“ابنة جنكيز خان”.. حصاد 7 سنوات من التقلب في حياة قومية متشددة

يتتبع الوثائقي الدنماركي “ابنة جنكيز خان” (Daughter of Genghis) مسار تطور تجربة الناشطة القومية المنغولية “غيريل بيامبا” خلال 7 سنوات متتالية، ويرصد تغيرات مواقفها القومية المتشددة، التي تميل للعنف في حل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الظاهرة في المجتمع المنغولي.
أصبحت “غيريل” اليوم امرأة تنشد التعامل مع الحياة وتعقيداتها بروح من التسامح، والانتباه أكثر إلى ابنها الذي أهملته بسبب انشغالها في مهمات أخذتها على عاتقها، مع مجموعة من المنتمين إلى المنظمات القومية المتشددة، وكرست كل وقتها وجهدها لها.
لكنها مع مرور الوقت وجدت نفسها معزولة شبه وحيدة في هذا المسار، بعد أن انفض أكثر الملتفين حولها، وتوجهوا للاهتمام بحياتهم وشؤونهم الشخصية، ومراجعة سلوكهم السابق.
أوكار الصينيين.. حملة قومية لمكافحة التهديد الأكبر
ترى “غيريل” أن الوجود الاقتصادي الصيني هو أكبر خطر يهدد كل مناحي الحياة في البلد، ويتبيّن ذلك في افتتاحية الفيلم، فنراها تتجول ليلا بسيارتها في أرجاء العاصمة أولان باتور، وتشير إلى فندق ومركز للتدليك والاسترخاء، يملكه صينيون تتهمهم بأنهم يتسترون في هذه الأماكن على أعمال الدعارة التي يديرونها، ويُشغلّون فتيات منغوليات فيها.
تجد “غيريل” في سلوكهن تجاوزا للقيم المنغولية، لذا تعمل خطة مدروسة لدهم تلك الأماكن، وسحب الفتيات منها أمام زملائها، حتى يشعرن بالخجل من فعلتهن، ويتركن تلك المهنة المشينة.

يحدث الهجوم أمام عدسات المخرجين “كريستيان ألس” و”كريستوفر بولسن”، وينتهي بإخراج الفتيات الضالعات في أعمال غير أخلاقية من تلك الأمكنة بالقوة.
يظهر من المتابعة أن هذا الدهم الذي لا صفة رسمية له، تديره مجموعة من القوميين المنغول، يتشاركون فيما بينهم للتخطيط والإعداد، ويتعمدون عند اقتحامهم للأمكنة المشبوهة إخفاء وجوههم بالأقنعة، ولبس ملابس جلدية رُسم عليها شعار الصليب المعقوف.
منظمات قومية تعمل في الخفاء
يلاحق الوثائقي “غيريل” في تحركاتها الليلية، فيستكشف عالما سريا، تديره خفية منظمات قومية منغولية، تأخذ على عاتقها أخذ العدالة بنفسها، إلى جانب مطالبتها بالتحرر من الهيمنة السياسية الصينية، التي يرون أن بلدهم يخضع لها من خلال التبعية الاقتصادية.

وفي مشهد نهاري، يظهر مع “غيريل” أحد أعضاء المنظمة، وهما يقفان قرب مصنع تتسرب منه كميات كبيرة من الدخان الأسود، فيحدثها الرجل عن الخراب الذي يلحق بالبيئة بسببه، وعن أن المصانع والمعامل الصينية في بلدهم تدمر الطبيعية وتهدد مستقبل أجيالهم.
أما هي فتُلمح خلال حديثها معه إلى موت زوجها في حادث انهيار منجم للمعادن، يديره الصينيون، ولهذا تزداد كراهيتها لهم.
حياة مضطربة وفراق موجع
من حديثها عن وفاة زوجها، يتقرب الوثائقي من حياتها الشخصية ليرسم “بورتريه” سينمائي لها، فيبدأ بالعودة إلى طفولتها التي عاشتها في قرية قريبة من الحدود الصينية، وكان والدها يعمل فيها حارس حدود.
وبسبب موت والدتها وهي في عامها السادس، عاشت “غيريل” طفولة معذبة، تفاقمت أكثر عندما ابتعد والدها عنها، واضطرت للعيش مع أقاربها، ولم تزل حياتها مضطربة بين صعود وهبوط، لكنها في سن البلوغ تغيرت نحو الأحسن، حين تعرفت على زوجها وعاشت معه حياة سعيدة، تُوجت بإنجابها منه ولدا أسمياه “تيمولين”.

ومنذ موت زوجها في المنجم والحزن يخيم على حياتها، لذا فهي تكرس كثيرا من وقتها لتأجيج الرأي العام على الهيمنة الاقتصادية الصينية، والتحذير من خطرها السياسي مستقبلا.
ترفع المجموعة التي تنضم إليها شعار الصليب الأبيض المعقوف، وتتخذ تجربة التبت السيئة مع الصين مثالا، لتعزيز المخاوف الجدية من الهيمنة الصينية الجديدة عند السكان، وبسبب كل ذلك لا تقضي أوقاتا كافية مع ولدها، ولهذا يلح عليها كلما لقيها أن تبقى أطول مدة معه، وأن تعود سريعا للبيت إذا خرجت ليلا.
الصليب المعقوف.. كفاح يحمل رمز إرث الأجداد
يسأل صانعا الوثائقي “غيريل” عن الصليب المعقوف، فتنكر أن تكون له صلة بشعار النازية الألمانية، وترجعه إلى تاريخ منغولي قديم، فقد اتخذه الأجداد رمزا للسماء والأرض، التي يبجلون عطاءاتها.
وتنتقد بشدة السلوك السيئ الذي يمارسه بعض القوميين المتشددين، من ذوي الزي العسكري الواضعين شعار الصليب على ملابسهم، وبعد مرور وقت طويل من عملها معهم، وإدراكها سوء تصرفاتهم وفسادهم، تصف تصرفاتهم بالمشينة، وأنهم يتقاسمون مع الصينيين أرباح الدعارة، ويسهمون في توريط فتيات منغوليات بها.

