مهرجان الجونة السينمائي الدولي الـ8.. تراكم خبرات مثمر والفيلم الوثائقي ما زال متميزا

أكثر ما يلفت في مراجعة أعمال الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي الدولي، هو الاستفادة من تراكم خبرات السنوات السبع التي سبقتها، فقد بدا ذلك جليا في توقفه ومعالجته لمسألة ضعف الحضور الجماهيري، لكونه ينعقد في مدينة صغيرة سياحية، الأمر الذي حسبه بعض الناس غير قابل للمعالجة، لكن اللافت في دورة هذا العام هو نجاحها في استقطاب جمهور أكبر بكثير من جمهور الدورات السابقة.

وعلى نفس المستوى تشكل الشراكة القائمة بين المهرجان وسينما “زاوية” في القاهرة مناسبة نادرة لجمهور العاصمة المصرية، لمشاهدة أفلام مهمة مختارة بعناية من بين الأفلام المعروضة في الجونة، وبذلك تتوسع فائدة استقطاب المهرجان لتحف سينمائية، لا يمكن مشاهدة كثير منها في الصالات المصرية.
حضور فلسطيني مهم
على المستوى الفلسطيني، ينظم المهرجان منذ 3 سنين برنامج “نافذة على فلسطين”، المتضمن في هذه الدورة 7 أفلام وثائقية قصيرة، تعرض ضمن مبادرة “من المسافة صفر وأقرب”، وهي تهتم بالمواهب الفلسطينية، التي تنقل من داخل غزة ما يجري فيها من انتهاكات وجرائم. تحكي هذه الأفلام بصدق مشاعر أهل غزة، وإصرارهم على مواصلة الحياة، برغم الموت والخراب.
اقرأ أيضا
list of 4 items- list 1 of 4مهرجان برلين السينمائي الـ75.. تغييرات غير جذرية في فعالية عريقة
- list 2 of 4مهرجان سالونيك للفيلم الوثائقي الـ27.. دورة غارقة في السياسة والبيئة والحروب
- list 3 of 4مهرجان كان 2025.. تتويج فلسطيني وتألق عربي وإيراني في قلب السينما العالمية
- list 4 of 4مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الدولي الـ59.. قصص إنسانية ملهمة وحكايات من الشرق
استمرار البرنامج مفيد للسينما الفلسطينية، ويبقي نافذة مفتوحة لعرض نتاجات مبدعيها السينمائيين في كل مكان.
وفي جانب اهتمام المهرجان بعرض أفلام من فلسطين وعنها، تأتي برمجة فيلم “ضع روحك على يدك وامشِ” للمخرجة الإيرانية “زبيده فارسي” ضمن مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة.
ينقل الفيلم مكالمات هاتفية مصورة، جرت في المرحلة الأولى من حرب غزة، بين المخرجة وبين المصورة الشابة الفلسطينية فاطمة حسونة، وكانت توثق بها بصدق تفاصيل الحياة في القطاع، وما يصيب أهله من موت ودمار.

كانت حصيلة المحادثات والتسجيلات والصور التي تلتقطها فاطمة (24 سنة) فيلما وثائقيا موجعا صادقا، يركن جماليات الاشتغال السينمائي جانبا، ويأخذ بدلا منها مجبرا خامات بصرية مصورة بعدسة هاتف، توثق خرابا وموتا لا يتوقفان لحظة واحدة، فمنها تأتي الأحزان إلى الوثائقي، وتتسرب إلى مُشاهده كلما طال حديث صانعته مع فاطمة، وكلما مر زمن القتل أكثر.
الوثائقي.. تميّز الجونة الأهم
تستوجب قراءة هذه الدورة التأكيد على شدة عناية المهرجان بالفيلم الوثائقي، وربما يشكل ذلك العلامة المميزة له، ويؤشر إلى حرصه على تطويرها، والمختار من أفلام الدورة يؤكدها.
ففوز الوثائقي المصري “الحياة بعد سهام” لنمير عبد المسيح بجائزتي “نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي وثائقي” و”نجمة الجونة الفضية لأفضل فيلم وثائقي”، كان فوزا مستحقا، لجودة اشتغالاته الجمالية، وبحثه في العلاقة الخاصة بين المخرج وأمه سهام، بأسلوب سينمائي يميل إلى التأمل في عمق العلاقات الشخصية والإنسانية، وكيف يمكن للسينما نقلها بمحمولاتها النفسية والاجتماعية.

