“طائفة نهاية العالم”.. قصة إله كاذب خدع قومه وقتل ابنه في تشيلي

يعود بنا الفيلم الوثائقي “أنتاريس دي لا لوز: طائفة نهاية العالم” (Antares de la Luz: la secta del fin del mundo) من إخراج “سانتياغو نيكولاس كوريا بارودي” إلى قضية هزت الرأي العام في تشيلي سنة 2012، وتعلقت بطائفة “كويغواي” التي سُميت لاحقا “طائفة نهاية العالم”.

فقد كانت هذه الطائفة تمارس طقوسها في غابات البلاد النائية، وتعمل على “تطهير العالم من آثامه”، لمنع حدوث يوم القيامة. ولكنّ “التطهر الأسمى” المتجسد في التأمل بحضرة “رامون”، زعيم الطائفة والمعالج الروحاني، قد انتهى بها إلى ارتكاب جرائم بشعة، وإلى استعباد منتسبين إليها، بحجة تقديم التضحيات البشرية التي ستمنع نهاية العالم.

“رامون” الإله مبدّد الظلام

كان “رامون غوستافو كاستيلو غايتي” موسيقيا شابا، عرف باهتمامه بالأديان الشعبية، وقد عُرف لاحقا باسم “أنتاريس دي لا لوز”، وبعد رحلة أخذته إلى الصين، جعل يدعو إلى التأمل غير المؤذي، لا سيما بعد تجربته مع مخدر “الأياهواسكا”، الذي كان يستهلكه لتحمل آلام مزمنة يعانيها.

ثم حوّل اهتمامه من معتقدات الشرق إلى الكتاب المقدس. وقد تقمص شخصية المخلّص الذي سيمنع بصلاحه وقوع يوم القيامة، استنادا إلى تقويم حضارة المايا القديمة في وسط القارة الأمريكية، الذي يعتقد أن دمار العالم أو انتهاء الدورة العالمية كان يوافق يوم 21 ديسمبر/ كانون الأول 2012.

محاكاة لشخصية رامون الإله

بنى “أنتاريس” نظرية تصنّف البشر إلى ثلاثة أصناف:

  • الطاهرون الذين يغمرهم النور.
  • المدنسون الذين يخالفون التعاليم الإلهية.
  • الذين يعيشون الظلمات بسبب الشيطان.

وجعل دوره تبديد الظلام القائم في نفوس أصحاب الصنف الثالث، مع كونه واحدا منهم.

وقد استطاع غسل أدمغة أتباعه، وجعلهم مستعدين للتضحية بحياتهم، والتجنّد لمساعدته في حربه على الشيطان وعمله على تبديد الظلمات، عبر المزج بين التأمل ذي المرجعية الشرقية، ومعتقد انتهاء الدورة العالمية ذي المرجعية المايوية، وفكرة تخليص العالم ذات المرجعية المسيحية.

وحين تأكد من ولاء أتباعه التام، أعلن أنه تجلٍّ للإله على الأرض.

فيلم وثائقي بنكهة الصحافة الاستقصائية

يعوّل هذا الفيلم الوثائقي على عمل الصحفية الاستقصائية “فيرونيكا فوكسلي” لضبط مادته، وقد أفضى بها البحث إلى أنّ أعضاء الطائفة جميعا كانوا ممن أحبطتهم الحياة، وجعلت تقديرهم لذواتهم متدنيا.

وبناء على ذلك منحهم الانتماء إليها وتكليفهم بمهمة إنقاذ الأرض في يوم القيامة معنى لحياتهم، وحوّلهم من منبوذين يعيشون على هامش المجتمع إلى “محاربين مستيقظين”، وخوّل لهم أن يعيشوا حالة سلام روحي.

ومن هنا كان مبرر الغرابة في الجريمة البشعة التي سترتكب؛ فهي من منظور بعض أعضاء الطائفة السابقين وغيرهم، لم تكن بدافع الشر كالسرقة أو الحقد، بل بدافع إنقاذ البشرية.

