وثائقي “لن أنساك”.. محمد رضا كزناي يعيد أثر التجريدة المغربية في حرب أكتوبر 1973

فليعلم الجميع أنني أؤمن أن المغرب مشرق، وأن المشرق مغرب، ولن يفترقا.
نحن إخوة، أبناء أب واحد، ولكن ربما من أمّهات عديدة مختلفة. لسنا توائم. نحن إخوة.
(من محمد عابد الجابري إلى حسن حنفي، حوار المشرق والمغرب، 1990)
حين نُشر كتاب “حوار المشرق والمغرب” عام 1990، كان أكثر من مجرد مراسلات نخبوية بين مفكرين عربيين، وسواء اختلفنا مع كليهما أو اتفقنا، فقد شكّلت مراسلاتهما محاولة جريئة لإمعان النظر في علاقة المشرق بالمغرب، خارج القوالب الجغرافية والفكرية التي صنعها التاريخ الاستعماري.
فبينما دعا المغربي محمد عابد الجابري إلى عقلنة الفكر العربي، انطلاقا من نقد التراث، وبناء حداثة عربية مستقلة، رأى المصري حسن حنفي أن تجديد الوعي لا يكون إلا بالعودة إلى التراث وتأويله من الداخل. بين هذين الأفقين.

يضع الحوار سؤال الوحدة والاختلاف في قلب المشروع النهضوي العربي: كيف نكون “نحن” من غير أن نذوب في الآخر، ومن غير أن نفقد بوصلتنا بالجذر؟
لكن ما الجذر؟ وكيف تنكشف مفارقة الوحدة والاختلاف أمام كيان صهيوني قصم ظهر الأمّة؟ هل تستطيع السينما أن تعيد تشكيل ما بقي من الشظايا؟ وما الذي قد نسترده مما تلاشى؟

بعد حرب أكتوبر 1973 بأكثر من خمسة عقود، يأتي فيلم “لن أنساك” (2024)، وهو وثائقي طويل للمخرج المغربي محمد رضا كزناي، ليطرح استفسارات عدة، وذلك من خلال بحثه في أثر الجنود المغاربة الذين قاتلوا على الجبهة السورية حينذاك.

يفتح المخرج جرحا رمزيا قديما بين مشرق العرفان ومغرب البرهان، فما بين الفكر والصورة وارتداد الصدى، يتجدد السؤال: هل يمكن للإيماءة الجمالية أن تكون جسرا هناك حيث أخفقت السياسات؟
اعتمادا على تسجيل صوتي تركه جدّه الذي شارك في حرب 1973، يتعقب المخرج خيطا عائليا حميميا، ليعيد نسجه من سردية وطنية وقومية منسية على تخوم الذاكرة المحفوظة.
من خلال المذياع رمزا للحضور، ومشاهد التحريك استعارةً للخيال والحنين، يقدّم الفيلم تأملا بصريا وحكائيا في الحنين والهوية، فيصبح الوثائقي أداة مقاومة للنسيان، وجسرا يصل بين الأجيال. فهل يمكن للسينما أن تسترد ما محقه الدهر؟ وكم شريطا صوتيا يكفينا لنعيد بناء حضور غاب؟

استنطاق العلامات الصّامتة
في أزمنة تُختزل فيها الحقائق التاريخية في مكتبات بكماء، وملفات رقمية مُكدّسة في أقبية الدول والجامعات، أو على مواقع البيانات الضّخمة، يأتي فيلم “لن أنساك” لمحمد رضا كزناي، الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، ونال جائزة التحكيم في المهرجان الوطني للفيلم بطنجة 2025، ليجعل الأثر العائلي رحلة شعرية جمعية، تستعيد ذكريات جنود مغاربة، وتعيد طرح سؤال التواتر الوجودي والتاريخي: كيف نرث الحروب التي لم نعشها؟ وبأي شكل؟

دريدا وبقايا الحضور: عندما يصير الشريط الصوتي أثرا
لا يسعى المخرج إلى استعادة ما كان، بل إلى مساءلة ما بقي، أي إلى اتخاذ الغياب نفسه شكلا من أشكال الحضور. فالفيلم تجسيد -من حيث ما يُظهِر ولا يقول- لما تحدّث عنه الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”، حين وصف الأثر بأنه “ما بقي من حضور غائب، أثر الحذف الذي ينجو من الفناء”.