وتعارضا مع هذا السلوك، وتأكيدا على أصالة شعار الصليب المعقوف، أسست “غيريل” حركة “المرأة القومية”، الهادفة لحماية المرأة وحقوق الطفل، ومحاربة الدعارة.
يرصد الوثائقي نشاط “غيريل” اللاحق، ويظهر المشاكل التي تعاني منها منغوليا اليوم، لا سيما النساء والأطفال، فترشد النساء الفقيرات إلى أفضل السبل لتحسين حياتهن، ولكنها مع أهمية ما تفعله، ظلت تمارس العنف وسيلة لمحاربة الدعارة، وتُعرّض حياتها في أحيان كثيرة للخطر.
تأنيب ضمير يدعو لمراجعة الذات
ماذا سيحدث لابنك لو أصابك مكروه؟ يتكرر هذا السؤال مرات على “غيريل”، تسألها زميلات تركن المنظمة حرصا على أطفالهن، وهو سؤال يتكرر عند زيارتها لقريتها مع ابنها، بعد أن عرفت أنه يعاني من تأخر في الدراسة، ويعاني من مشاكل نفسية، وقد حاولت التخفيف عنه بترتيبها لزيارته وملازمته أطول وقت ممكن.

زيارتها للقرية قرّبت ابنها من أصوله، وعرّفته بالحياة الريفية المنغولية، لكنها أبعدتها هي عن غلوائها القومي، لأن أكثر النساء اللواتي التقت بهن شجعنها على العناية بالصبي، وتكريسها وقتا أكبر له.
تبدأ “غيريل” التفكير بالحالة التي وصلت إليها، بعد ترك كثير من زميلاتها العمل معها، وانتباههن لخطر العنف الذي لا طائل من وراءه سوى التوتر والقلق، ثم يدفعها ذلك إلى مراجعة نفسها وتجربتها.

يرصد الفيلم أوقات “غيريل” العصيبة، التي تعيشها بسبب إهمالها لطفلها، وبسبب أزمتها المالية بعد تركها العمل، وأكثر من ذلك تأنيب ضميرها على تعاملها مع النساء الضالعات بأعمال مخلة بالأدب، من دون تقديم مساعدة لهن، وأيضا من كمية الحقد التي بداخلها لكل غريب يسكن البلد، ولا سيما الصينيين، الذين تحكم عليهم جماعيا بلا تمييز.
مفارقة العمل في شركة صينية
لحل مشكلة البطالة، تقبل “غيريل” العمل في مشروع بناء سكك حديد، تشرف عليه شركة صينية، وتلك مفارقة حياتية لافتة، وإنما قبلت العمل لأن الراتب الشهري جيد وقد يحل كل مشاكلها، لكن ما ينقصه أنه بعيد عن العاصمة، وعليها أن تترك ابنها وحيدا عند عائلة تعتني به.
يُشعرها بالوحدة عملها مشرفةً على الضمان والحماية في مواقع العمل البعيدة المعزولة، كما يزيد إحساسها بعدم تحمل مسؤوليتها الأمومية الكاملة.

وبقدر ما يقربها العمل من العمال الصينيين، ومعرفة جوانبهم الإنسانية، يزيد قلقها على ابنها الذي يناشدها كل يوم بالعودة إليه، لأنه يجد وحدة وعزلة تؤلمانه. وبعد سنتين من العمل في المشروع ترجع إلى العاصمة، وتشتري شقة تعيش فيها مع ابنها بلا مشاكل.
مراجعة للمواقف والعقليات المتشددة
ينسحب التغيير الحاصل في موقف “غيريل” على نواح أخرى من حياتها، وهذا ما تلتقطه عدسات كاميرا الوثائقي، وقد مكث مدة طويلة داخل الشقة لرصد التحول الحاصل في حياة الأم وابنها، وانعكاس ذلك على دراسته إيجابيا، وعليها أيضا في مناح كثيرة، يبدأ ذلك بتفهم مواقف زميلاتها، وعلى ضوء ذلك تراجع سلوكها ونظرتها للآخر.

أخيرا تقبل بفكرة التعايش السلمي، والنظر للمشاكل الحاصلة من زاوية متعقلة، تفرض عليها حلولا لا مكان للعنف فيها. مراجعتها هذه تكاد تكون مطلبا للتيار القومي المنغولي المتشدد لمراجعة نفسه أيضا، لا سيما وقد انحسرت شعبيته وتقلص دوره.
“ابنة جنكيز خان” وثائقي درامي مهم، ينتقل من الخاص إلى العام، ويراجع مفاهيم التطرف، من خلال تجربة معيشة، يمكن أن تكون مثلا لكل المنخرطين في الحركات السياسية المتشددة، أينما كانت.