“مذكرات الصندوق الأسود”.. شهادة حول مأساة محاصرة بين الصمت والإفصاح

كيف يمكن للصورة أن تنقل وجعا مكبوتا؟ وكيف يمكن لفيلم أن يحوّل ألم إنسان إلى شهادة جماعية تهزّ وعي المجتمع؟

فيلم “مذكرات الصندوق الأسود” (Black Box Diaries) فيلم وثائقي ياباني، لكنه ليس مجرد فيلم يوثّق تجارب ضحايا العنف الجنسي، بل محاولة جريئة لفتح الصناديق المغلقة، التي تحمل أوجاعا دفنتها ثقافة الصمت.

يمزج الفيلم بين السرد الشخصي واللغة البصرية، ليكشف عن تلك المساحات الخفية في النفس البشرية، حيث تختلط مشاعر العار والخوف بالرغبة في التحرر.

هذا ليس فيلما عن الضحايا بقدر ما هو فيلم عن الصمت الثقيل الذي يحيط بهم، وعن ثقافة البوح والصمت التي تتفاوت بين المجتمعات. فهناك من يعترف ليُشفى، وهناك من يصمت ليبقى. ولكن بين الاعتراف والصمت، أين يقف الفيلم؟ هل هو فعل مقاومة أم مجرد استعراض للألم؟

هذا الوثائقي هو من إخراج “شيوري إيتو”، وهي أيضا بطلة القصة وموضوع الفيلم، نشاهد رحلة تحقيقها في قضية اعتداء جنسي أصابها في اليابان، وقد استوحي الفيلم من مذكراتها الصادرة عام 2017 بنفس العنوان، ويمنح المشاهدين نظرة قريبة ومؤلمة على معركة طويلة من أجل العدالة.

استدعاء الذاكرة الممزقة

يبدأ الفيلم بمشهد صادم، فنرى لقطات من كاميرات مراقبة، تظهر “شيوري إيتو” وهي تُسحب إلى فندق. الصورة غامضة، لكن الإحساس بالخطر واضح، ثم بعد لحظات ينقطع المشهد.

ننتقل فجأة إلى عام 2017، فنرى “شيوري” أمام عدسات الصحافة، وجهها هادئ لكن كلماتها تقطع الصمت الطويل: اتهام علني بالاعتداء الجنسي عليها من الصحفي الشهير “نوريوكي ياماغوتشي”، وهو مقرب من رئيس الوزراء “شينزو آبي”.

لقطات كاميرات مراقبة تظهر “شيوري إيتو” وهي تُسحب إلى فندق

هذا التداخل بين الماضي والحاضر ليس عشوائيا، بل هو حجر الأساس في بنية الفيلم، فلا يسير الزمن في خط مستقيم، بل يتلاعب بنا، مثل الذاكرة المشتتة التي تطارد صاحبها، فكل مشهد بمنزلة لحظة ضائعة من ماضٍ يتكشف ببطء. ولا يقدم الفيلم إجابات سريعة، بل يتركنا نجمع التفاصيل بأنفسنا، نبحث بين المشاهد عن الحقيقة.

كيف يؤثر الماضي على الحاضر؟

صوت “شيوري” هو الراوي لهذه الرحلة، فنسمعها تتحدث بهدوء، وتصف تفاصيل ليلتها المظلمة، في حين نرى لقطات من حياتها اليومية؛ من مكالمات هاتفية مع المحققين، ومشاهد عادية من شوارع طوكيو، وصفحات من مذكراتها المصورة، وحوارات مع أصدقائها. كل لقطة هي دعوة للدخول إلى عالمها الداخلي، عالم يتأرجح بين الألم والأمل.

“شيوري إيتو” بطلة وصاحبة قصة فيلم “مذكرات الصندوق الأسود”

ثم يأتي السؤال الحتمي: كيف يؤثر الماضي على الحاضر؟

الزمن في الفيلم ليس مجرد سياق، بل خصم قوي، يعيد صياغة الذكريات، ويختبر قدرتها على التحرر. والماضي والحاضر يتداخلان بلا توقف، مثل موجات متتالية تدفع القصة إلى الأمام، وتطرح علينا سؤالا واحدا: هل يمكن حقا التحرر من قيود الذاكرة، أم أن الماضي سيظل حاضرا للأبد؟

هذه الرحلة السينمائية ليست مجرد تسجيل لحدث شخصي، بل استكشاف عميق لطبيعة الصدمة والذاكرة. إنه عمل يتجاوز حدود الوثائقي التقليدي، ليأخذنا إلى مكان يتقاطع فيه الألم مع الشجاعة، وحيث تصبح الصورة أداة لكشف ما لا تستطيع الكلمات قوله.

