قراءة نقدية لفيلم الخيال السياسي “بيت الديناميت”: إدريس إلبا رئيسا للولايات المتحدة بين وهم السيطرة وعبء القرار

بعد 8 سنوات من الصمت السينمائي، تعود المخرجة “كاثرين بيغلو” بفيلم “بيت من ديناميت” (A House of Dynamite)، لتقدم عملا يضع الزمن في قلب السرد، لا مجرد إطار للحكاية، بل خصما عنيدا ومنهجا لتشريح هشاشة المنظومة الأمنية والسياسية، في مواجهة تهديد نووي وشيك.
عُرض الفيلم عرضه الأول في مهرجان البندقية السينمائي الدولي، بدورته الـ82 المنعقدة في سبتمبر/ أيلول 2025 بمدينة البندقية الإيطالية، ورُشح لجائزة الأسد الذهبي، وأُطلق عالميا على منصة “نتفليكس” في 24 أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، وهو من بطولة “إدريس ألبا”، و”ريبيكا فيرغسون”، و”غابرييل باسو”، و”تريسي لتس”، و”جاريد هاريس”، و”موسز إنغرام”، و”كايل آلن”.

يقدم الفيلم حبكة خفيفة في ظاهرها؛ فيدور حول صاروخ مجهول المصدر يتجه نحو شيكاغو، ومنظومة الدفاع تعجز عن اعتراضه، لكن أثر الفيلم الحقيقي لا يكمن في مفاجآت الحبكة، بل في الطريقة التي يُروى بها الحدث، فتتكرر 18 دقيقة منه 3 مرات مع اختلاف الزاوية، لتختبر أعصاب الجمهور، بكشف قدرة المؤسسات على اتخاذ القرار تحت ضغط لا يرحم.

الجمود الإداري والضعف الإنساني
منذ البداية، يتضح أن “بيت من ديناميت” ليس فيلما عن أبطال فرديين أو صراعات شخصية بين الخير والشر، بل يكمن جوهره في تداخل الجمود الإداري مع الضعف الإنساني، فتصبح الاجتماعات والشاشات والممرات الإدارية مسرحا داخليا لوجوه متوترة، تحاول فهم ما يحدث.

هذا التركيز على المكان والقواعد، يميز الفيلم عن أفلام الكوارث المعتادة، التي تعتمد على الفوضى الخارجية والصور الاستعراضية.
تمثل عودة المخرجة “كاثرين بيغلو” امتدادا منطقيا لتجربتها في أفلام منها “خزانة الألم” (The Hurt Locker) الذي عُرض عام 2009، وتقترب من المؤسسة العسكرية، لكنها ترفض الاحتفال البطولي الساذج.
أما فيلمها الحديث “بيت من ديناميت”، فهو أكثر صرامة في بنائه وتشددا في نظرته إلى الزمن، بصفته أداة درامية.
البنية السردية: التكرار أداةً للكشف
يعتمد الفيلم بناء زمنيا متكررا، يقسم القصة إلى 3 فصول، كل فصل يعيد تلك المدة الزمنية من لحظة رصد الصاروخ، وليس التكرار استعراضا شكليا، بل اختيار بنيوي ينقل التركيز من “ماذا سيحدث؟” إلى “كيف نفهم ما يحدث؟”.

- الفصل الأول: غرفة العمليات في البيت الأبيض، وهنا تتشابك الأوامر العسكرية مع الحسابات السياسية.
- الفصل الثاني: القيادة الإستراتيجية، وهنا تتكدس البيانات، وتضيق نافذة القرار.
- الفصل الثالث: منظور الرئيس، وهنا تتواجه المسؤولية التاريخية مع نقص المعلومات.

يكشف ذلك التكرار 3 مستويات من الانهيار:
- انقطاع الاتصالات: يصبح العطب التقني استعارة للعطب البشري، فلا يسمع أحد أحدا حين يصبح الزمن أقصر من القدرة على الإصغاء.
- الخلافات في التقييم: يُقرأ المشهد في كل مرة بعيون مغايرة، فينتج عنه تردد نابع من تضارب تعريف المشكلة قبل تضارب حلولها.
- الانهيار الإنساني: يتسرب تدريجيا من ملامح الوجوه ونبرة الأصوات، ثم يصبح الصمت حاملا للذعر.
الصنعة السينمائية
تشتغل المخرجة “كاثرين بيغلو” بمزيج من الاقتصاد والصرامة في أدواتها السينمائية، أما الكاميرا فقريبة من الوجوه، لالتقاط التغيرات الدقيقة، وبعيدة لتذكيرنا بأن الشخصيات عالقة في هندسة مكانية أكبر منها.
وأما المونتاج فيشبه نبض القلب، فلا يستعرض القطع السريع، ولا يترك المشاهد يسترخي، بل يخلق شعورا بأن الدقيقة أقصر من أن تحتوي كل ما يراد فعله فيها. وأما الموسيقى التصويرية فتشد الحبل النفسي في الخلفية، تاركة للتوتر الداخلي أن يؤدي دوره.

