكاني في فيلم “ضي” حالة من التضاد، فنتحرك في المكان من خصوصية الجنوب وحياته الطبيعية، حتى نبلغ القاهرة، وهي المدينة المركزية بامتياز وشراسة.
فرض هذا التنوع حضورا ضروريا ومتجددا للمكان، لم يعكسه الفيلم، لأنه اعتمد على جماليات التكوين السينمائي المنفردة، ومع أنها شكلت هوية بصرية ملفتة للفيلم، فإنها لم تصل إلى تضمين المكان داخل الحكاية، بل بدا بعيدا دائما منحصرا في مدى هدوئه ووداعة طبيعته، لكنه ظل على مساحة من الشخصيات، وكأنها لا تمر خلاله فتتشكل من جديد.
كان المونتاج متعثرا في الإيقاع، بالاعتماد على قطعات سريعة وتداخل بصري، بدا أحيانا في محله، وأحيانا أخرى أعيد إنتاجه على نحو مستهلك، يمط مدى المشهد الزمني. لذلك تشكلت من الفيلم عدة وحدات مشهدية متنوعة، نجد فيها صورا مدهشة، لكنها تقرأ منفردة بلا سياق، لأنها لا تندمج ضمن موضوع.
لماذا يصعب علينا التحدث بأصوات مجهولين؟
عندما ننظر إلى رحلة البطل في الفيلم، نجد أنها خارجيا مرت بعثرات، ثم تحولت إلى صالحه، كي يعبر عن نفسه في النهاية. تأتي أوقات غنائه في هذا السياق صوتا لاكتساب هوية، لا سيما حينما تتعلق بمراهق لا يملك إلا الغناء.
لكن عند التعرض لأساس شخصيات الفيلم، نجد أنها جميعا مستندة على أساس الوصم أو التمييز بنسب مختلفة، فتتأثر حياة البطل بسبب هيئته، أما أمه فقد رحل عنها زوجها منذ سنين كثيرة، ثم نرى أن مدرسته مسيحية.

تجتمع هذه الشخصيات في مشترك أسس لها نمط داخل الفيلم، فهي لا ترى ضمن أقلية ما، لنفهم علاقتها بمحيطها الاجتماعي، ونتناول تجربتها في إطار الاستيعاب والفهم، بقدر ما تتوقف عند كونها عرضة لتمييز، ولذلك تنتج هوية الشخصيات في الفيلم بعدا واحدا لوجودها.
يتجلى الصوت المجهل اجتماعيا في الفيلم داخل إطار حركة محدود، فلا تعكس الشاشة خصوصية المكان وأثره المتبادل مع الشخصيات، التي نراها على أثر ذلك من سطحها فقط، بوصفها نماذج متحركة تحمل تتابعا من الأفكار المباشرة، لذلك تتبلور حكاية الفيلم بظاهر ملفت، لكنه يفتقد إلى الأثر الحقيقي، الذي ينتج تفاعلا واستيعابا للرحلة.
