“جواد سليم وسمفونية البرونز”.. قصة بناء نصب الحرية الذي أربكته صورة الزعيم

ينضوي فيلم “جواد سليم وسمفونية البرونز” تحت تصنيف “الدكيودراما”، أي إعادة تمثيل الأحداث مع الالتزام بالحقائق التاريخية، والسماح بدرجة من الحرية الدرامية في التفاصيل الهامشية، عند وجود فجوات في السجل التاريخي.
وقد لجأت المخرجة الدؤوبة إيمان خضير لهذا المعادل البصري، لكي تتغلب على فقدان الوثيقة التاريخية، وغياب الأشخاص الأساسيين الذين شاركوا في إنجاز هذه التحفة الفنية، الماثلة منذ ستة عقود ونصف تقريبا.
ما يميز هذا الفيلم الوثائقي أنه يُروى من وجهة نظر المهندس المعماري رفعة الجادرجي، وكانت تربطه صداقة حميمية بالفنان جواد سليم، كما كان شخصية مقرّبة من الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم، ولولاه لما وجد هذا النُّصب طريقه إلى حيز التنفيذ.
استندت المخرجة إلى 16 تعليقا صوتيا، أغلبها من رفعة الجاردجي، وعرض 3 تعليقات فقط من الزعيم عبد الكريم قاسم، وجواد سليم نفسه، وزوجته لورنا، ومع أنها تعليقات ذات دور مهم في الفيلم، فإن القصة السينمائية كانت تتكئ كثيرا على طروحات رفعة الجادرجي ورؤاه الفنية والجمالية.

جواد سليم.. رائد التحرر المرشح لبناء النصب
تتناول هذه الدراما الوثائقية بكثير من التركيز والمعلومات الدقيقة انهيار الفنان جواد سليم، واضطراره للدخول إلى مستشفى الأمراض النفسية في روما، بسبب هذا النصب وتداعياته، التي تتعلق بوضع صورة الزعيم في أعلى الجدارية. وهي فكرة لم يكن يحبها جواد، ولا يريدها أن تجد طريقها إلى أرض الواقع.
لم يتردد الجادرجي في ترشيح صديقه الفنان جواد سليم، لأنه يراه أحد رواد التحرر والانفتاح، ممن درسوا في الخارج مع نخبة من المثقفين العراقيين. وقد شرح له فكرة النصب، وأنه سيثبت على لافتة عرضها 50 مترا وارتفاعها 10 أمتار، وترتفع عن الأرض 6 أمتار.
ويقسم النصب إلى ثلاثة أقسام؛ ترمز إلى ما قبل الثورة، ويوم الثورة، وما بعدها، بشرط أن يركز يوم الثورة على دور الجيش العراقي الباسل.

وقد اقترح عليه أن يُقرأ النصب من اليمين إلى اليسار كما نقرأ اللغة العربية، وطلب منه إكمال المخطط الأوّلي خلال 3 أيام لا غير، لأنهم يريدون الاحتفال بمرور سنة على قيام ثورة تموز المجيدة.
مدرسة تحرير الفن من التقاليد التاريخية والرمزية
توقفت المخرجة عند التحول الأول في حياة جواد سليم الفنية عام 1943، عندما التقى عددا من الفنانين البولنديين والبريطانيين المجندين في الحرب، ممن لجؤوا إلى العراق، ومنهم “جوزيف تشابسكي” و”كينيث وود”، وهما من رواد التيار التلويني، الذين نبهوا إلى قيمة اللون وإمكانيته الهائلة.
وقد أسس “جوزيف تشابسكي” مع زملائه جماعة أسموها “لجنة باريس”، تدعو إلى تخليص الفن من التقاليد التاريخية والرمزية، وتتحاشى التأثيرات الأدبية، وكان ذلك فتحا جديدا للرسامين البغداديين الشباب.

تتتبع المخرجة رحلة جواد سليم إلى مدينة فلورنسا، ولم تكن جديدة عليه، فقد درس في أكاديمية روما للفنون، على يد النحات “أنجيلو زينلي”، ولكنه لم يكمل السنة حتى دخلت إيطاليا ساحة الحرب العالمية الثانية.
وقبلها سافر إلى باريس، ولم يكمل أيضا إلا سنة واحدة، وقد شكلت هذه العودة معرفة إضافية، من خلال الجولات في المتاحف والتعرف على الحركة الفنية في بلد يعج بالفنون. إنها مدينة ساحرة يكمن الفن في كل منعطفاتها، كما وصفتها زوجته “لورنا”، التي رافقته مع ابنتيه للفردوس.