هنا، لا يكون الشريط الصوتي الذي تركه الجد مجرد مادة توثيقية، بل هو “بقايا الأثر”، أي ما يظل حيا بعد أن تُمحى آثاره. وبهذا المعنى، يعيد الفيلم تعريف التوثيق خارج وصفه بأنه خزان للذاكرة، فيجعله حيزا للمحو أيضا، كأن كل استعادة هي نسيان مضاعف، وكل صورة هي أثر لشيء لم يعد موجودا.
فالمخرج لا يستخرج الماضي بقدر ما يستنطقه، ويمنحه إمكانية الحديث بما لم يعد قابلا للقول.
يكتب المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي، كأنّه يردّ على سجال الجابري وحنفي الذي أسلفناه: لقد نسينا ألفباء الموجود والوجود، الهوية والاختلاف. ونتابع ثرثرة بلا حياء، حول استعادة الهوية، وحول الولادة العربية الثانية. ولادة ثانية لأيّ شيء؟ الولادة الجديدة في الفكر هي المصير المأثور للأشباح، للموتى الذين يكلموننا.
نحن تراثيون بنسيان التراث، مذهبيون بنسيان فكر الكائن، وتقنيون بالعبودية. من دجّننا هكذا حتى يصبح مثل هذا النسيان شأنا يتكرر جيلا بعد جيل؟
ما يقف عليه فيلم “لن أنساك” هو هذه المفارقة بالذات، فما حدث من قبل قد حدث وولى، أما ما يحدث الآن، فهو ما نشاهده هنا الآن داخل الإطار، من خلال أحداث الفيلم.
ولعل في حديث الخطيبي عن الموتى الذين يُكلّموننا، ما نجد صداه مباشرا في إحدى تصريحات مخرج الفيلم محمد رضا كزناي:
إن الاستماع إلى تسجيل جدي دفعني للتساؤل عن مصير أولئك الرجال، الذين غادروا وطنهم للدفاع عن قضية عربية، وكيف عاشوا تلك التجربة.
على هذا النحو تلقى المخرج صوت جده، المتشظي بين الأمازيغية الريفية والعربية الفصحى والفرنسية، وضاع داخله في حالة تكاد تكون صوفية في تيهها الوجداني والجمالي.
السينما باعتبارها عودة طيفيّة للشهود
لقد شكلت مشاركة التجريدة المغربية في حرب 1973 أحد الفصول التي لم تتناولتها السينما العربية، في شقيها الروائي والوثائقي معا، فمع أن هذه المشاركة في التاريخ المغربي والعربي مهمة، فإنّها قد بقيت مُهملة على هامش السرد الرسمي، لا ترد إلا في التقارير العسكرية أو المذكرات الخاصة.

من هنا، يستعيد فيلم “لن أنساك” هذه الذاكرة المنسية من زاوية مركّبة، تطرح ترابية مفترضة بين المشرق والمغرب من جهة، وتداخل الذاتي بالموضوعي من جهة أخرى، وتتلخّص ظاهريا في رحلة مخرج شاب يتخذ صوت جده مدخلا لاستقراء الذاكرة الجماعية، في محاولة شكلية لسبر أغوار معاني التضحية والانتماء.
جاب كزناي المغرب من شماله إلى جنوبه، من جبال شفشاون إلى سهول مكناس، وحتى فيافي طانطان في الصحراء، حاملا ألبوم صور الجد والشريط الصوتي، باحثا عمّن بقي من جنود رافقوا جده.

يقول أحد الناجين متحدثا عن ضياعه جريحا في الخلاء السوري: كنت أمشي ليلا، وبالنهار أختبئ في الغار. كنت خائفا من الطائرات. في إحدى المرات، دخلت غارا بالنهار، وخطر لي أن أقتل نفسي، فحملت المسدس ووضعته في فمي. لم أكن أعرف أين أتجه.

يتذكر الشاهد إقلاعه عن الانتحار عندما عادت إليه صورة أمه، ثم يجهش بالبكاء. ولعلّها واحدة من أقوى اللحظات التي يستردّها الفيلم.
ثم يلحقها مقتطف من تسجيل الجد، والشاهد ينصت تحت شجرة، يتوجه فيه إلى أمه هو، أمّه العزيزة المسكينة التي عانت من أجله، ولا يعلم هل سيلقاها من جديد.
حين أصبحت أغنية الدكالي سلاحا دعائيا على الجبهة
عبر مشهد تحريك، يعيد الفيلم تشكيل لحظة حصار التجريدة المغربية في الجبهة، حين لجأ جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى بثّ أغنية “أجي نتسالموا، يمكن نتفاهمو” للمطرب المغربي عبد الوهاب الدكالي، لحث المغاربة على تسليم السلاح.
لكن الجنود تفرّقوا بين جبل الشيخ وبيت جن ودمشق، وحتّى الحدود اللبنانية، وبقي مصير الجد معلّقا. أمات بقصف صاروخ لدبّابته كما ظن صديقه محمد سمر؟
هكذا تتبع الكاميرا خطوات المخرج في بحثه عن مصير جده، ويتناوب الصوت والصمت -مع مشاهد التحريك- على تشكيل مستوى ثان وثالث للحكاية. فهو لا يبحث عن البطولة، بل عن الأثر، ولا يستقصي المعركة، بقدر ما يغوص في الأصداء التي بقيت بعد أن خمدت نيرانها.
من الأثر الفردي إلى الذاكرة الجمعيّة
هنا تكتسب قراءة الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا” بعدا خاصا، فـ”السينما هي المحاكاة المطلقة للبقاء المطلق”، لأنها تُظهر ما لا ينبغي أن يترك أثرا، وفي فيلم “لن أنساك”، يجعل كزناي الصورة فعل عودة طيفية، ومقبرة حيّة لما كان يجب أن يظل غائبا.