الصحفية الاستقصائية “فيرونيكا فوكسلي”

يستند الفيلم إلى شهادة “بابلو أوندوراغا”، وكان الرجل الثاني في الطائفة، ليعرفنا بطبيعة شخصية “رامون غوستافو كاستيلو غايتي”، فقد كان يستخدم دائما مادة “آياهواسكا” المخدرة.

ثم جعلها ممارسة أساسية ضمن طقوس طائفته، لأنها تساعد على ما يسمى “التأمل التحويلي”. والحقيقة أن هذا المخدّر كان أداته لإحداث حالة هلوسة قوية لدى أتباعه وإخضاعهم له والتسليم بما يدبّره لهم.

ومن خلال قصة القطة، يكشف لنا “بابلو أوندوراغا” وجها من فظاعة معلمه، فقد نزل ضيفا عنده، وبعد أن استأثر بغرفته قتل قطته الأليفة الحامل، لأنها “كانت تحمل في بطنها أطفال الشيطان”، وبذلك جعل الرعب يستوطن قلبه من محيطه، ومن الآثام التي تترصّده، ومن “رامون” نفسه.

الجنين الذي يسرّع ظهور المسيح أو النبوءة الزائفة

كان “رامون” يستقدم إلى فراشه من تروق له من نساء طائفته، وليس لهنّ أن يرفضن أو يتذمرن، بل عليهن أن يكنّ ممتنات لهذا الاصطفاء، فقد رسّخ في أذهانهنّ أنه لا يلد، لكونه إلها.

لكن حظيته “ناتاليا” حملت منه، ففسر ذلك بأن الجنين سيولد بعد 10 أشهر، وقبل ثلاثة أيام من نهاية العالم، وفقا لتقويم المايا، أي في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2012، وأطلق عليه لاحقا اسم يسوع، لأن مجيئه سيسرّع ظهور المسيح ليخلّص الأرض، ولكن نبوءته لم تتحقق، وكانت الولادة قبل ذلك.

جنين “ناتاليا” الذي حملت به من “رامون”

ففي 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، فاجأ المخاض الأم الشابة، وبسبب تعسر الولادة أُخذت إلى المستشفى، فابتكر “رامون” ومساعده “بابلو” قصّة كاذبة، تزعم أنهم وجدوها ملقاة على جانب الطريق تعاني آلام المخاض، وذلك لتجنب التصريح بهوياتهم، وبعد الولادة هربوا الأم والطفل لتجنب تسجيل الطفل في السجل المدني.

كان على “رامون” أن يعرض تفسيره لهذه الولادة المبكّرة التي سفهت نبوءته، ومن خلال الجمع بين خلفياته الثقافية المتعددة، استدعى فكرة المسيح الدجال، فقال إن “نتاليا” لم تحمل بالمسيح الحق بل الدجّال، رجل الخطيئة المعادي للمسيح الحقيقي والمضلل للمؤمنين، فيتشبه به بطريقة خادعة، نظرا لمعجزاته وعلاماته المزيفة، ليرتكب الخطايا وينشر الشر.

السكين التي ارتكبت بها الجريمة

وهذا يعني ضرورة الإسراع بالتخلص منه، لمنع تحقق نبوءة يوم القيامة عام 2012، بعد أن اتضح أن المسيح الحق لن يظهر، فأشعل نارا وطلب من الأم أن تنزع ملابس الرضيع، وأن تكمّمه بوضع جورب في فمه، وأن تربط يديه وقدميه حتى يظل ساكنا، وأن تحجب عينيه بشريط لاصق، ثم قتله وألقاه في النار، وطلب من أتباعه الباكين المذهولين مما يحدث إلقاء الحطب لإذكاء لهبها، فلم يملكوا -وقد سلبت منهم إرادتهم- غير الخضوع.

