“قرن وستة أعوام”.. فيلم يسترجع وعد “هتلر” بتحرير فلسطين

بعد انطلاق طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، اتُهم كثير من الداعمين للقضية الفلسطينية والمتضامنين مع سكان غزة خاصة بـ”معاداة السامية”، وهي تهمة جاهزة لم تقتصر على المشاهير ونجوم السينما وكرة القدم، بل شملت كل من يعبر عن تضامنه مع الفلسطينيين، ويدعو لوقف الإبادة الجماعية، ويدين الأساليب الوحشية للاحتلال، ويرفض تهجير الغزيين من أرضهم، وذلك حلم يراود الصهاينة منذ سنين.
حتى أن بعض الدول الداعمة للكيان الصهيوني بلغ بها الأمر ملاحقة منتقدي الكيان قضائيا، وشن حرب إعلامية وإلكترونية عليهم.
واجهت المغنية البريطانية “شارلوت تشيرش” هجوما حادا، واتهمها الإعلام الغربي والعبري بالتحريض على الكراهية، بعد غنائها “من النهر إلى البحر، فلسطين ستحرر”، كما أُلغي سفر الكاتب الأردني أيمن العتوم إلى السويد، ومُنع كتابه من معرض الكتاب العربي في ستوكهولم، وواجه اتهامات بمعاداة السامية، أما اللاعب الجزائري يوسف عطال، فقد واجهته المحكمة الجنائية في نيس بتهمة الدفاع عن الإرهاب، وذلك بعد نشر فيديو يدعم فيه الفلسطينيين.
وفي حفل توزيع جوائز الأوسكار، ثار غضب الاحتلال الإسرائيلي على بعض نجوم هوليود، لوضعهم دبوسا أحمر ورفعهم رسالة إلى الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، يدعونه فيها لوقف إطلاق النار في غزة، فهم وداعموهم يرون هذه الأفعال معاداة للسامية، وتحريضا على الكراهية، وتمييزا عنصريا.
لم يكن يتوقع المخرج المصري محمد ناصف أن فيلمه الحديث “قرن وستة أعوام” (2023) سيجلب له ولفريقه تهمة معاداة السامية، أو أن يشن الإعلام العبري حملة عليه بناء على المقطع الدعائي وملصق الفيلم، الذي يعادي فكرة الصهيونية لا اليهود، حسب ما أورده المخرج في تصريحات صحفية سابقة.
يقوم العمل على تصور خيالي، مبني ومؤسس على حدث تاريخي أثار الرأي العام الدولي في أربعينيات القرن الماضي، عندما اجتمع مفتي القدس الحاج محمد أمين الحسيني مع زعيم النازية “أدولف هتلر”، في النصف الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني 1941.
حفظ القيم الوطنية.. مبادئ عابرة من الأجداد إلى الأحفاد
تحمل بداية الفيلم دلالات وإسقاطات، تتعلق بالعمر والثمن والقيمة لكرسي يجلس عليه الشيخ حارث، حفيد الحاج محمد أمين الحسيني، ويُطلب منه النهوض لتجربه إحدى الزبونات، وبعد إتمام البيع يجتمع الأحفاد على طاولة المفاوضات، في بيت مليء بالمقتنيات القديمة، لدارسة إمكانية الوفاء بالوعد الذي أخلفه الأجداد.
موضوع قديم ومتجدد قد تختلف أهميته عند الألمان، ولكن قضية فلسطين تظل واحدة لا تتغير مهما تبدلت الأجيال، ففكر الحفيد لا يحتمل قناعات أو مطالب غير التي نادى بها جده الحسيني ذات يوم، ولا تحركها مصالح ولا تغيرها أطماع.
يصور المشهد قدرة الأجيال الجديدة على حفظ القيم الوطنية والمبادئ، في ظل التحولات العميقة التي يعيشها العالم الغارق في الماديات.

تستقطع الحقيقة التاريخية ذلك الخيال الذي تبناه المخرج، وتصور أن لقاء الأحفاد سيحقق المطلوب من ألمانيا تجاه فلسطين، فقد أظهرت وثيقة أصدرتها الحكومة البريطانية سنة 1917، تعلن فيها عن دعمها لإقامة وطن قومي لليهود بأرض فلسطين.
