“أنت الأبدي”.. شركات الذكاء الاصطناعي التي تتواصل مع الموتى!

إذا وجدت فرصة للتحدث مع إنسان ميت تحبه، فهل ستغتنم هذه الفرصة؟
بهذا السؤال الجدلي المثير يبدأ الفيلم الوثائقي “أنت الأبدي” (Eternal You)، وهذا السؤال الخلافي لن يكون الوحيد في الفيلم، ذلك أن الفيلم مليء بهذا النوع من الأسئلة المفخخة، التي تحاجج ما لدينا من أفكار ومسلّمات عن الحياة والموت والفقد، وهي مسلمات تقع الآن تحت ضغط التكنولوجيا الحديثة، ولا سيما الذكاء الاصطناعي.
لم يكن السؤال الجدليّ الذي بدأ به الفيلم صادرا من خبير تقني ولا مفكر في مباحث الاخلاق، بل امرأة أمريكية فقدت حبيبها، وكانت من أوائل من جربوا التقنية الحديثة للحديث مع الموتى، وهي تقنية صممتها شركات ذكاء اصطناعي أمريكية.
“أهذا أنت حقا؟”.. أول حديث مع الحبيب الميت
تسأل المرأة بلهجة حزينة مع بعض التفاؤل شاشة الكمبيوتر أمامها: “أهذا أنت حقا؟”. إنها أول مرة تستخدم فيها التكنولوجيا للتحادث مع الموتى، وأول مرة تشعر فيها بالقرب من شريكها منذ وفاته.
وتتشابه تجربتها مع مواطن أمريكي آخر، فقد حبيبة حياته بسبب مرض مبكر، وقد عانى كثيرا من الحزن والوحدة، فيتحدث للكاميرا قائلا: بسبب غياب الدين، لا توفر مجتمعاتنا الحديثة مساعدة نفسية للذين يفقدون أحبابا لهم.
كان هذا الشاب من أوائل زبائن تقنية جدلية أطلقتها شركة “ديسمبر” (December)، تمكّن من التحدث مع الموتى عن طريق الحاسوب، وعن طريق المحادثات المكتوبة.
إعادة إحياء الموتى ببياناتهم الشخصية
في وثائقي “أنت الأبدي”، يجتهد المخرجان الألمانيان “هانز بلوك” و”موريتز ريزيفيك” في شرح الموضوعات المعقدة التي يقاربها الفيلم، ويترك أحيانا خبراء محايدين يشرحون تفاصيل تقنية.

ويتحدث أحد الخبراء عن التقنية التي تستند عليها شركة “ديسمبر”، فيبين أن ما فعلوه هو إدخال بيانات تخص محادثات آلاف الناس، من الرسائل الإلكترونية وبيانات أخرى، ثم وضع بيانات المتوفى التي تتضمن كل ما تركه إلكترونيا.
وبعدها يؤسس ملف شخصي للمتوفى، مستوحى مما تركه، وبيانات أخرى لأبناء جيله وزمنه، ومن المقربين منه على صعيد المستوى الثقافي والاجتماعي.
خدعة مريحة تساعد على تخطي المأساة
يمكن الجدال في أن ما يفعله الذكاء الاصطناعي هو خدعة واضحة، وأن ردود الناس الموتى هي ردود أفعال تستند على بيانات قديمة لهم، وليست نتيجة تفاعلهم الحقيقي مع ما يطرأ في الواقع.
بيد أن هذا لم يمنع كثيرا من الناس من تجربة هذه التقنية، بل زعم بعضهم أنها ساعدتهم قليلا في تخطي الأزمات النفسية التي يمثلها فقد أقاربهم أو أحبابهم.

ويوسع الفيلم مجال بحثه فيتناول شركات أخرى، أخذت خطوة أبعد من شركة “ديسمبر”، فصممت بالذكاء الاصطناعي أصواتا للموتى، بعد أن استعانت بتسجيلات صوتية منهم، أو أصوات من أهلهم تشبه أصواتهم.
وهناك من يحاول أن يبتكر نماذج صورية من المتوفين، وهي أيضا مبينة على صور وفيديوهات متوفرة لهم، ثم تحرّك الشركات هذه النماذج المصنوعة بالتكنولوجيا، لتبدو شبيهة بالأفلام الحقيقية.
صدمة الجحيم في قيامة التكنولوجيا
عندما بدأ الرجل الأمريكي الذي فقد خليلته يتحدث أول مرة معها عن طريق شركة “ديسمبر” فقد إحساسه بالزمن كما وصف، فبدأ يحدثها في المساء واستمر إلى الصباح، وعندما نام قليلا ورجع إلى الحاسوب وسألها هل ما زالت موجودة، ردت: نعم أنا موجودة.. أين يمكن أن أكون؟

ساعدت التقنية هذا الرجل الأمريكي في تخطي أوقات صعبة، ولم يسائل كثيرا حول جوهرها أو أسئلتها الأخلاقية.
وكشفت امرأة أخرى في الفيلم أن اتصالها الافتراضي مع خليلها ساعدها في التخلص من الكوابيس التي كانت تطاردها في نومها، لكنها صُدمت كثيرا عندما سألته عن مكانه الحالي، فقال إنه في الجحيم.
ترك الموتى ينعمون بسلام
كانت إجابة الجحيم صادمة جدا للمرأة الأمريكية، وجعلتها تفكر بالمكانة العاطفية لهذه التكنولوجيا التي هزتها نفسيا، وقد عادت مرة أخرى إلى السؤال نفسه: أين أنت الآن؟ فقال إنه في الفردوس الأعلى. وربما كان ذلك بسبب شكواها للشركة.