محاكمة رحيمة لجريمة مرعبة

مثلت أحداث 23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012 تجربة فظيعة لدى أعضاء الطائفة، ولكنهم لم يفقدوا إيمانهم بقدرة معلمهم وإلههم على إنقاذ الكون من هول يوم القيامة، وظلوا ثابتين على ولائهم.

ولكن تاريخ 21 ديسمبر/ كانون الأول 2012 الموعود حلّ، ثم جاء صباح 22 ديسمبر/ كانون الأول ولم يصدر عن “رامون” أي إعجاز يمكن أن ينقذ العالم، وفي الآن نفسه لم تقم القيامة.

لحظة اعتقال بابلو الرجل الثاني في الطائفة

عندها ضحك “رامون”، وكان يحتاج مبررا ليواصل إخضاع أتباعه، وتأجيل مأزقه سنوات أخرى، وأعلمهم بأنهم مضطرون إلى الانتظار حتى عام 2017، لتحدث نهاية العالم الحقيقية، لكن الجميع أدرك هول التلاعب بعقولهم، فانفضوا من حوله وتركوا الطائفة.

ولم تكن الشرطة تجهل أمرهم جهلا تاما، ولكن لم يبد لها من سلوكهم ما ينافي القانون، لذلك لم تولِ أمرهم اهتماما كبيرا، ولم تباشر التحقيق معهم إلا في الأشهر الأولى من عام 2013، بعد أن تلقت معلومات من أناس تركوها، حين أدركوا فجر 22 ديسمبر/ كانون الأول 2012 أنهم ضحايا لجنون “رامون” مدّعي الألوهية وأوهامه.

تلاوة قرار المحكمة بأن أعضاء الطائفة غير مسؤولين مسؤولية تامة عن تصرفاتهم الإجرامية

أثناء المحاكمة المثيرة للرأي العامّ، تمسّك المتهمون بكونهم كانوا يعيشون حالة من الذّهان المشترك، بسبب اعتقادهم أن “رامون” هو إله حقّا.

وقد قدّرت المحكمة أنهم شركاء في جرائمه المروعة، وأدانت “بابلو” و”ناتاليا” وغيرهما، فحكمت عليهما بالسجن 5 سنوات، قضيا منها عامين فقط، وحكمت على بقية الأعضاء بالسجن 3 سنوات، وبررت أحكامها المخففة بكون المذنبين كانوا تحت تأثير “سيطرة جماعية على عقولهم”. أما “رامون” فقد فرّ إلى البيرو، وهناك انتحر شنقا.

الطائر العالق في الأسلاك الشائكة

يستهل الفيلم بعرض الحماية المشدّدة التي يلقاها المتهمون داخل السجن، فقد كانت السلطات تضع بعين الاعتبار ردّة فعل باقي المساجين الغاضبين مما حدث، وتتوقع أن يهددوا سلامتهم الجسدية. وتؤكد شهادة “بابلو” ذلك، فقد تحدث عن رغبة المساجين في قتله.

فقد كان السجناء يجدون الاكتفاء بسجنه 5 سنوات حكما مخففا لا يحقّق العدالة، وكانوا يريدون إقامة عدالتهم بأنفسهم، ومع ذلك يقول إن شعوره بالخطر لم يكن يرتقي لما كان يشعر به وهو بحضرة “رامون” في الجبال البعيدة.

الطائر العالق في الأسلاك الشائكة للإيحاء بالجريمة المرتكبة بحق الرضيع

نجد في هذا التّفصيل عرضا لموقف المخرج مما ارتكبته هذه الطائفة، فالمفارقة هنا أنّ المساجين المرتكبين للجرائم أنفسهم، يستنكرون هذه الجريمة لفظاعتها.

فضلا عن ذلك، فقد حاول “سانتياغو نيكولاس” التعبير عن وجهة نظره حول تصنيف الجماعة بأنها فاقدة للسيطرة على العقل”، عبر اللغة السينمائية الموحية، فبدأ الفيلم بعرض مشهد خارجي للسّجن المنيع الذي حلّ به “بابلو”، ويمكننا أن ننزله ضمن مرحلة العرض، التي تزود المتفرج بالمعلومات الضرورية للفهم والتأويل.