أفرز ذلك موجات غضب وثورات في الداخل الفلسطيني، لكنها لم تُمكّن الفلسطينيين من استرجاع أرضهم، بل إن المساعي التي دعمتها بريطانيا أفرغت مدنا وقرى كثيرة من أصحابها، ومنحتها للمستوطنين، ولا يزال حلم التوسعة والاستيلاء على كل الأراضي قائما إلى يومنا هذا.
“أمتأكد أنك حفيد هتلر؟”
يعزز المخرج تصوره بلقاء الأحفاد، في محاولة لتحيين الوعد وتجديده، وبالعودة إلى الأرشيف الذي يظهر فيه الاجتماع التاريخي والحقيقي بين الحاج الحسيني و”أدولف هتلر”، الذي رحب بفكرة مفتي القدس، ولكن الوعد لم يدوّن في خطاب رسمي يومئذ.
يبرز المخرج محمد ناصف تباينا واضحا بين وجهات نظر شتى الأجيال حول القضية الفلسطينية، فنرى تمسك الحفيد الشيخ حارث بمطلب الاعتراف بفلسطين دولة مستقلة، بعد مرور أكثر من 80 عاما على اللقاء التاريخي بين الحسيني و”هتلر”.

أما الحفيد الألماني فيعارض فكرة حارث، ويرى أن كلام “هتلر” لم يكن جديا، وأنه ربما كان يهذي بأفكار فارغة، فيتصاعد التوتر بين الحفيدين، وعندها يرد الشيخ حارث بسؤال محرج، وهو يحسن التفاوض، ويعي جيدا تركيبة الطرف الآخر، فيقول: أمتأكد أنت أنك حفيد هتلر؟ لأنني أظن أنه لم يكن لديه أطفال!
يشكل هذا المشهد نقطة تحول في الحوار والمفاوضات، وجدير بالذكر أن المخرج لم يعط اسما لحفيد “هتلر”، وقد أدى دوره الممثل الكندي “بيير لوك براسارد”، وهو يعيش في مصر منذ 20 سنة، وقد اشتغل صحفيا في الضفة الغربية 4 سنوات، بين 1998-2002.
أطماع تفسد مفاوضات الجيل الثالث
تتبدل الأجيال وتتحول معها المصالح والطموحات، فعدوّ ألمانيا النازية بالأمس قد يصبح صديقها اليوم، وتتحول بريطانيا أو أي دولة أخرى من عدو إلى حليف، والمصلحة -مع اختلاف جوهرها- هي التي تحدد الالتزام بالعهد أو الإخلال بالوعد، الذي لا يزال الجانب الفلسطيني يحافظ عليه ويسعى لتحقيقه، وإن لم يوفق في ذلك، فيكفيه شرف المحاولة، وكله إيمان بأن الجيل الذي سيأتي بعده سيستكمل المسعى، حتى تنتصر فلسطين لشعبها وقضيتها.
أما حفيد “هتلر” فيتعامل مع الأمر كأنه صفقة تجارية، يقبل عليها بمقابل خيالي، فاعترافه مدة عام بأن فلسطين دولة عربية مستقلة يتطلب منحه 3% من حصة العرب في النفط، والتزاما بنشر الخبر في وسائل الإعلام.

هذا التعهد المصرح به شفويا، جاء مغايرا في الواقع وعلى الورق، فقد وصف حفيد “هتلر” الشيخ حارث بالإرهابي الذي لا يُنصح بالتفاوض معه، واتهمه الشيخ حارث بأنه محتال يسعى للاستيلاء على بترول العرب لاحتكار سوق النفط في ألمانيا.
وهكذا سقطت المفاوضات مرة أخرى بين الجيل الثالث، أما الوعد الذي سعى إليه الحاج أمين الحسيني السياسي والمناضل، فقد يتحقق يوما على يد جيل لم يولد بعد، يخدم القضية الفلسطينية بلا تنازلات.
