“فتيان النيكل”.. فيلم ينبش جرح العنصرية الغائر في أمريكا

أغلقت مدرسة “أرثر دوزير” الإصلاحية في فلوريدا أبوابها إلى الأبد، بعد أن ظلت سنوات كثيرة تقدم خدمات الدعم التأهيلي للأطفال والمراهقين. هذا ما تداولته وكالات الأنباء الأمريكية، على خلفية قرار الإغلاق الدائم لتلك المؤسسة عام 2011.
قد يبدو خبرا مقتضب الصياغة، لكنه يحوي في إطاره المختصر تساؤلات عدة عن الأسباب الكامنة وراء هذا القرار، وقد تدفقت التقارير والصور الإخبارية فيما بعد، مفصحة عما كان يدور خلف تلك الأسوار من انتهاكات منظمة، لا تفرق بين الطفل واليافع، فالمساواة في التعذيب عدل، أو هكذا كان يظن القائمون على أمر تلك الإصلاحية.
ومن هذا الخيط الشائك، ينسج المخرج الأمريكي “راميل روس” أحداث أول أفلامه الروائية الطويلة “فتيان النيكل” (Nickel Boys)، وقد أُنتج عام 2024، ورُشح لجائزتي أوسكار؛ عن فئتي أفضل فيلم، وأفضل سيناريو مقتبس.
وكان المخرج قد اشترك في كتابة السيناريو مع الكاتبة “جوسلين بارنز”، وهو مأخوذ عن رواية بالاسم ذاته للكاتب “كولسون وايتهيد”، نالت جائزة “البولتيزر” عام 2020.
تدور أحداث الفيلم حول الفتى الأسود “إلوود” (الممثل إيثان هيرسي)، الذي يحتجز في أكاديمية “نيكل”، بعد أن سقط ضحية لبعض التعسفات القضائية، وهناك يلتقي بالشاب “تيرنر” (الممثل براندون ويلسون)، فيرتبطان بأواصر صداقة ممتدة، تعين كلا منهما على مواجهة بؤس حياتهما.
قد تبدو القصة عادية ومكررة المحتوى، لا سيما إن وُضعت في إطار التكالب المجاني، على استهلاك كل ما يتعلق بإعادة تدوير قضايا العنصرية الأمريكية ضد ذوي البشرة الملونة.

لكن الحقيقة تعكس رؤية مشابهة ومتباينة مع المألوف في نفس الآن، فنحن أمام سردية تسعى قدر المستطاع لرصد مخالفات العنصرية في إحدى المدارس الحكومية، لكن بين سطور هذا الطرح المباشر نظرة أعمق، نحو ثنائية التعافي من التأثيرات المحتملة للماضي، والسعي لإكمال مصفوفة الحرية الشخصية، التي لا يكتمل تحقيقها إلا بتحرير الداخل الإنساني من شوائب الماضي العالقة به.
هذا ما يبدو مضمون الفيلم معنيا بالتعبير عنه، ولا يختلف كثيرا عن سابقة أعمال المخرج، الذي تناولت أعماله الوثائقية قضايا العنصرية، فنحن أمام مخرج مشحون بالأفكار والرؤى، ويتقن جيدا التعبير عما يؤرقه من هموم، مما يضفي أصالة وصدق على المعالجة والتناول.
فهل نجح المنتج الفيلمي في تحري الصدق الفني في سرديته؟
دفء العلاقة العاطفية مع الجدة.. مقدمة السرد
تكمن أولى عناصر الإجابة في اختيار مقاس الصورة السينمائية (Aspect Ratio)، فقد جاءت بنسبة 1:33:1، وهي تختلف عن نمط الصورة المعتاد، فتبدو أضلاع الإطار البصري الأربعة متقاربة المساحات، معبرة في جوهرها عن واقعية الأحداث المعروضة بين إطارات الشاشة.
أما العنصر المقابل من الإجابة، فيقع بين حدود السرد التجريبي المبتكر، وهو يروي وقائع الذكريات السابقة من زاوية منظور الشخص الأول، وهي مستوحاة من ألعاب الحاسوب، التي لا تظهر فيها هيئة البطل المتكلم، بل تصبح عينه الكاميرا التي نرى بحدقتها المتسعة تفاعلات الأحداث، وما يقابلها من ردود أفعال.