ولكنّ الكاميرا تتوقف عند صورة لهيكل طائر هالك، معلق في الأسلاك الشائكة التي تعلو أسوار السجن، فيستدعي شيئا من نمطيات السينما، لا سيما تلك التي تتعلق بالحيوانات العالقة على الحدود الشائكة، التي صنعها الإنسان، فتكشف وحشيته وهو يحاول الاستئثار بجزء من الطبيعة، ويمنع غيره منها.

ولا يبتعد توظيف صورة الطائر العالق في الفيلم عن هذه الغايات، فهي منتقاة عمدا لتُدخل الرعب في النفوس، وتهيئ المتفرج لمتابعة القصة المرعبة، وترمز إلى الاعتداء الغادر على الطفل الصغير، الذي حوّلوه إلى مسيح دجال، ونفذوا حكمهم بإعدامه.

هدم مقر الطائفة للتخلص من الذاكرة الأليمة

ينتهي الفيلم بأعضاء يهدمون المأوى الذي كانوا يقيمون به في غابات تشيلي النائية، ولا شكّ أن هذا العمل الذي يأتونه بعد 12 سنة من وقوع الجريمة وبمناسبة تصوير الفيلم لم يكن عملا تلقائيا، بقدر ما كان بدفع من المخرج، ليكون رسالة للمتفرّج، للتكفير عن الذنب وتجاوز تلك التجربة الآثمة.

ومن سمات الفيلم الوثائقي الأصيل تضمينه لرؤية فنية وجمالية، ومن هذا المنطلق اختار المخرج صيغة قريبة من التحقيق البوليسي، ضمن نمط الفيلم الأسود، الذي نتعرف منذ بدايته على شتى أطراف الجريمة، فيكون عرضها سبيلا لتشريحها، ولتسليط الضوء على أسبابها لفهم دوافعها.

هدم البيت الذي كانت تجتمع فيه جماعة “رامون”

ولكن الفيلم يكتفي بعرض المثير منها، فمثل هذه الطوائف تعكس أزمة العقلانية الغربية اليوم، لأن تهميش الجانب الروحاني من الإنسان، يجعل هذه الحاجة تظهر على نحو محرّف.

والطوائف الكثيرة التي تظهر دائما هي خير دليل على ذلك، فهي تدّعي تخليص العالم من آثامه، ولكنها تجعل تدينها ممارسة للمحظور دينيا وأخلاقيا وانطلاقا مما يبدو غاية نبيلة، تصبح خطرا على المجتمع أو على الأعضاء أنفسهم.

وهذا هو العنصر الأهم في واقعة طائفة نهاية العالم، ولكن الفيلم أهمله إهمالا كاملا.

احترام حرية الضمير وانحراف التدين.. معضلة كبرى

حدود تدخل الدولة في معتقدات مواطنيها، هي معضلة رئيسية لم يولها الفيلم ما تستحقّ من العمق، فمن منطلق حقوقي تلتزم الدولة المعاصرة باحترام حرية الضمير، التي تحددها المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بأنها حق الأفراد في حرية الفكر والوجدان والدين، بما في ذلك حريّة تغييرهم لمعتقداتهم وأديانهم، وحريّة التعبير عنها في المجتمع والممارسة في الأماكن عامة أو خاصة.

والإشكال هنا يدور حول مدى توفيق الدولة بين احترام حرية الضمير، وبين منع انحراف التدين، من البحث عن السلام الروحي إلى الإرهاب أو الإجرام أو تهديد السلم الاجتماعي.

إذن عن أي متفرج يبحث المخرج؟ فرغم النزعة إلى إدانة جرائم الطائفة، فقد بدا المخرج أميل إلى المثير من الوقائع، وأقرب إلى المتفرّج الشغوف بالسينما الاستهلاكية منه إلى تحليل الظواهر ومعالجة الإشكاليات العميقة.


إعلان