محمد ناصف.. مقاربة ذكية تربط الحاضر بأطياف التاريخ
قدم المخرج محمد ناصف مقاربة تربط بين الأمس واليوم ربطا كبيرا، فقد تابعنا ما مارست الشعوب من ضغوط كبيرة على حكومات بلدانها بعد طوفان الأقصى، مما أدى إلى تغيير مواقفها تجاه القضية الفلسطينية، فتحولت من دعم حل الدولتين إلى الاعتراف بدولة فلسطين.
وبينما تتجه دول نحو الاعتراف، تتمسك أخرى بمواقفها، وفي نهاية المطاف، تحدد المصالح طبيعة هذه المواقف، وبدلا من الانحياز للحق والإنسانية، تفضل بعض الدول ضمان مصالحها وما يترتب عليها من أطماع.
تزامن عرض الفيلم، وتوزيعه في المهرجانات الدولية مع طوفان الأقصى، فركّز عليه الإعلام العبري تركيزا أكبر، وشن حملة على صناعه، ولكن فكرة الفيلم وتصويره كانا قبل الحرب، وتحديدا في شهر أبريل/ نيسان 2023.
بحلول سنة 2023، يكون قد مر قرن وستة أعوام على “وعد بلفور” المشؤوم، الذي مهد لكل النكبات التي تعيشها الأجيال في فلسطين، وقد قُدمت عروض عدة للفيلم في مهرجانات داخل مصر وخارجها، منها أيام القيروان السينمائي، ومهرجان القاهرة للسينما الفرنكفونية.
كما توج بعدد من الجوائز، منها:
- جائزة لجنة التحكيم في مهرجان الشرقية الدولي الثاني بسلطنة عمان.
- جائزة أفضل ممثل في نفس المهرجان.
- جائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان نواكشوط السينمائي الدولي.
- الجائزة الثانية لأفضل فيلم متكامل في مهرجان ليبيا السينمائي الدولي.
أطفال الحجارة.. فتية الانتفاضة الذين أطلقوا طوفان الأقصى
يحيلنا مشهد أطفال الحجارة في فيلم “قرن وستة أعوام” إلى ربط الماضي بالحاضر، وربما يكون السؤال الأبرز الذي يطرح هنا هو: هل صنّاع طوفان الأقصى اليوم هم أطفال الحجارة بالأمس؟ أطفال الانتفاضة الذين تغنى بهم الشاعر السوري نزار قباني أيام الانتفاضة الفلسطينية الأولى سنة 1987، فقال:
بهروا الدنيا وما في يدهم إلا الحجارة
وأضاؤوا كالقناديل وجاؤوا كالبشارة
قاوموا وانفجروا واستشهدوا وبقينا دببا قطبية
وقال فيهم:
يا تلاميذ غزة علّمونا .. بعض ما عندكم، فنحن نسينا
علمونا بأن نكون رجالا .. فلدينا الرجال صاروا عجينا
علمونا كيف الحجارة تغدو .. بين أيدي الأطفال ماسا ثمينا
وقال فيهم:
يرمي حجرا أو حجرين
يقطع أفعى إسرائيل إلى نصفين
يمضغ لحم الدبابات ويأتينا من غير يدين
في لحظات تظهر أرض فوق الغيم
ويولد وطن في العينين
يتمثل أطفال الحجارة في شخصية محمد، الذي تمتلئ محفظته بالحجارة لا بالكتب والأدوات المدرسية، ويمكن ربط الفكرة بعبارة قالها الشيخ حارث حفيد الحاج الحسيني وهو يخاطب حفيد “هتلر”: أصبح الفلسطينيون يولدون مهيئين لمقاومة الغزاة والمحتلين، والإسرائيليون جينيا دائما مستعدون لاحتلال أي أرض، والعالم يستمتع بمشاهدة هذه المباراة.
فالدفاع عن الأرض والتمسك بها والتضحية لأجلها قضية تلزم كل الفلسطينيين، فقد وُلدوا أحرارا، ولا يمكن أن تبرمج عقولهم على بدائل أخرى، ما دامت المقاومة شرفا والشهادة انتصارا.