وبناء على تلك المعادلات التقنية، يبدأ الحكي بتتابعات مشهدية، يطالعنا فيها الطفل “إلوود” مستلقيا على أرض حديقة منزل جدته التي يعيش معها، ثم تتوالى المشاهد الكاشفة لعمق العلاقة بينهما، فكل منهما متعلق بالآخر متشبث به.
وهكذا تتدفق الدقائق الأولى من الرقعة السردية البالغة نحو 140 دقيقة، إلى أن نصل معا لبلوغ “إلوود” عامه السابع عشر.
كسر المبادئ التقليدية في البناء الدرامي
جعل السيناريو الأحداث تدور اعتمادا على مبدأ الرواة المتعددين، أو -بمعنى أكثر رحابة- الانتقال الميسر بين أكثر من زاوية سردية، والبداية مع “إلوود”، ثم الانتقال السلمي إلى صديقه “تيرنر”، ثم العودة إلى الصوت الأول، وهكذا في دائرة محكمة الصياغة، وإن كانت الغلبة لرؤية “إلوود”، فهو الذي بيده ناصية الحكاية، ويمسك بخيوطها المتسعة.
لا تتكئ تلك الخيوط على وحدة زمنية واحدة، بل تباينت أزمنتها، وانصهرت في بوتقة سردية واحدة، قوامها الكشف عن تداعيات الماضي وذكرياته، ومن ثم فلم يلتزم السرد بإطار زمني ثابت، بل تنوع الزمن بين الفعل الماضي بتدرجاته الزمنية، والفعل المضارع الحاضر. وهكذا في سرد متعرج حداثي الهيئة والقوام الشكلي.

لذلك فلا يمكن القول إنه يلتزم بالمبادئ التقليدية في البناء الدرامي، لكن الاستعانة بهذا النمط الحداثي من المعمار الفني، لا بد أن توازيه أسلوبية أكثر تطورا وتطويعا مع السياقات الزمنية والسردية المتشعبة.
وهذا ما يقدم عليه السيناريو، فلا تتوقف معالمه الحداثية على التواءات مسار الحكي وتعرجاته الزمنية، بل يلجأ كذلك إلى تطعيم البنيان الدرامي، بالمقاطع الوثائقية الأرشيفية عن العنصرية، أو إضافة مشاهد من أفلام السينما العالمية العتيقة، بين كل مشهد وآخر، بما يدعم ويبلور قصدية المعنى، الكامنة وراء تسلسل المشاهد، ويجعل هوية الفيلم تمزج في ثناياها بين الروائي والوثائقي، دون أن ينجرف أحدهما على حساب الآخر.
مناخ الكراهية والكفاح في الستينيات
لا يكشف الفيلم تاريخ الأحداث طواعية، بل يضيف بعض التوابل التاريخية، التي تدور سياقاتها في الخلفية الدرامية، ومن ثم يمكن استنباط زمن السرد، فنرى في بعض المشاهد خطابات الناشط الحقوقي “مارتن لوثر كينغ”، أو تظهر بعد بعض التتابعات مقاطع وثائقية عن القمر الصناعي “أبولو”، وغيرها من الإشارات التي تدل جميعا على حقبة الستينيات، التي يصفها المؤرخون بأنها أكثر عقود القرن العشرين اشتعالا.

فالنداءات المكررة بالمساواة بين البيض والسود، وما يرافقها من دعوات للتظاهر أو الاعتصامات المدنية، ضد قهر السلطة لحقوق الأقليات، يجعل البيئة العامة للأحداث أقرب إلى الثورية، لكنها ثورية مدججة بالكراهية وعدم قبول الآخر.
فهمسات أحاديث الجدة الجانبية، دوما ما تبث تحذيرات غامضة من الرجل الأبيض، وفي المدرسة الثانوية يردد المعلم شعارات مناهضة لسطوة العرق الأوحد.
وهكذا يقدم الفيلم عالمه الذي لا يخلو من كابوسية، دعمت أركانها وصول “إلوود” إلى إصلاحية “نيكل”، فقد اعتُقل خطأ على إثر تلبيته دعوة لص سيارات محترف، لتوصيله إلى جامعته في أول أيام انتظام الدراسة.
تفضيل “العرق الأنقى” على سائر الأعراق
يبدو السعي نحو تحقيق مستقبل أفضل محفوفا بالحصار، وهنا تتضافر العوامل السالفة الذكر في تقديم أجواء السرد، وتدعم التعبير عن المضمون الرئيسي للفيلم، والمعني في المقام الأول، بإزاحة الستار عن المستور من أفعال العنصرية في المجتمع الأمريكي.
تتجلى معالم تلك العنصرية بوضوح داخل الأكاديمية الإصلاحية، بداية من التفرقة بين البيض “ذوي العرق الأنقى”، وبين الأعراق الأخرى ذوات الأصول الأفريقية، أو المنتمين إلى الجذور المكسيكية.