وأما تأثيث المشهد فالشاشات المتعددة تشارك الممثلين البطولة، والألوان الباردة في قاعات القيادة تقابلها إضاءة أكثر دفئا في المشاهد القليلة خارج غرف القرار. ثم يقف الأداء التمثيلي أداة لإظهار تناقض الإنسان، حين يقف بين منظومة صارمة ونفس بشرية مرتابة.
يجسد “إدريس ألبا” رئيسا يعرف كيف يبدو واثقا وهو ليس كذلك، محاصرا بمعلومات غير مكتملة ووهم السيطرة، وأما “ريبيكا فيرغسون” فتمنح شخصية الضابطة بعدا إنسانيا لا ينال من احترافيتها.
وأما “غابرييل باسو” فيفاجئنا في دور المستشار الشاب بطاقة عصبية محكومة، تكشف ثقل القرار على موظف لا يملك رفاهية الخطأ، وأما “تريسي لتس” فيجسد جنرالا يقف على الحد الفاصل بين الحدة والانفعال.

مع ذلك، لا يترك البناء المتكرر مساحة واسعة لنمو الشخصيات، وهو خيار فني محسوب يخدم فكرة الفيلم الأساسية، لكنه أثار انتقادات أيضا.
النهاية المعلقة
تبلغ المقامرة أقصاها في النهاية المعلقة، فلا حسم نهائي ولا مشهد كارثي، بل يتركنا السرد على أعتاب القرار، ويرى أنصار ذلك أنه بيان فني وفلسفي، لا يريد بيع وهم الخلاص، ويرى منتقدوه أنه تهرب من ذروة درامية مطلوبة، لكنهم يعترفون بأنه ينسجم مع منطق الفيلم، الذي يشرّح ولا يحسم، يقلق ولا يسكّن.

السياق السياسي والصناعي
أثار الفيلم جدلا سياسيا وإعلاميا حول دقة تصوير منظومة الدفاع الصاروخي، واستطاع نقل النقاش من قاعة العرض إلى المجال العام. وعلى المستوى الصناعي، يمثل رهانا محسوبا لمنصة البث التي أنتجته، لترسيخ صورتها منتجة لأفلام مرموقة وجريئة. كما أن مذاكرات داخلية بوزارة الدفاع الأمريكية أحدثت جدلا إضافيا حول الفيلم، أسهم في التعريف وتداوله بالتأكيد، بحسب وكالة أنباء “بلومبيرغ”.
نقاط القوة والضعف
بحسب النقاد ومواقع المراجعات السينمائية، فإن من نقاط قوة الفيلم خطابه البصري المتماسك، فالتكرار ليس زينة بل أداة تشريح. ومن نقاط ضعفه المحتملة أنه يطالب المشاهد بصبر نقدي، قد لا يتوفر دائما، كما أن تضييقه مساحات التعاطف الفردي قد يحرم بعض المتلقين من منفذ إنساني.

ما هو السؤال الصحيح؟
“بيت من ديناميت” فيلم لا يريد الإجابة بقدر ما يريد طرح السؤال الذي يراه صحيحا: ماذا تفعل بمنظومة تتداعى حين يضيق الوقت؟
ينجح الفيلم في تحويل الدقيقة إلى بطل درامي، وقاعة الاجتماعات إلى مرآة للوعي الجمعي وهو يكتشف حدوده، وفي عالم يبدو كبيت مليء بالديناميت، يذكرنا هذا العمل أن الفتيل ليس خارجنا دائما، بل قد يكون في داخل مؤسساتنا، وفي داخلنا نحن.
ماذا عن “نتفليكس”؟
انطلق الفيلم انطلاقة قوية من حيث المشاهدة، فقد تصدّر قوائم منصّة “نتفليكس” في عدّة دول بأيامه الأولى، مما يُمثّل دفعة تسويقية مهمّة لها، بصفتها منصة تنتج وتوزّع أعمالا سينمائية كبرى.
كما أن التعاون مع مخرِجة مميزة مثل “كاثرين بيغلو” -التي توجت بجوائز كبرى- يمنح “نتفلكس” مصداقية إنتاجية في أفلام تُحاول الجمع بين الترفيه والرسالة السياسية الإنسانية.
أما من الناحية التسويقية، فقد طرح الفيلم فكرة “ما يحدث خلف الكواليس”، وصور خطرا نوويا “واقعا” أولا بأول، فخلق نقاشا ومشاركة اجتماعية، وهو أمر مطلوب في عصر البث الرقمي بالذات.
السينما بين حد الكشف وحدود التوظيف
تؤكد هذا الفيلم أن السينما ليست ترفا جماليا، بل أداة سياسية حية قادرة على مساءلة الأنظمة، وزحزحة سرديات القوة، وكشف ثغراتها حين تضيق المسافة بين الصورة والقرار.

لكنها في اللحظة نفسها عرضة للتوظيف والتكييف، بوصفها بنية رمزية عالية التأثير، يمكن أن تستوعبها المنظومة لتلميع صورتها، أو لتمرير رؤيتها الأمنية والأخلاقية، كما يمكن أن تستولي عليها جماعات أصغر، تكون جماعات ضغط فنية تدافع عن أهداف أفراد أو مؤسسات.
لذلك تصبح مشاغبة السينما للأجهزة الرسمية رهانا مزدوجا، يربح حين يحافظ العمل على استقلال خياله النقدي، ويخسر حين يصبح ملصقا دعائيا، مهما بدا أنيقا.
والسؤال المفتوح دائما: كيف نحمي هذه المساحة الحرة، لتظل قادرة على إزعاج السلطة، وتحرير المتلقي من كسل السرد الواحد، لا على إعادة تدويره بوجوه جديدة؟