ثم إن الأرض إرث عظيم لديهم، لا يدركه إلا من يمتلكه، ومستوى متقدم من القناعة، يستوعبه جيدا أطفال الحجارة الذين يواجهون العدو نفسه، فقد أرعبوه أمس بالحجارة، واليوم يواجهونه بصواريخ محلية الصنع، ومعدات تصيب العدو من المسافة الصفر.
الحاج الحسيني.. رجل أتعب الانجليز وأرهق الصهاينة من بعده
وُلد الحاج محمد أمين بن طاهر بن مصطفى الحسيني بالقدس سنة 1897، ودفن في بيروت في 1974، وعُيّن مفتيا أعلى للقدس سنة 1921، وكان صوت فلسطين المسموع في أكثر من مكان ومقام، كما كان سياسيا ومناضلا يدافع عن فلسطين والأمة العربية، التي يخضع جزء منها لانتداب وآخر لاستعمار، فكان يتفاوض نيابة عنهم مع كبار السياسيين، لنيل استقلالهم وحريتهم.
فقد نذر الحاج أمين حياته لفلسطين، وقضاها مدافعا عن قضية أصحاب الأرض التي اغتصبت بغير حق، لكن رحلاته وتحركاته بين الدول للتعريف بالقضية، وتعبئته للشعب ودعمه للثورة، أصبحت تزعج بريطانيا، فباتت تساومه وتحاول إغراءه بالمال، ولكنه واصل العمل على مشروعه وأفكاره المناهضة لإنشاء وطن قومي لليهود، وتوسعة نفوذ بريطانيا ومطامعه ببلده.

لم يجد الإنجليز طريقة لصده وكسر عزيمته ونضاله بعد أول ثورة فلسطينية في أبريل/ نيسان 1920، وما خلفته من اشتباكات، فأصدرت قرارا باعتقال الحاج الحسيني ورفقائه، لكنه فر إلى الأردن، وبعد هدوء الوضع وعفو الإنجليز عنه عاد إلى فلسطين.
وبعد عودته، عمل على التصدي لمحاولات بيع الأراضي لليهود، وأقنع أصحابها ببيعها للمجلس الإسلامي الأعلى، بصفته رئيسه وجعلها وقفا، كما أصدر فتوى بعدم الصلاة على من يبيع أرضه للخارجين عن الإسلام، وأن لا يدفن في مقابر المسلمين.
أمرت السلطات البريطانية بعدها بحل المجلس الإسلامي الأعلى، وإيقاف الحاج الحسيني، فقرر الهروب نحو لبنان بدل الوقوع في سجون الإنجليز، ومن هناك استكمل توجيه الفلسطينيين وتأطيرهم، وبدأ في حشد الدعم الخارجي لفلسطين.
فتحالف مع “بينيتو موسوليني” في روما و”أدولف هتلر” في برلين لمواجهة بريطانيا، التي أعطت ما لا تملك لمن لا يستحقون ولا يملكون شيئا، وسعت لإنشاء وطن قومي لليهود بالأراضي الفلسطينية، ورعت كل المبادرات الداعمة للمشروع.
سقوط برلين.. نتائج الحرب تسقط الوعود
أضحت بريطانيا عدوا مشتركا لدى “هتلر” والحسيني، وكان أهم ما اتفقا عليه في لقائهما الذي استمر أكثر من ساعة، هو منع بريطانيا من تنفيذ الفكرة وإقامة المشروع، وكذلك إعلان استقلال فلسطين والأقطار العربية. وقد طلب الحاج الحسيني أن يكتب زعيم النازية وعده هذا في خطاب رسمي، ولكن “هتلر” كان يرى بأن الخطوة مبكرة جدا.
ترى مراجع تاريخية أن ما حال دون ذلك هو ترقب “هتلر” للنتائج التي ستسفر عنها المعارك الدائرة، ثم هزيمة الألمان فيما بعد، وسقوط برلين في الحرب العالمية الثانية، في حين تفيد مصادر أخرى أن الحاج الحسيني انتزع بعد سنة من اللقاء اعترافا من “موسوليني” و”هتلر” بدعم القضايا العربية العادلة، وجاء ذلك في خطاب رسمي.