وتنوعت ردود الأفعال في العائلة الأمريكية الكبيرة التي اجتمعت لسماع صوت الجد الراحل، فبدا الذهول باديا على وجوههم، وكاد بعضهم يسكب الدموع، بيد أن أخته تحدثت بحكمة كبيرة عن جدوى ما قامت به ابنة المتوفى وما دفعت من مال من أجل تلك التكنولوجيا.
وقد قالت الأخت إنه كان من الأفضل أن يترك الموتى لينعموا بالسلام، وتبقى ذكرياتهم كما هي، من دون إضافات غير حقيقية.
تجربة مرعبة من كوريا
يمرّ الفيلم على تجربة جدلية جدا، حدثت في كوريا الجنوبية قبل سنوات، وحصدت ملايين المشاهدات عندما عرضت على موقع يوتيوب. وتتلخص بوضع أم كورية ثكلى في مجال افتراضي، وإلباسها نظارات ثلاثية الأبعاد، وجعلها تتحرك قريبا من رسوم لابنتها المتوفاة، بدت قريبة كثيرا من صورتها الحقيقية.
يزور الفيلم الأم، ويعود معها إلى اليوم الرهيب الذي فقدت فيها ابنتها، وهي وفاة مفاجئة جدا، ثم يقف معها على السنوات الصعبة التي عاشتها بعد ذلك، وحياتها التي حطمها الحزن.

ويستعين الفيلم بمقاطع سجلتها الشركة التكنولوجية الكورية أثناء وضع الأم في الواقع الافتراضي، وصورها وهي تلمس بحزن يقطع القلوب كتلة من الفراغ، كانت ترى فيه بنظاراتها الخاصة وجه ابنتها الصغيرة الراحلة.
وفي مونتاج مواز للفيلم، كنا نرى ما تراه الأم نفسها من ضحكات ابنتها ولعبها، وفي مقابل ذلك نراقبها وهي تتجول في غرفة وحدها، تحيط بها الكاميرات التي كانت تصورها.
كان هذا التباين بين المشاهد أمرا محزنا كثيرا، ويقترب من المأساوية، وقد عرّض الشركة الكورية لانتقادات عنيفة جدا في كوريا وفي أمكنة كثيرة من العالم، بيد أن الأم بدت راضية عن التجربة برمتها.
“الذكاء الاصطناعي يعِدنا بما تعدنا به الأديان”
يقارب المخرجان في فيلمهما “أنت الأبدي” قضية تعد غريبة على كثير منا، لكنهما ينجحان بربطها بمخاوف وهواجس تشغل البشر منذ بدء الخليقة، ولا سيما الموت، وما يحدث بعده.
وقد أوجزت إحدى الخبيرات في الفيلم ما تفعله هذه الشركات بقولها: الذكاء الاصطناعي يعِدنا بما تعدنا به الأديان، بأن الموت ليس النهاية، بل يمكن أن تولد من جديد في عالم آخر”.

وربما يكون هذا هو سر الشعبية التي تحظى به هذه المبادرات التقنية، سيما في المجتمعات التي تتراجع فيها أهمية الأديان.
لعبة رأسمالية تعزف على وتر أخلاقي حساس
يوازن هذا الفيلم الوثائقي بين القصص الشخصيات العادية بما تتضمنه من جوانب عاطفية وضعف، وبين عرض كواليس عمل الشركات التقنية التي تتنافس اليوم على سوق التواصل مع الموتى.
وقد بدا أن دافع تلك الشركات تجاري بحت، لا سيما وهي تتلقى مئات الملايين من الدولارات، من جيوب المستثمرين الذين يرونها الدجاجة الجديدة التي ستبيض ذهبا.

ويُعرّف الفيلم بمجموعة من الخبراء المتمكنين، بعضهم من المنشغلين بقضية الأخلاق في التقنيات الحديثة، فيعرضون وجهات نظر دقيقة كثيرا، ويحللون النموذج الاقتصادي والنفسي لهذه الشركات، ويطرحون أسئلة مهمة عن الأسباب التي تجعلها تحقق نجاحات كبيرة، وينتظرها مستقبل كبير في قادم السنوات.
ولخصت إحدى الخبيرات نجاح هذه الشركات بأنه يتوافق مع نظام اقتصادي رأسمالي، يمكن أن يفعل أي شيء لكسب المال، حتى لو أعاد الموتى من قبورهم، ووضعهم في عوالم افتراضية، لا يمكن الوصول إليها إلا بدفع أموال كثيرة، تشترطها الشركات المالكة.
ومع ما لحق بهذه الشركات من انتقادات هيمنت على الفيلم، فإن هناك من يدافع عنها، ويرى أنها تمثل تطورا للبشرية في بحثها عن الأسئلة الخالدة التي تهم الإنسان.