لا يتوقف الأمر عند الحدود الجغرافية بين الفريقين، بل يمتد إلى ترسيخ سطوة الجنس الأبيض على سائر الألوان، كما نرى في مشهد الاحتفال الرياضي السنوي في الأكاديمية، فيجب أن يقتنص النصر فيها أحد السجناء البيض.
ثم يصبح اليوم معيارا للسخرية الدائمة من انسحاق اللون الأسود، وتهاونه أمام بريق الأبيض وقوته المزعومة، وإذا خالف أحد تلك التعليمات، يوضع تحت مقصلة العقاب، التي قد تبلغ درجة الإقصاء التام أو القتل العمد.
تُرى كيف تستقيم الحياة في ظلال تلك الأوضاع، التي أقل ما توصف به هو المأساوية؟
مقاومة طغيان الذكريات الظالمة
تكمن الإجابة بين طيات النسيج السردي، فهو ينتقل بأريحية بين الماضي بكل ثقل أحداثه، والحاضر المسموم بإرهاصات الزمن السابق، فنرى “إلوود” بعد أن هرب من الإصلاحية، وتوالت مسارات حياته نحو الأفضل، ولا تزال تداعيات ماضيه تلاحقه، ليصبح أداة فعالة وناشطة في البحث والتنقيب عن تاريخ هذا المكان، الذي ستفوح رائحة جرائمه فيما بعد، بعد اكتشاف عدد من المقابر المجهولة، يضم ترابها رفات محتجزين من السود.
وهنا يمكن القول إن التذكر والتشبث بسوداوية الذكرى، يعد مقاومة، يواجه البطل بها طغيان الماضي، فالمعتاد أن تواجه الشخصيات ماضيها الملبد بالتعقيدات بمحاولات التناسي، والابتعاد الصارم عن كل ما يمت بصلة -وإن واهية- لهذا الزمن.
لكن الوضع هنا مغاير، فالمواجهة مع هذا الماضي ليست بدافع البحث عن صيغة مصالحة تجاهه، بل للاقتصاص والانتقام منه، ويشكل ذلك اللبنة الرئيسية لمقومات الصراع الدرامي.

يبدو الصراع إذن مزدوج الطبقات، فالطبقة الأولى -الأشبه بالقشرة- تدور في إناء معاناة البطل داخل الإصلاحية، من أجل نزع سوار العبودية عن عنقه، أما الطبقة المبطنة فتطرح تساؤلات أكثر اشتباكا عن الماضي ودوران الزمن وتعاقبه، وأيهما يكفل الآخر ويطمس وجوده.
وبذلك يمكننا الوصول إلى مفتاح فهم الفيلم، الذي يدور حول ثنائية الزمن والذاكرة، فالحقيقة أن بعض الذكريات أشبه بالجرائم، لا تسقط تأثيراتها بالتقادم ومرور الوقت.
فكلما ازداد تدفق عمر “إلوود”، ازدادت رغبته في تحقيق قدر -ولو يسير- من العدالة المفقودة، لا لذاته ولا لهؤلاء الضحايا، بقدر ما هي محاولة لإعادة سطوع ضوء الاهتمام المنطفئ نحو تلك الحقبة، بكل تقلباتها الجدلية.
رفيقا الإصلاحية.. تناوب على توزيع كعكة السرد
بعد احتجاز “إلوود” في الإصلاحية، يلتقي بالشاب “تيرنر”، فتتحول دفة السرد تلقائيا إلى الزاوية المقابلة، فنرى الأحداث بعين “تيرنر”، وهكذا يتناوبان على رواية ما جرى، وإن كان الميزان السردي يرجح كفة “إلوود”، فمفتتح الحكي ينطلق من عنده، وينتهي كذلك من زاويته هو، وهنا يصبح السؤال عن ماهية دور “تيرنر” صائبا وفي محله تماما.
يقوم البناء العام على خط درامي وحيد، وهو مغامرة “إلوود” القدرية في أكاديمية “نيكل”، لكن هذا الخط ينشأ من رحمه الممتد فرع آخر، يتمثل في شخصية “تيرنر” التي تتسع بإضافتها زاوية الرؤية تلقائيا، فكل راوٍ منهما يشكل عينا ترى وترصد وتسجل وقائع الأحداث من منظورها الشخصي.

