“الجدار الرابع”.. مخرج فرنسي يعد مسرحية في لبنان أثناء الحرب الأهلية

قد تبدو فكرة الفيلم أول وهلة عسيرة على الإقناع، فمن سيفكر بعرض مسرحية “أنتيغوني” (Antigone) في بلد يخوض حربا أهلية عنيفة، بل من سيجمع ممثلين ينتمون لطوائف وأديان وبيئات متعددة، تتحارب مجموعاتهم وتتقاتل في كل مكان من أرض الوطن؟
قد يفعلها حالم، أو مَن يدين بوعد لإنسان عزيز، وقد يقرر هذا من آلف تحدي الظروف. وقد اجتمعت تلك الأسباب في قصة فيلم “الجدار الرابع”، وكان أهمها وعد قطعه مخرج مسرحي لمعلمه ومثاله في الحياة، وهو يرقد على سرير الموت في باريس.
بعد عقود من تركيز معظم الأفلام اللبنانية على الحرب الأهلية اللبنانية، ها هي ذي تعود من جديد، ولكن في فيلم فرنسي من إخراج “ديفيد أولهوفن”، يُعرض الآن في فرنسا.
في البداية، قد يُظنّ أن “الجدار الرابع” (LE QUATRIÈME MUR) سيتعامل مع الحرب بنظرة خارجية، ربما تكون غير دقيقة ولا مقنعة في نظر من شهدها وعاش بعض معاناتها، كما هو حال حفنة أفلام تناولت حروب الشرق الأوسط، مثل الحرب السورية، بأسلوب متفرج بعيد عن إقناع أو انغماس حقيقي في واقع شائك.
لكن بسبب المسافة الزمنية، التي تفصل هذا الفيلم عن الحدث -وذلك يخدم الأعمال الفنية عموما- سيُفاجأ مُشاهد الفيلم بدقته وإخلاصه وإدراكه العميق، لتفاصيل تعيشها مجتمعات تعاني صراعات داخلية واعتداءات خارجية.
ولئن وردت نماذج أو تنميط لبعض الشخصيات أو الأحداث، فإن ذلك لم يمنع المخرج من التعبير بتمكّن عن حرب معقدة، يعايشها محليون مستقرون وعابرون أجانب.
ولعل هذا الإلمام العميق بالحروب ونفسيات من يعايشها، متأتٍّ هنا من اقتباس الفيلم عن رواية بنفس العنوان، كتبها “سورج شالاندرن” عام 2013، وهو مراسل حربي فرنسي، عاش 20 سنة تحت شتى الصراعات والحروب، وكان شاهدا على كثير من الأمور.

يختار الفيلم عاما مصيريا في حرب لبنان -وهو 1982- ليكون زمنا لأحداثه، إنه عام الغزو الإسرائيلي للبلد، ومذبحة صبرا وشاتيلا، زمن مصيري يرفرف فيه الموت على المصائر التعيسة، وحيث كل شيء مهيأ أمام التراجيديا.
“أنتيغون”.. مسرحية تعيد مأساتها في لبنان
يصل المخرج الفرنسي “جورج” (الممثل لوران لافيت) إلى لبنان الذي مزقته الحرب الأهلية، ويبدأ من بيروت تحضيره لمشروع جريء ومحفوف بالخطر، يتمثل بتقديم مسرحية “أنتيغون”، ويتقرر أن يجسد الشخصيات ممثلون من معسكرات سياسية ودينية شتى.
كان المشروع يهدف لتجاوز الانقسامات، وخلق مساحة للحوار والأمل وسط الفوضى، ولم يكن اختيار هذه المسرحية عشوائيا، فالمأساة التي فيها تحيل إلى أجواء يعيشها أهل البلد، أجواء الموت والأخطار التي لا عاصم منها في كل مكان.

كتب “سوفوكليس” مسرحيته “أنتيغون” في القرن الخامس قبل الميلاد، وكانت اليونان يومئذ تعاني عصرا من التغيرات والاضطرابات الأهلية، وكانت المدينة مفهوما جديدا.
كانت لدى “سوفوكليس” أفكار مهمة، ضمّنها مسرحيته تلك، وهي واحدة من أقدم الكتابات الأدبية، للتعبير عن الصراع بين سيادة القانون والضمير، من خلال تناولها موضوعات العصيان المدني والولاء والسلطة والجنس.
تدور المسرحية حول عصيان “أنتيغون” للقواعد التي وضعها “كريون”، ومنها دفن أخيها. وحين أصرت على عصيانها سُجنت ثم شنقت نفسها، وردا على ذلك طعن ابن “كريون” نفسه، وفي النهاية تتحقق المأساة مع موت ثلاث شخصيات في المسرحية.
هذه المسرحية الكلاسيكية التي يختارها “جورج” لتدريب فريقه من اللبنانيين عليها، تمهّد لما سيحصل في فيلم ينجح تماما في إبراز هذا الجانب التراجيدي للحكاية.
“إنه لبنان يطلق النار على لبنان”
يثير وصول المخرج المسرحي استغرابا، ولكن أيضا فرحا من قبل من سيعمل معهم، وهو يحاول بصبر وحكمة تجاوز كل الاعتراضات التي تعوق مشاركة البعض في المسرحية، إما لأسباب دينية، كأن ترفض عائلة أحد الشباب الممثلين مشاركته، لأن التمثيل حرام، أو لأن إحدى الشخصيات ستنتحر، وهذا لا يجوز، أو لأسباب طائفية تتعلق بعدم الاختلاط بطوائف أخرى.
لا تُعدم الأسباب، وبعضها نمطي ولكن واقعي، وإن قدمها الفيلم بأسلوب طريف أحيانا، فخفف نمطيتها وثقل أجواء القصف والدمار التي كانت تعوق كل اجتماع.