لا يزال لقاء الحاج الحسيني التاريخي مع “هتلر” يثير جدلا بعد كل هذا الوقت، فقد اتهم رئيس وزراء الكيان الصهيوني “بنيامين نتنياهو” منذ سنوات الحاج الحسيني بأنه يقف وراء إبادة اليهود، وأن “هتلر” لم يكن يريد إبادتهم بل طردهم فقط، وأن الحاج أمين الحسيني قال لـ”هتلر”: لو طردتهم فسيأتون جميعا إلى فلسطين.
فسأله: ماذا أفعل بهم؟
فقال: أحرقهم.
وتلك ادعاءات شكك في صحتها المؤرخون، بل كذبوها جملة وتفصيلا، ورأوها تحريضا علنيا ومباشرا ضد الفلسطينيين،ثم تراجع “نتنياهو” عن هذه التصريحات، بعدما وجدها كثيرون تبرئة لـ”هتلر” من المحرقة اليهودية، التي فكر فيها ونفذها قبل اللقاء الذي جمعه بالمفتي الأعلى للقدس.
كيان يحارب الحقيقة ويخشى الصورة
سعت عدة قنوات إعلامية ومنصات وأفلام عربية وأجنبية لدعم قضية أصحاب الأرض والدفاع عن حقهم في القدس وكل شبر من فلسطين، وإسقاط السردية التي يحاول الاحتلال الصهيوني تسويقها بشتى الطرق والأساليب.
ولهذا السبب، نجد اليوم أن الاحتلال يحارب الصورة الإعلامية والسينمائية التي تعمل ضمن هذا المسعى، ويسعى لتشويه الحقيقة، وتضليل الرأي العام الدولي، لا سيما في مواقع التواصل الاجتماعي.
وقد كشفت حرب الإبادة التي بدأت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول عنصرية المحتل، ووثقت جرائمه في القطاع بالصورة، وأكبر دليل على أن المحتل يخشى الصورة هو عدد الإعلاميين الذين استُهدفوا واستهدفت مقراتهم وعائلاتهم، مع كل النداءات والمساعي التي رافعت لأجل حمايتهم.

وقد أفاد تقرير حديث صادر عن منتدى الإعلاميين الفلسطينيين باستشهاد أكثر من 200 صحفي منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023.
وقالت نقابة الصحفيين الفلسطينيين إن جيش الاحتلال بنهاية عام 2024 يكون قد اغتال في عام واحد -أي منذ بداية حرب الإبادة الجماعية- أكثر من ضعف عدد الصحفيين الذين يُقتلون سنويا في العالم، ومسلسل الاغتيالات شاهدته البشرية بالصوت والصورة وشهدت عليه.
“كوستا غافراس”.. مخرج أنفق ماله على نضاله السينمائي
ليس فيلم “قرن وستة أعوام” أول عمل، ولن يكون آخر فيلم يثير الجدل ويُتهم أصحابه بمعاداة السامية، وما شابه ذلك من اتهامات، وقد دافع بعض المخرجين عن القضايا الإنسانية بكل ما أوتوا من نفوذ وقوة، متحملين ضغوطات المنتجين، منفقين من حر أموالهم على أفلامهم التي تمثل قناعاتهم، ثم واجهتهم عقبة أخرى، إما بسحب أعمالهم من الصالات، أو تراجع المهرجانات عن قبول عرضها.
فقد اضطر المخرج الفرنسي ذو الأصول اليونانية “كوستا غافراس” للدعاية لفيلمه “حنا ك” (Hanna K) على نفقته، بعدما تسابقت بعض الجهات لمنعه، ووقف عرضه والتشويش عليه، بسبب الطرح الذي قدمه، وفاجأ به العالم في الثمانينيات.

ويدرك المهتم والمتابع لسينما “كوستا غافراس” أن هذا الفيلم يعبر عن موقفه الإنساني من الاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويدافع عن رواية أصحاب الأرض الأصليين.