بين ثقافة الصمت والإفصاح

قدمت “شيوري إيتو” مقارنة ضمنية -شاءت أو أبت- بين ثقافات الشرق والغرب في تناول قضايا العنف الجنسي، ففي اليابان تسود ثقافة الصمت التي تضغط على الضحايا، لإخفاء معاناتهم وتجنب الفضيحة الاجتماعية.

هذا الصمت مدعوم بقوانين قديمة، تعاقب الضحية بدلا من الجاني، وبنظام يحمي الجناة ويمنحهم حصانة اجتماعية. في المقابل، يظهر الفيلم أن “شيوري” تتحدى هذه الثقافة، بكسرها للصمت والتحدث علنا عن تجربتها.

“شيوري” تتهم الصحفي الشهير “نوريوكي ياماغوتشي” المقرب من رئيس الوزراء “شينزو آبي” بالاعتداء عليها

تذكر المصادر أن “شيوري” سجلت محادثاتها مع المحققين، خوفا من التلاعب بالتحقيق، وتلك شهادة بصرية تعكس صراعا بين الرغبة في الاعتراف والخوف من الوصم، وبين الحاجة إلى العدالة والخشية من التبعات الاجتماعية.

رموز الثقافة المحلية اليابانية

يستخدم الفيلم الرموز الثقافية لبناء سرد متعدد الطبقات، فمثلا يظهر مشهد “شيوري” وهي تلبس قميصا مفتوح الأزرار في المؤتمر الصحفي، فيصبح رمزا للتحدي والتمرد على القيود الاجتماعية، التي تُفرض على النساء.

هذه اللقطة البسيطة تحمل دلالات عميقة حول كيفية استخدام الملابس أداة للتعبير عن الذات، ووسيلة لمقاومة القمع. علاوة على ذلك، فإن اختيار أغنية “سوف أحيا” (I Will Survive) في المشهد الأخير ليس مجرد اختيار موسيقي، بل هو تعبير عن الانتصار والقدرة على الصمود في وجه الصعاب.

ومع ذلك، يثير الفيلم نقاشا حول تحيزه الثقافي، فهل استطاع الفيلم أن يقدم طرحا عالميا يتجاوز الحدود الثقافية، أم أنه وقع في أسر التحيز الثقافي الياباني؟

خوفا من تزوير الاعترافات، تقوم “شيوري” بتسجيل كل محادثتها مع المحامين

هناك من يرى أن الفيلم استطاع تسليط الضوء على القضايا العالمية للعنف الجنسي، في حين يرى آخرون أنه يفرط في التركيز على السياق الياباني، مما قد يحد قدرته على التواصل مع جماهير شتى.

ونحن نرى أنه بين هذا وذاك، فالمشكلة عالمية بالتأكيد، لكن الحياة لا تسير في خطوط مستقيمة، فهناك عوامل كثيرة تؤثر على مسار الأحداث، وكثير من هذه العوامل ناتج عن الثقافة المحلية في اليابان، وتمثل حاجزا بين المُشاهد والإدراك العميق للفيلم وأحداثه وشخصياته.

السينما أداة للمقاومة والشفاء

يكشف الفيلم أن السينما يمكن أن تصبح مساحة للعدالة الرمزية، فتصبح الصورة سلاحا لمواجهة البُنى الاجتماعية السائدة. ففي كل مشهد تستعيد “شيوري إيتو” السيطرة على سرد قصتها، رافضة أن تبقى في دور الضحية الصامتة، وبسرد قصتها بصوتها تتحول من مجرد شاهدة إلى مقاومة، تتحدى ثقافة الصمت، وتطالب بحقها في العدالة.

لا يسجل الفيلم واقعة عنف فحسب، بل يصبح فعلا احتجاجيا يفضح الصعوبات التي تواجه الضحايا في النظام القانوني الياباني. مشاهد طرق “شيوري” المتكرر لأبواب الشرطة والمسؤولين للحصول على إجابة ليست مجرد لقطات توثيقية، بل دليل حي على معركة طويلة للاعتراف، فمن المثير أن استخدام السينما هو في ذاته مسار النقد الذي يصيب الفيلم في داخل اليابان.