يضيع جورج في مدينة وصراع لا يعرفه، ويتلقى مساعدة من مروان (الممثل اللبناني الفرنسي سيمون أبكاريان)، لكن استئناف القتال سرعان ما يثير التساؤلات حول كل شيء.
لم يكن الوحيد في صعوبة فهمه لما يشهد، فلا شك أن المشاهد الغربي -وربما العربي أيضا- قد وجد صعوبة في إدراك ما يحدث، مَنْ مع من؟ ومن ضد من؟
يتجلى أبلغ مثال على ذلك حين يسأل مرافقه مروان، عما يجري بعد قصف عنيف، فيرد هذا: “إنه لبنان يطلق النار على لبنان”.
عبث الحرب
لا يحاول الفيلم شرح السياق اللبناني، ولا الوجود الفلسطيني والسوري، ولا مسوغات الحرب، وإن كان فعل فلربما اتخذ منحى آخر جعله أقرب للأفلام الحربية، وهو ليس كذلك.
إنه فيلم يريد فقط أن يبين عبث الحرب ومأساويتها، وذلك من خلال الفن، محاولا إبراز دوره في هذه الظروف وإمكانياته، على أن هذا الدور محدود مع الأسف.

كما ساهم مزج الحوار باللغتين العربية والفرنسية في تكريس غموض المواقف والتباساتها، فقد كان مفاجئا عدم ترجمة التعليقات التي يطلقها اللبنانيون على ما يحدث (خلال القصف، عند الحواجز..).
وكأن المخرج بهذا الخيار قرر وضع مُشاهده في موقف بطله “جورج” الحائر والمرتبك، أمام أحاجي ما يجري وما يقال.
هدنة شاعرية قبل المذبحة!
يدرك “جورج” تدريجيا من خلال محاولاته إقناع الجميع، أن المسرحية لن تكون ضد دين ولا طائفة ولا عرق، بسبب تعقيدات الوضع السياسي في هذا البلد، ويجد نفسه في مأزق، حين يتعين عليه أن يواجه حقيقة الحرب ومآسيها، بعدما وقع في حب إيمان الفلسطينية (الممثلة اللبنانية منال عيسى)، وستكون علاقته العاطفية بها هدنة شاعرية قبل المذبحة.
يقترب من هؤلاء الناس ومن فريق المسرحية، ويعيش شيئا من يومياتهم وآلامهم، ويميل قلبه إليهم. ومن خلال تدريب فريقه على أداء المسرحية، يرتبط ببلد وناس وظروف بعيدة عنه، وهذه الحرب التي تجعل العيش مغايرا تسكن الجسد والروح، فلا يعود المرء قادرا على الابتعاد عنها.
وحين يقرر “جورج” الذهاب إلى باريس بعد مآسٍ كثيرة شهدها، ومنها صبرا وشاتيلا، لا يلبث أن يعود، فيسأله صديقه اللبناني مروان عن سبب عودته للبنان، فيقول إنه لم يذهب قط. لقد سكنه وبات غير قادر على العيش في مكان آخر.

يُبرز الفيلم هذه المشاعر في إخراج رصين ومتزن ودقيق، من دون عبارات كثيرة، مكتفيا بقوة المشاهد والأداء، وبعض الحوارات المكثفة الدالة، حوارات مقطوعة أحيانا لا تؤدي إلى نتيجة، لكنها تخدم هدف الفيلم في إظهار أثر الحرب وبشاعتها.
تصوير بيروت والمخيمات الفلسطينية
يستعين المخرج بصور من الأرشيف، حين يحتاج مشاهد حربية من انسحاب جيش أو دخول آخر، ووقت قصف أو انفجار ضخم، لكنه لا يستغني عن مؤثرات خاصة بالفيلم أيضا، لا سيما في بعض حروب الشوارع القليلة، وحين إصابة أبطاله.
وقد اعتمد كثيرا على المؤثرات الصوتية والبصرية الفعالة، فقد صوّر الفيلم في لبنان وفي لوكسمبورغ، بسبب صعوبات التصوير في بيروت لأحداث جرت عام 1982.

ومع أن التصوير جرى قبل “طوفان الأقصى” في 2023، فقد كانت مهمة معقدة وشاقة، بسبب عدم توفر ضروريات حياتية كالماء والكهرباء، ومع ذلك استطاعوا التصوير في المخيمات الفلسطينية.
“لوران لافيت”.. أداء مسرحي مبهر يختزل الحكاية
كان أداء الممثل الفرنسي “لوران لافيت” لدور “جورج” رائعا، وأسهم في نجاح الفيلم إلى حدّ كبير، وكان “لوران” قد عمل في فرقة الكوميدي “فرانسيز” المسرحية العريقة في باريس سنوات.
وقد استطاع بخبرته المسرحية تقديم مشاهد معبرة ومؤثرة، لتدريب شخصيات الفيلم، ولجعلهم يتخيلون هذا الجدار الرابع في المكان، ذلك الذي يفصل المسرح عن صالة العرض.
لقد بدا بأسلوبه وتعابيره ونظراته أفضل ما يمكن أن يعبر عن شخصية تراجيدية، لم تعد تملك مفاتيح السيطرة على نفسها ومشاعرها، وقررت الذهاب نحو مصيرها المحتوم.