سكن جواد مع عائلته في حي جادة الفنانين، أما صب المنحوتات فكان في بلدة بستويا، وهي قريبة من فلورنسا، وتشتهر بعمل البرونز، ثم لحق به اثنان من طلابه لمساعدته، هما محمد غني حكمت، وصادق ربيع، وكانا يدرسان هناك.
مزج الفنون العتيقة والحديثة.. روافد الإبداع
استفاد جواد من عمله في ترميم اللقى الأثرية والجداريات بالمتحف العراقي، وقد أدرك عمق المهمة التي تنتظره في هذا المعبد الإبداعي، لفناني بلاد ما بين النهرين الأوائل.
وقد سعى بوعي إلى اكتشاف إمكانيات الجمع بين الزخارف القديمة والفن التجريدي الحديث، الذي تعرف عليه في أوروبا، فاستوحى منها ينابيع إلهام متجدد، وحاول التوفيق بين الاثنين. كما سعى إلى كسر القاعدة السائدة، لتغيير النظرة الدونية إلينا، وإنتاج ثقافة فنية توازي الآخر، وتكون ندا لها.
تتوقف المخرجة عند ولادة جواد عام 1918 بأنقرة، وقد شكلت تلك المدينة مخزونه الفني والمعرفي، إضافة لتأثيرات والده الرسام وبقية أخوته الفنانين أمثال سعاد ونزيهة.
لقد أدرك الجادرجي بأن جواد سليم قد رفض الثقافة الملفقة، ودعا إلى ثقافة أصيلة، لا تنقطع عن الجذور، ولا تغلق بابها على الجديد في الفكر المتنور.

وقد ساعده في دراسته بإنكلترا عام 1946، عندما أرسِل في بعثة حكومية لدراسة فن النحت في معهد “سلَيد” للفنون، وتعرف هناك على “هنري مور”، الذي تأثر بالنحت الفرعوني والآشوري، فكان معلما روحيا ألهمه كثيرا في تصميم نصب الحرية، فخرجت منحوتاته نقية متعافية.
ويقول الجادرجي إن المصادر الثلاثة التي استفاد منها جواد سليم في تجربته الفنية؛ هي الفن العراقي القديم، والفن الإسلامي، والفن الحديث، وقد شكل منظومته الجمالية وقاموسه اللوني وخطوطه، مضيفا إليها حسه الشعبي.
نصب الحرية.. جمالية تكمن في الموقع والهوية الوطنية
اختارت المخرجة 4 نقاد، قدموا تصوراتهم عن نصب الحرية، أولهم ياسين النصير الذي يرى أن جمالية النصب تكمن في موقعه الفني بساحة التحرير وسط بغداد.
وتوقف عند سمة السجين السياسي، وقال إنها عامة في هذا النصب، وليست مقتصرة على اتجاه فكري محدد. كما أشار إلى العناصر الثلاثة التي تؤسس الهوية الوطنية؛ وهي الموروث، والعنصر التاريخي، والوظيفة الجمالية.

لم يسهب النحات صادق ربيع -وهو أحد تلامذة جواد- في الحديث عن تجربة عمله في تكبير مصغرات جواد سليم، وقد اكتفى بالقول إنه عمل مع صديقه محمد غني حكمت، بعد أن وافق أستاذه على هذا العمل، بوصفه ممارسة للدراسة النحتية.
يرى الناقد الفني جمال العتابي أن جواد سليم ورفعة الجادرجي ينتميان إلى بيئة ثقافية واحدة، فكلاهما تخرج في المعاهد الإنجليزية، ومع أن اختصاص رفعة الجادرجي هو الهندسة المعمارية، فإنه كان مهندسا معماريا فنانا ومثقفا.
الانتقال من المحلية إلى الحداثة بأفقها الغربي.
يرى الناقد الموسيقي علي عبد الأمير، أن العنصر المحلي في حياة جواد وجوديا وثقافيا هو بغداد، وهنا صار لزاما عليه، لكي يربط هذا الفهم الذي تلقاه في أوروبا، عن كيفية الانتقال من المحلية إلى الحداثة بأفقها الغربي.