يدافع رائد السينما السياسية “كوستا غافراس” في فيلم “حنا ك” عن الحقوق الشرعية والمغتصبة للفلسطينيين، ويدين سياسة القمع والمتابعة القضائية والاعتقال والتهجير بغير حق لأصحاب الأرض الأصليين.
سجلّ “غافراس” مليء بالمواقف والمسائل السياسية الحساسة، وهذا الالتزام الإنساني نجده عند أجيال شتى من السينمائيين والأدباء والفنانين، وهو معتقد ثابت عند عامة الناس الذين لا يبخسون أحدا حقوقه.
فيلم يكشف ألوان المأساة في واقع أهل الأرض
يروي فيلم “حنا ك” قصة دفاع محامية يهودية عن شاب فلسطيني (الممثل محمد بكري)، تعتقله شرطة الاحتلال، وهو في طريقه إلى منزله بمنطقة خاضعة لسيطرة المحتل، فتنجح المحامية في تحريره والإفراج عنه.

ثم تمر الأيام ويضطر للاستعانة بخدمات تلك المحامية، بعدما اعتقل مرة أخرى، وهنا تتعرف أكثر على جزء من الصراع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني مع المحتل.
سليم هو أحد الشباب الفلسطينيين اللاجئين الذين هُجرت عائلاتهم قسرا من بيوتهم بالأراضي المحتلة، وهم يملكون تلك الأرض في الواقع وعلى الورق، ولا تكون عودته إلى بيته إلا بإثباتات الملكية.
وهنا تقف المحامية على قرى وبلدات ومدن فلسطينية، يتجاوز عمرها مئات السنين، هُجّر أصحابها وهدمت وقامت على أنقاضها مستوطنات، في محاولة لطمس معالم المدن القديمة وتاريخها، وهي مملوكة أساسا للأسر الفلسطينية، ولا تزال تحتفظ حتى اليوم بمفاتيح منازلها الأصلية.
“ماتس غرورود”.. مخرج نشأ بين قصص النزوح
تشبّع المخرج النرويجي “ماتس غرورود” بقصص النازحين من والدته، وكانت تعمل ممرضة في لبنان أثناء الحرب، وانتقلت سنة 1989 للعمل في المستشفى الفلسطيني بالقاهرة، وقد رافقها “ماتس” في ترحالها، وبدخولهما للأراضي الفلسطينية -قطاع غزة بالتحديد- أصبحا أكثر قربا من قصة أصحاب الأرض وقضيتهم، وكان ذلك التأثر والاهتمام بالشعوب المستضعفة والمحاربة سببا في التحاق “ماتس” بمنظمة غير حكومية في مخيم برج البراجنة بلبنان.
وقد دفعه إيمانه بعدالة القضية الفلسطينية لإنجاز فيلم تحريك بعنوان “البرج” (The Tower) عام 2018، وهو يروي قصة طفلة فلسطينية تدعى وردة (11 عاما)، تعيش في مخيم البراجنة بلبنان، وتمثل الجيل الرابع الذي لا يعرف شيئا عن الوطن.
تتعرف وردة على تاريخ عائلتها وقصة اللجوء والتهجير الذي طال الفلسطينيين منذ عام 1948، من خلال الأجيال الثلاثة التي سبقتها، فالمشترك بينهم هو اللجوء وحلم العودة، ولا تزال الأجيال تتوارث مفاتيح منازلها التي تركتها، يوم اضطرت للنزوح خارج فلسطين، بعضهم لا يزال متمسكا بالأمل، ويكاد البعض الآخر أن يفقده.
محاربة الأعمال التي تكذّب السردية المغلوطة
لا تزال الأفلام والمؤلفات التي تنتصر لفلسطين وتدين الاحتلال تثير استياءه وغضبه، لكونها تعارض سرديته المغلوطة، فلا يتردد لحظة في اتهام أصحاب هذه الأعمال -التي توثق الجريمة والنضال- بالتضليل والإرهاب ومعاداة السامية، ولا تزال ردود الأفعال متقاربة تجاه أي دعاية تدافع عن حق الفلسطينيين في استعادة أرضهم من المستوطنين بأي ثمن.
