“الضيف”.. شاب سوري لجأ إلى عائلة بولندية تتحدى السلطة

بدا الشاب السوري قلقا وحزينا، وينظر بشرود من النافذة إلى الخارج، وكان لا يتوقف عن النظر في هاتفه والاتصال بأصدقائه وأهله الذي تقطعت به الوسائل معهم، منذ لجوئه إلى بيت عائلة بولندية، بعد مطاردات من الشرطة البولندية التي كانت تتعقب اللاجئين القادمين من روسيا البيضاء، في طريقهم إلى دول أوروبية أكثر أمنا.
لا تُعرف الظروف التي سبقت وصوله، ذلك أن الفيلم يبدأ وهو في بيت العائلة البولندية، فلا نعرف اسمه ولا طريقة وصوله إليها، ولا نرى أيام التعارف الأولى، ولا بداية المشروع الوثائقي برمته، ولا ظروف تصويره، لا سيما أن ذلك كان ممنوعا لدى السلطات البولندية.
هكذا يبدأ الفيلم الوثائقي “الضيف” (The Guest)، الذي أخرجه “زفيكا غريغوري بورتنوي” و”زوزانا سولاكيفيتش” (2024)، واشتركت قناة الجزيرة الوثائقية في إنتاجه.
يكشف الفيلم عبر زمنه تفاصيل تُعين المشاهد على فهم الظروف العامة المحيطة بشخصياته، فالعائلة البولندية من العوائل الرحيمة القليلة التي لم تتوقف عن مساعدة اللاجئين، ممن وصلوا إلى بولندا عبر روسيا البيضاء، ولهذا السبب سمحت العائلة للاجئ السوري أن يبقى معها، مع أن هذا ربما يعرضها لمعاقبة القانون المشدد في البلد.
لعبة سياسية تنتج مقبرة على الحدود
يفتتح الفيلم زمنه بمعلومات ظهرت على الشاشة عن الظروف التي أنتجت أزمة اللاجئين في بولندا عام 2021. وتخبرنا هذه المعلومات بتوقيع اتفاق سياسي بين روسيا وروسيا البيضاء للضغط على أوروبا.
أدى ذلك لتدفق آلاف اللاجئين إلى روسيا البيضاء، التي سمحت لهم بعبور الحدود إلى بولندا، وفي المقابل قررت بولندا إنشاء منطقة عازلة على الحدود مع روسيا البيضاء، انتشر فيها الجيش البولندي، لإرجاع اللاجئين إلى روسيا البيضاء.
تعيش عائلة الفيلم في المنطقة العازلة، وقد اختارت -مع مجموعة قليلة من البولنديين- أن لا تقف متفرجة على ما يحصل من انتهاكات وقسوة بحق اللاجئين، بل تساعد هؤلاء التعساء الذين يصلون منهكين إليها، خائفين من قسوة الشرطة على طرفي الحدود.

أصبحت قضية اللاجئين تشغل سكان المنطقة العازلة، ومنهم عائلة الفيلم، لا سيما بعد منع السلطات دخول الإعلام والمنظمات الإنسانية إلى المنطقة العازلة التي حددتها.
وقبل أن يصل الفيلم إلى بيت العائلة، يمرّ بمقبرة اللاجئين في المنطقة العازلة، وهي تكبر كل أسبوع بسبب وفيات اللاجئين، كما سنشهد في أوقات لاحقة من الفيلم، عندما يصادف فريق الإنقاذ التطوعي لاجئا ملقى في الغابة الباردة.
كانت الكاميرا تلف حول القبور، وتعرض شواهدها التي يضم كثير منها آيات قرآنية، ثم يخبرنا صوت السرد في الفيلم “قبور المهاجرين في نهاية الطريق”.
“يمكنك البقاء هنا ما شئت”.. تعايش يتحدى الأخطار
عندما يصل الفيلم إلى بيت العائلة، تتبدل مناخاته وتبدأ أجواؤه تعتم قليلا، فقد اختار الفيلم استخدام الإضاءة الطبيعة الموجودة في المنزل، وهي محدودة، كما أن العتمة في هذا الجزء من الفيلم بدت كأنها تصدر الأزمة، التي تعيشها العائلة البولندية والشاب السوري، الذي كان فزعا ومهموما.

لم يكن الشاب السوري اللاجئ والعائلة التي تستضيفه يتكلمون اللغة الإنجليزية بما يكفي للتفاهم، فاستعانوا بتطبيقات الترجمة على الهواتف، وأحيانا بمترجمة عربية محترفة اتصلوا بها هاتفيا. غياب وسائل التواصل بين السوري والعائلة يتحول إلى أمثولة للتواصل الصعب اليوم، بين ثقافات تجد نفسها في مواجهة بعضها أحيانا.
يتنوع التصوير في المشاهد الداخلية، فأحيانا تقترب كثيرا من وجه الشاب السوري في لقطات مكبرة كثيرا، فتتعمق في وجهه وشعره ولحيته التي لم ترتب، وهناك لقطات متوسطة أبرزت المشهد العام، والوحدة التي كان يعيشها في وسط العائلة.
كما كانت الكاميرا تتوجه دوريا إلى العائلة البولندية الطيبة، فتتابع الأم والأب والابن الشاب في حياتهم اليومية، وهم يتحدون أخطار العقوبات القانونية، بعد أن قرروا أن لا يتخلوا عن ضيفهم مهما كان الثمن.