الملصق الدعائي لفيلم “مذكرات الصندوق الأسود”

يكفي أن نعرف أنه ترشح للأوسكار، لكنه لم يعرض داخل اليابان بعد، بل إن بعض الشهود الذين شاركوا شهاداتهم بشرط أن تستخدم فقط في المحكمة، لجؤوا للقضاء لمحاكمة “شيوري”، بعد نشر شهاداتهم على الملأ باستخدام وسيط السينما.

مما يميز الفيلم أيضا اختيارها للمشاهد، وللتباين بين صوتها ولحظات الصمت، وقد بدا ذلك متعمدا، كي يمنح الفيلم بُعدا عاطفيا وإنسانيا عميقا.

ومع ذلك، يبقى السؤال معلقا: هل استطاع الفيلم مقاومة استهلاك الألم، أم وقع في فخ المتاجرة بالمعاناة؟

يرى البعض أن الفيلم خلق تجربة عاطفية صادقة وعميقة، وآخرون يرون أن استعراض الألم بهذا الشكل قد يصبح نوعا من الاستغلال. السؤال ليس بسيطا، لكنه يفتح نقاشا مهما حول أخلاقيات السينما: كيف يمكن نقل تجربة شخصية مؤلمة، دون أن تصبح جزءا من استهلاك بصري سطحي؟

الجانب النفسي وأخلاقيات التوثيق

يتعامل الفيلم مع الأخلاقيات السينمائية بطريقة دقيقة وحساسة، فمن خلال إعطاء “شيوري إيتو” السيطرة الكاملة على السرد، يتجنب الفيلم الوقوع في فخ استغلال معاناة الضحية، فيُظهر أن عملية التوثيق نفسها يمكن أن تكون جزءا من عملية الشفاء، وتسمح للضحية باستعادة السيطرة على قصتها وعلى هويتها، ويشير الفيلم إلى أن “شيوري” صورت نفسها لحماية نفسها، ولتوثيق ما يحدث لها.

من منظور نفسي، يمكن فهم العلاقة بين الضحية والمخرج والجمهور من خلال مفهوم “التعاطف” و”التقمص”. فمن خلال مشاركة “شيوري” لتجربتها بصراحة وصدق، تخلق مساحة للتعاطف والتفاعل العاطفي مع الجمهور.

الشارع الياباني يتعاطف مع قضية “شيوري إيتو”

في الوقت نفسه، يتجنب الفيلم الوقوع في فخ التقمص، الذي قد يجعل تجربة الضحية مجرد مادة استهلاكية، فمن خلال الحفاظ على مسافة فنية، يدفع الفيلم الجمهور إلى التفكير في القضايا المطروحة، بدلا من مجرد الانخراط في ردود فعل عاطفية سطحية.

ومع ذلك تبقى إجابة السؤال معلقة، فهناك فارق كبير بين مجرد التصوير والنشر، ولا سيما على نطاق دولي، فقد اختارت “شيوري” أن تواجه الجمهور بالإنجليزية لا بلغتها الأم، فهذا الفيلم موجه لجمهور غربي، ومن خلفه جمهور عالمي.

في نهاية المطاف، يعيد فيلم “مذكرات الصندوق الأسود” طرح الفكرة الأساسية، ألا وهي: هل يمكن للسينما أن تحرر الحقيقة دون أن تسجنها في قوالب استهلاكية؟

قوة السرد البصري في تفكيك ثقافة الصمت

لا يقدم الفيلم إجابات جاهزة، بل يدفعنا إلى طرح الأسئلة والتفكير في دور الصورة في كشف الحقائق المكبوتة، وهو ليس مجرد وثيقة عن قصة شخصية، بل هو استعارة عن الصندوق الأسود، الذي يحمل في طياته ذكريات مؤلمة، وتجارب لا يمكن نسيانها.

يقدم الفيلم تأملات أخيرة حول قوة السرد البصري في تفكيك ثقافة الصمت، فـ”شيوري” لا تمنح صوتا لنفسها فحسب، بل تمنح صوتا لكثير من الضحايا الآخرين، الذين يعانون في صمت.

ليس الفيلم مجرد عمل فني فحسب، بل هو صرخة تطالب بالعدالة وتحث على التغيير. وفي نهاية المطاف، يبقى الفيلم شهادة قوية على قدرة السينما على كشف الحقائق المكبوتة، وإلهامنا للتغيير، وتقديم أمل للمستقبل.


إعلان