يضيف هذا الأمر شيئا جديدا على السياق العام، ويسمح بقراءة أوسع وأشمل للدراما، ويشكل إضافة مبتكرة على السرد السينمائي، الذي يستعير هذا النمط من النصوص الأدبية، ويحيلها بمهارة فائقة إلى النسيج الفيلمي، الذي تتسع قماشته للتجريب والتحديث.
يرسم السيناريو شخصية “إلوود” محملة بالغضب الداخلي، الذي لا ينفجر ولا تبزغ بوادره إلا في لحظات نادرة، تقع جميعها تحت طائلة المساعدة وإمداد العون، وهكذا نجده يندفع للاشتراك في الاعتصام المدرسي المندد بانتهاكات الرجل الأبيض.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، بل إنه يواجه قهر مسؤولي الإصلاحية، بمحاولة كشف ستر ما يدور في الداخل، عبر تدوينه لكل ما يدور، لتصبح الشخصية -على هدوئها الظاهري- فائضة بالشجاعة والفروسية المستترة.
الهروب من الشرنقة
تتوالى أيام الرفيقين بداخل الإصلاحية، ولا تبدو لخطها الممتد نهاية وشيكة، لكن المصادفات القدرية التي أوصلت بطلنا لهذا المكان، تدفعه للمغادرة هربا، وتتدفق المشاهد لاهثة الإيقاع، فيكشف محتواها مراحل هروب الصديقين من هذا الضيق الخانق إلى رحاب العالم الواسع، مثلما انطلق الشاعر الإيطالي “دانتي أليغييري” في رحلته الطويلة من الجحيم إلى الفردوس، كذلك رحلة “إلوود” في عودته إلى منزل الجدة.
ولأن هيكل الفيلم، يجنح لخلق أسلوبية جديدة في التعبير، فقد جاء السياق البصري وما يقابله من لغة سينمائية ذا قدر كبير من التجديد، بدءا من اختيار زوايا التصوير، وحركات الكاميرا التي تخلق إيقاعا هادئا متمهلا، ينم عن قصدية واضحة، لإمداد الحالة الشعورية للمتفرج بما تعانيه الشخصيات، وكل ذلك بفضل مدير التصوير المخضرم “جومو فراي”.

وفي المقابل طعّم البناء العام بحس شاعري رفيع، أضفى حساسية وعذوبة على التلقي، حاولت قدر المستطاع تخفيف وطأة الفكرة، بما يجعل شكل الفيلم ومضمونه متناسقين، فبدا الفيلم -بناء على ما سبق من توليفات فنية- أحد أفضل إنتاجات العام، وسيحظى برصيد مقبول وكافٍ للبقاء في ذاكرة السينما العالمية.
رُشح الفيلم لكثير من الجوائر في عدة مهرجانات، أهمها إحرازه جائزة أفضل إخراج في مهرجان ستوكهولم السينمائي، وجاء في حيثيات فوزه الوصف بأنه “فيلم بارع ومؤثر، يغمرنا في رحلة الشخصية المروعة، إلى التاريخ المظلم للعنصرية والفصل العنصري في الولايات المتحدة، الذي يتردد صداه بعمق، ويربط الماضي بالحاضر”.
وبطلنا يسعى بإخلاص إلى التحرر من قيود الماضي، التي ما تزال -على مر السنين- تلقي ظلالها الدنسة على أطياف الحاضر.
وبعض الذكريات كالأنهار، تتدفق مياه آلامها بلا نهاية.