يتحدث الشاب السوري بإنجليزية ضعيفة مع العائلة البولندية وهي تتجمع من حوله، فيقول: إذا بقيت هنا، فربما أسبب مشاكل لكم ولنفسي.
فترد العائلة عن طريق تطبيقات الترجمة الهاتفية: يمكنك البقاء هنا ما شئت.
لم يسبب بقاء الشاب السوري مشاكل ولا مواجهات مع العائلة، بل بدوا في صف واحد، وغايتهم واحدة، ألا وهي الخروج من المأزق الذي وجد الشاب السوري نفسه فيه.
الخروج إلى الغابة
لم تكن عائلة الفيلم عائلة عادية، بل هي عائلة لم تقبل الصور النمطية عن الغريب، التي بدأت تنتشر في البلد، فنرى الأم في مشهد مبكر من الفيلم تتحدى إشاعات عن اغتصاب بعض اللاجئين فتيات من المنطقة العازلة.
كما وسعت العائلة نشاطها في مساعدة اللاجئين، فيخرج أفرادها مع حفنة من المتطوعين للبحث عن اللاجئين ومساعدتهم، وفي مشاهد لافتة صورها الفيلم وهي تخرج إلى الغابة للبحث عن لاجئين لمساعدتهم، وقد بدت الغابة جميلة وبريئة، لكنها شهدت نهاية كثير من اللاجئين، بسبب قسوة الشتاء هناك، بعد أن تقطعت بهم الطرق.

بينما كان الأب يسوق سيارته، بدا على مد النظر رجل كان يمشي وحده في الغابة، فقال: هل هذا لاجئ؟
وفي مشهد آخر مؤثر كثيرا، كانت العائلة تضع قناني ماء وأكلا معلبا في أمكنة من الغابة، على أمل أن يجدها مهاجرون غير شرعيين، وتجد الأم بعض ما تركته من أمتعة لم يكتشفها اللاجئون، فتقول بحزن: لم يصل أحد إلى الماء والأكل هنا.
تبرز المشاهد الخارجية حساسيات كبيرة في التصوير، لفتت انتباه مهرجان إدفا السينمائي، فمُنح الفيلم جائزة التصوير الأفضل. يبرز الفيلم تفاصيل مكانية مفاجئة بجمالها البكر في الغابة، وفي المحيط المحدود الذي كانت تعيش فيه العائلة.

ومن ذلك المشاهد التي تصور الغابة في الصباح الباكر، عندما كان الضباب يغطي الأجواء، والمشاهد التي تكتشف جمال الغابة، وهو جمال يخبئ أيضا قسوة كبيرة، لمن يصلون إليها بدون أمتعة أو تخطيط.
“كان مبللا ومرعوبا”.. غموض حول الشاب السوري
اختار الفيلم أن لا يغوص في تفاصيل كثيرة في قصة الشاب السوري، ربما للاعتبارات الأمنية والخوف على سلامته، ومع ذلك يحاول الفيلم رسم بورتريه عن شخصيته، عبر التفاصيل التي يقول عن نفسه، بلغته الإنجليزية الركيكة، وأحيانا بمكالمات هاتفية مع أهله وأصدقائه، نسمعها في الفيلم.
يتذكر الشاب السوري حياته في دمشق، التي تركها بحثا مستقبل أفضل، ثم يحدث والد العائلة وهو يريه خريطة في هاتفه، فيقول: هذه مدينتي، كانت عندي قطة صغيرة. أريد جوازا أجنبيا يسمح لي بالسفر إلى أي مكان أريده.

لا يبدو أن هناك قصة أو مأساة كبيرة وراء قرار الشاب بالسفر، لكن رغبته في الحرية بدت مفهومة ومبررة، ويستعيد الفيلم لحظات وصوله إلى بيت العائلة البولندية، فتقول الأم: كان مبللا تماما ومرعوبا.
وقد عرض المحتويات التي كانت لديه عندما عبر الغابة، ومنها مقص لقص الأسلاك الشائكة، التي يمكن أن تصادفه.
تفتح المكالمات الهاتفية مع الشاب السوري نافذة أخرى على حياته، لكنها محدودة، فأخته في سوريا تشجعه على المضي قدما في رحلته وعدم اليأس، ونرى في مكالماته مع أصدقاء كانوا معه في الرحلة أنه ذو شخصية قوية، فقد كان عازما أن يكمل رحلته، ويحاول من مكانه في بيت العائلة البولندية أن يشجع زملاء له على أن يكملوا رحلاتهم.
نهاية مفتوحة في فيلم متميز
ينجح المخرجان في إنجاز فيلم كاشف وآنيّ، مع صعوبة الظروف التي صوّر فيها، من جهة الوقت المتاح للتصوير ومتابعة الشخصية، وأيضا بسبب الأخطار التي كانت تحيط بالتصوير، لا سيما أن السلطات كانت تمنع دخول الإعلام إلى المنطقة العازلة، التي أنشأتها على حدودها مع روسيا البيضاء.

ومع أن كثيرا من خيوط الفيلم بقيت مفتوحة، ومنها مصير الشاب نفسه، وما حدث للعائلة بعد مغادرة الشاب، فإن الفيلم يحفل بالتفاصيل العاطفية المهمة، وذلك ما يميزه عن أفلام اللاجئين، التي تنتج بكثافة منذ سنوات في عدة دول غربية، ومنها ما يصل إلى المهرجانات السينمائية.
يرتفع فيلم “الضيف”، عن مجموعة الأفلام التي تصور رحلات اللاجئين إلى أوروبا، فيغوص في الأزمة الكبيرة التي تمثلها قضيتهم من دون حوارات طويلة، ويمر بحساسية على ردود فعل أناس وجدوا أنفسهم في مواقف ضبابية لم يعتادوا عليها، وتحاول مع ذلك أن تجد طريقها في كل ذلك، من دون أن تتخلى عن إنسانيتها.