لم يذكر الزعيم عبد الكريم قاسم اسم جواد سليم في لحظة افتتاح النصب، واكتفى بالقول: إن هذا النصب من تصميم المهندسين العراقيين بالذات. إننا نفخر بهم، ونعتز بجهودهم، وسوف تبقى جهودهم رمزا للكفاح، ما دام نصب الحرية قائما في هذه البلاد.
بدأ اللغط وطفت الاعتراضات التي تتساءل: لماذا قطع جواد أرجل الصبي؟ ولماذا تحمل المرأة مشعل الثورة والحرية بدلا من الرجل؟ وأهم من ذلك الدسائس التي حاكها تلميذه خالد الرحال، بضرورة وضع صورة للزعيم في النصب، تخليدا له ولمنجزاته الكثيرة في البلد.
“صار يشك بكل من حوله”.. أيام المستشفى النفسي
حين تدهورت حالة جواد الصحية، نُقل لمستشفى الأمراض النفسية في روما للعلاج، وقالت زوجته لورنا: لم أعد أميز بين ما هو حقيقي من مخاوفه، وما هو مجرد أوهام، فقد صار جواد يشك بكل من حوله، وكان يرى أن هناك من يراقبه، أو يريد أن يغتاله، أو ربما يتآمر عليه لمنعه من إنجاز العمل.

فهل كانت دسائس خالد الرحال السبب الوحيد، أم أن أناسا آخرين كانوا يحرضون الزعيم على وضع صورته في قرص الشمس بأعلى منتصف الجدارية؟
يقول الجادرجي إن جواد طلب من السفارة العراقية في روما أن تتدخل، لكي يغادر المستشفى ويكمل النصب، لكن المستشفيات الإيطالية كانت تمنع خروج المرضى من مصحات العلاج النفسي، قبل مرور 3 أشهر على دخولهم، إلا على مسؤولية أهله.
لهفة فتح الصناديق
انتحل الجادرجي صفة مبعوث من رئيس الوزراء، ووقّع على تعهد خطي، يتحمل فيه مسؤولية إخراجه جواد من المستشفى، وقد حاول أن يهدئ قلق جواد ومخاوفه، فأسرّ له بأن الزعيم لم يبلغه رسميا بوضع صورته الشخصية في قرص الشمس، فشعر بالراحة والاسترخاء.

يصف الجادرجي بكثير من الحميمية وصول المنحوتات في صناديق خشبية إلى بغداد، وقد فُتحت بلهفة لا توصف، وكان الجميع فرحين، والعمل يسير بوتيرة عالية وحماس كبير.
لكن نوبة قلبية مفاجئة ضربت جواد سليم، ونقل إلى المستشفى الجمهوري، حتى فارق الحياة بعد أيام، وشُيع في معهد الفنون الجميلة، وأغلقت أبواب المعهد 3 أيام حدادا عليه، ثم أودع جثمانه في مقبرة الأعظمية.
يوم افتتاح النصب وغياب الصورة للأبد
تروي لورنا قصة حبها لجواد سليم وحياتها ببغداد، المدينة التي أحبتها وتماهت فيها، وقد أشادت بعائلة جواد الطيبة التي عاشت عيشة الكفاف، فالفقر لم يكن عائقا أمام الحب والآمال الكبيرة وفورة الشباب.

تفادى الجادرجي حضور حفل افتتاح النصب، لكيلا يسأل عن صورة الزعيم، لا سيما وقد طلب من فاضل البياتي -وهو المدير العام للإسكان- أن يكون رئيس اللجنة بدلا منه، ويواجه المسؤولين الذين قد يسألونه عن أمر الصورة.
علما بأن دسائس خالد الرحال ظلت متواصلة إلى أن منعه الجادرجي، بحجة أن العمل حكومي وسري، فنسي الجميع حكاية الصورة، وطواها النسيان إلى الأبد.
إيمان خضير.. أعمال محملة بعبق الثقافة الشعبية
تقسم المخرجة إيمان خضير منحوتات الجدارية إلى 4 أقسام، خلافا لما اعتدنا عليه من تقسيمات ثلاثة، تمثل مرحلة ما قبل الثورة، ويوم الثورة، وما بعدها، وهي في المجمل تروي قصة نضال الشعب العراقي، منذ أقدم العصور وحتى الوقت الحاضر، لنيل الحرية والاستقلال، وتحقيق العيش الكريم للأمة العراقية ذات الأعراق والديانات والمذاهب المتعددة المتآخية منذ آلاف السنين.
جدير بالذكر أن إيمان خضير قد أنجزت حتى الآن 9 أفلام، منها:
- أنيس الصائغ.. حارس الذاكرة الفلسطينية.
- تاريخ طوابع فلسطين.
- الملك فيصل الأول.
- عاملات الطابوق.
وهي تضع الآن اللمسات الأخيرة على فيلمها “جدارية المطر”.