إن صوت الجد العائد من جهاز تسجيل قديم، وصورة الحفيد الذي يستمع إليه، يصنعان معا هذا الاقتصاد الطيفي للرّاحلين، حيث يمتزج الموت بالحياة، والحاضر بالماضي، في زمنٍ مُنكسر ومرتجف ومنقوص. بهذا، يصير الفيلم أثرا مزدوجا: أثر شهادة لم تُقَل كاملة، وأثر نسيان يعيد نفسه عبر الصورة، كأن السينما في حد ذاتها تجربة للنجاة.
إيقاع البطء وكيمياء الاعتراف: أثر بلعباس وخصوصية كزناي
يبرز في أسلوب المخرج محمد رضا كزناي حس تأملي نزق وشاعرية هادئة، وفيه شيء من حيلة وثائقية، قد نتلمّس بعض ملامحها في تجربة حكيم بلعباس، لا سيما في فيلمه الأول “عش في القيض” (1996).
فكما في سينما بلعباس، يقوم الإحساس بالزمن في “لن أنساك” على البطء المقصود، وعلى تكثيف التفاصيل اليومية، وعلى إحراج ناعم للشهود، لانتزاع القول الضائع.

كلاهما يتخذ الصورة فضاء للحنين الطفولي لا وثيقة تأريخية، ويتخذ الإنسان ذاكرة حيّة لا شاهدا صامتا. بهذا المعنى، يمكن قراءة فيلم “لن أنساك” أيضا بأنه امتداد لجيل من السينمائيين المغاربة، الذين اتخذوا الوثائقي أداة للبحث في الذات والمشترك في الآن نفسه، من غير أن يوغلوا في التجريب.
لكن فيلم “لن أنساك” يتجاوز فعل الحفر في الحنين، فيفتح سؤالا دقيقا حول معنى الأثر ذاته، فحين يصغي كزناي إلى صوت جدّه، فإنّه يتواجه مع “القطع مع الذات شرطا للتجربة”، ويضع فعله الإبداعي عند تلك المسافة، التي تفصل الكائن عن نفسه، وتمنعه من إعادة تملّك ما هو له.

فالصوت هنا ليس ملكا لأحد، بل ما بقي من حياة لم يعد ممكنا استعادتها، لكنه أيضا ما يؤسّس العلاقة بين الأجيال (الجد والجدة، الابن والحفيد). يقول الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”: ما هو مطلق الخصوصية فينا، توقيعنا، هو ما لا يمكننا أن نعيد تملّكه.
وفي هذا المعنى، يصبح صوت الجدّ وتعليق الجدّة عليه -كما يعالجه المخرج- توقيعا يتجاوز الذاتي، أي أثرا لا يُرد إلى صاحبه، بل يُعاش من خلال غيره؛ في دموع رفاقه الجنود، وفي صمت الجدة جميلة عن الإفصاح عن أسرار العائلة، جالسة قرب عين الماء، وعبر الهشاشة والدهشة على وجه الطفل الذي يحارب ظلال طائرة على حائط غرفته.
إن السينما هنا تجربة قطع مع الذاكرة، لا محاولة لإعادة تملّكها، تماما مثلما يرى “دريدا” في فعل الختان استعارة لشرط إنساني كوني، أن نكون منقوصين دائما، نحمل أثر ما فُقد ولا نستطيع استعادته.
لذلك، لا يقدّم المخرج كزناي فيلما عن الحضور، بقدر ما يقترح صورة غياب تحمل أثرا لشخص لم يعد، وكل لقطة هي محاولة للإنصات إلى ما لم يقله الجد في تسجيله.

كذلك يشكّل فيلمه خطوة نحو ما نسمّيه هنا سينما الذاكرة المنقوصة، تلك التي تدرك أن الأثر لا يُستعاد، بل يُعاد التفكير فيه. إنه فيلم يوثق ويختبر في ذات الآن الإنسان في علاقته بما بقي منه.
وبهذا الوعي بالانفصال، يصبح الفيلم مساحة لتفكيك ما يربط محمد رضا المخرج بجده علال الجندي، وما يصل الماضي بالحاضر، بين الفردي والجماعي.
فيلم للنجاة لا للاستعادة
إنه فيلم عن التوقيع الإنساني الضائع، عن التاريخ الذي لا يعود إلا مبتورا، وعن الذكريات العزيزة التي لم تبتلعها الأشباح، كوشم غائر بين جلودنا وبين أجداث أولئك الذين غابوا عنا، عند أطلال البيت رقم 31 في تلك القرية الجبلية القصية.