يقارب فيلم نمير في إيقاعه وبحثه في سنوات طفولته الفيلم الصيني “دائما” للمخرج “ديمينغ تشين”، الفائز بجائزة “الجونة الذهبية لأفضل فيلم وثائقي طويل”، الناقل بشاعرية مرهفةٍ علاقةَ بطله في صباه بالطبيعة وبأهله، عبر قصائد كتبها بنفسه، وأصبحت على يد مخرج ماهر صورة سينمائية مبهرة نابضة بالحياة.
في السياق نفسه، تجدر الإشادة بفيلم “أورويل: 2+2=5” للمخرج الهايتي “راؤول بِك”، وهو يؤسس مساره الحكائي على رواية “1984”، التي كتبها الكاتب الإنجليزي “جورج أورويل”، وفضح فيها الأنظمة الشمولية الاستبدادية.
لا يتوقف فيلمه عندها، بل يوسع دائرة مضامينها بإعادة تشكيل صورة تاريخية عميقة عن الاستبداد الرأسمالي، وباشتغال جمالي مذهل يبذل صانعه جهدا كبيرا في جمع كل ما يوثقه، ويصنع منه تحفة بصرية.
“شاعر” لا خلاف عليه
غالبا ما يرافق جوائز الأفلام الروائية الطويلة في المهرجانات السينمائية جدل وخلاف، نابعان من اختلاف تقييم المتلقي وقناعة أعضاء لجان تحكيمها.
ربما يستثنى من ذلك في دورة هذا العام التوافق الكبير بين الطرفين على منح الفيلم الكولومبي “شاعر” (Un Poeta) للمخرج “سيمون ميسا سوتو” جائزة (نجمة الجونة لأفضل فيلم روائي طويل).
يرتقي الفيلم إلى مستوى أفضل الأفلام السينمائية المنتجة هذا العام، بفضل كتابته وجودة أداء بطله (الممثل أوبيمار ريوس)، الذي ينقل جانبا من حياة شاعر كولومبي، يعاني من مشكلة الإدمان الكحولي، لكن له روحا نبيلة تصطدم بأنانية سائدة في مجتمعه، يعاندها بالمضي في قناعاته وحبه مساعدة الموهوبين من شعراء وطنه.

يعيدنا هذا الفيلم للتفكير بقدرة سينمات أخرى -غير أوروبية ولا هوليودية- على تقديم سينما خاصة، تنطلق من محليتها إلى العالمية، باشتغالات جمالية عالية المستوى.
أما جوائز “نجمة الجونة لأفضل ممثل وممثلة” فتقاسمها الممثل المصري أحمد مالك عن دوره في فيلم “كولونيا” والبلجيكية “ليا دروكير” عن دورها في “من أجل آدم” (L’intérêt d’Adam).
الفيلمان متوسطا المستوى، والأداء التمثيلي ليس الأفضل على الاطلاق، مقارنة بأدوار أخرى رائعة، في فيلم “شاعر”، وفيلم “أب، أم، أخت، أخ” (Father Mother Sister Brother) للمخرج “جيم غارموش”.
ويمكن تثبيت تلك الملاحظة على فوز فيلمين عربيين، هما الفيلم التونسي “وين ياخذنا الريح” للتونسية آمال القلاتي، الفائز بجائزة “نجمة الجونة لأفضل فيلم عربي”، والفيلم المصري “المستعمرة” لمحمد رشاد، الفائز بجائزة “نجمة الجونة البرونزية”.
لا بد هنا من الإشارة إلى حقيقة أن مستوى الأفلام العربية المختارة في المسابقات الرسمية للمهرجانات العربية، يتوقف على مستوى الأفلام الجديدة المنتجة خلال هذا العام، التي يشتد التنافس بين المهرجانات العربية لنيل الأفضل بينها.
زيارة “باب الحديد”
جاء الاحتفاء بمئوية يوسف شاهين عبر برنامج جيد، لعل أبرز علاماته “معرض باب الحديد”، المستوحى من فيلمه الرائع، الذي أخرجه ومثل فيه دورا متميزا، ويُشعر تصميمُ العربة الداخلَ إليها أنه ينتقل بالزمن إلى الوراء، في لحظة تصويرها.

في داخل العربة، يستعاد منجز يوسف شاهين الغني، بمقاطع مختارة من أفلامه، بأسلوب مبتكر يُشعر القادم إليه أنه يقابله وجها لوجه.
من “العارض” للأفلام إلى “المرشد” للشباب
يطمح مهرجان الجونة أن يتجاوز دوره عارضا لأهم الأفلام المشاركة في مهرجانات عالمية، إلى دور مرشد للطاقات الشبابية الجديد.
فبرنامجه “لقاء مع خبير” يعكس ذلك التوجه بمبادرة “سيني جونة”، التي تنظم لقاءات بين خبراء سينمائيين ومختصين، وبين مواهب شابة جديدة طامعة في معرفة تجارب سينمائية غنية، تعينهم على معرفة عالم السينما الواسع والإحاطة بجوانبه المتعددة.

ربما في هذا السياق تأتي أيضا مبادرة “ما وراء الكاميرا” للسنة الثانية، وتهدف إلى تسليط الضوء على المبدعين، الذين أثّروا في صناعة السينما والأفلام بخبراتهم في مجالات متعددة، منها المونتاج، وتصميم الأزياء، والتصوير السينمائي، والموسيقى، والتأثيث، وغيرها من جوانب أساسية في الصنعة السينمائية.
منحت هذه السنة لمدير التصوير طارق التلمساني تقديرا لإسهاماته الكثيرة في السينما العربية والمصرية، تأكيدا على تقديرها لجهود إبداعية، لا يمكن صنع أي فيلم سينمائي من دونها، إلى تشجيعها للمواهب الجديدة على التخصص في تلك الجوانب الفنية، التي قلما يلتفت إليها السينمائيون الشباب في مقتبل حياتهم الفنية.
التأسيس وديمومة الاستمرار
كل ذلك يجري في إطار رؤية تنشد اتخاذ المهرجان مؤسسة سينمائية، لها كيانها الاعتباري، مؤسسة قادرة على المضي، تستفيد من تجاربها ومن خبرات مؤسسها.
وفي هذا الإطار يأتي تكريم مدير المهرجان الفني سابقا انتشال التميمي، الذي ترك مهمته لأسباب صحية معروفة، لكن دوره لم ينته عند هذا الحد، فما أسسه يمكن البناء عليه، وهذا ما بدا جليا في لحظات التكريم المؤثرة.
