قرية بتّير الفلسطينية.. سلة القدس العريقة تتحدى عنصرية الاحتلال

بدأت قصة المخرج البلجيكي “فرانسوا دوكات” مع قرية بتير الفلسطينية عام 2015، عندما زارها ليقدم ورشة سينمائية في المدرسة المتوسطة فيها.
بيد أن تلك الورشة الصغيرة أصبحت مشروعا وثائقيا حميميا، يرافق فيه المخرج شخصيات فلسطينية 7 سنوات طويلة، رافقها في تحولات ومنعطفات كبيرة في حياتها، وكان المشروع الوثائقي شهادة تاريخية وبصرية مهمة عن تلك القرية الفلسطينية، التي تتميز بتاريخها ونضالها السلمي ضد الاحتلال الإسرائيلي.
حمل الفيلم الوثائقي عنوان “أريكة على التل” (A Couch on the Hill)، وقد وزع زمنه بين القصص الذاتية التي يرافقها (إبراهيم وعلاء)، وبين تناول الظروف التاريخية والجغرافية المميزة لقرية بتّير الواقعة في الضفة الغربية.
استطاعت القرية نضال أهلها السلمي محاربة الجدار الإسرائيلي العازل، ومنعه بالطرق القانونية من تقطيع أوصال قريتهم الجميلة، فقد تحدوا الجدار في المحاكم الإسرائيلية، وخاضوا صراعا قضائيا طويلا لمنعه من المرور في قريتهم.

يمرّ الفيلم بمونتاج سريع على بداية علاقة المخرج بأهل القرية، وكانت منحصرة في إطار الورشة السينمائية لأبناء القرية الذين كانوا يدرسون في المدرسة المتوسطة. وتركز تلك المشاهد على الشابين إبراهيم وعلاء، اللذين شاركا في الورشة.
ولا نعرف على وجه التحديد ما جذب المخرج للبقاء في القرية، ومواصلة تتبع مصائر أبنائها، وحتى بعد سفرهم إلى وجهات شتى خارج فلسطين للدراسة.
سلة القدس.. تاريخ عريق يتجاوز عمره ألف عام
توصف قرية بتّير الفلسطينية بأنها سلة القدس الخضراء، فمن خضارها وفواكهها تأكل القدس وضواحيها، وهي تبعد عن القدس 10 كيلومترات من القدس، وتتميز بنظام سقي معقد يبلغ عمره ما يقارب ألف عام، ويعود إلى العصر الروماني، وفيه يوزع الماء بالعدل بين أبناء القرية، لري محاصيلهم الزراعية.
كما تتميز القرية بأن طريق قطار مهما يمر قريبا منها، وهذا منحها أهمية جغرافية وأمنية، لكنه أصبح تحدّيا دائما لأبناء القرية، للبقاء على استقرار قريتهم، وسط قمع إسرائيلي غير مسبوق.

يتحدث جد إبراهيم وهو شيخ مسن، وُلد عام 1935، وعمل مدرس رياضيات، فيقول: هذه شهادة ميلادي. انظروا، كُتب هنا بالعربية: محل الولادة فلسطين، وبالإنجليزية أيضا.
وهو يشير إلى ما كتب على شهادة ميلاده التي يعتز بها كثيرا، والاعتزاز بالقرية له أسباب عدة، منها ما له علاقة باللقى الأثرية التي وجدت في القرية، وطريقة العيش والري في الزراعة، وهذا ما دفع منظمة اليونسكو لإدراج القرية عام 2014 ضمن قائمة التراث العالمي المهدد.
تقسيم الكعكة الثلاثية.. وضع إداري أفسد اقتصاد القرية
تتحدث عن أهمية القرية فتاة فلسطينية تُدعى براء، وهي تعمل متطوعة في نشر الوعي بتاريخ القرية، وتفسر تعقيد الوضع الأمني بكون القرية تندرج ضمن المنطقة الأمنية الثالثة، وهو تصنيف أمني شُرع بقرار إسرائيلي في عام 1993، ويقضي بتقسيم الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية إلى ثلاثة مناطق، واحدة تخضع للإدارة الفلسطينية، والأخرى ذات إدارة مشتركة، ومنطقة ثالثة تحت الإدارة الأمنية الإسرائيلية.

ولا يسمح للفلسطينيين في المنطقة الثالثة ببناء بنايات جديدة خارج الخط الأخضر، الذي وضعته سلطات الاحتلال، لكن يسمح لهم بالزراعة بعد الخط الأخضر.
وقد سبّب هذا الوضع الجديد تعقيدات كثيرة لسكان القرية، ومنهم والد إبراهيم، فلم يعد يستطيع البناء في قطعة أرضه، وبدلا عن ذلك وضع أريكة تطل على أرضه، وهذه الأريكة التي ألهمت المخرج عنوان فيلمه الوثائقي، ومن على الأريكة سجّل الفيلم حوارات حميمية.
مستقبل أبناء القرية الغامض
في تسجيل قديم، يسأل المخرج علاء وهو ابن 16 عاما: هل ترى مستقبلا لك في بتير؟
وقد أجابه بـ”لا” حازمة، فهو متأكد تماما أن لا مستقبل له في قريته ولا بلده، وأن كثرة العراقيل تجعل حياته هنا صعبة للغاية.
ويشارك إبراهيم صديقه وابن قريته هواجسه، فهو يفكر في ترك القرية أيضا، في البداية للدراسة خارج فلسطين، وربما العودة إليها بعد التخرج.

تتغير خطط الشابين عبر السنوات، فخططهما للدراسة في ألمانيا لقيت عراقيل، وانتهى بهم الحال في تونس وباكستان، فدرس إبراهيم الهندسة في باكستان، وعلاء الطب في تونس. أما خطط الفتاة براء للسفر إلى ألمانيا فقد تعرقلت، وبقيت متطوعة في قريتها بجوار والدتها الطيبة، التي ظهرت في مواضع عدة في الفيلم.
ويعتمد الفيلم على فيديوهات ضعيفة الجودة لحياة إبراهيم وعلاء في أماكنهما الجديدة، لكنه كان في انتظارهما عندما عادا في عطلة دراسية إلى قريتهما.

يسجل الفيلم التطورات الكبيرة على شخصيتهما، فقد نضجا كثيرا في عامين فقط، وتبدلت علاقتهما بقريتهما الأثيرة، فقد اشتاقا لها كثيرا. ويمزح إبراهيم بأنه كان يتابع عدة مرات في اليوم صفحة أخبار القرية على الفيسبوك عندما كان في باكستان، وكان لا يهتم بها أبدا عندما كان يعيش في القرية.
إسرائيل والمخدرات أكبر أعداء القرية
يأخذ الفيلم تحويلة نفسية عندما يقارب مشكلة شباب من القرية مع المخدرات، وتأتي هذه التحويلة مفاجئة كثيرا على سياق الفيلم، الذي اتسم بالحميمية والخوض في تاريخ القرية ومستقبلها.
يكشف أحد الذين درسوا السينما من أبناء القرية فداحة أزمة المخدرات في قريته، وهو نفسه يصارع هذا الوباء منذ سنين. ويقول إن انغلاق الأفق وغموض المستقبل وسهولة وصول المخدرات إلى القرية، هي كلها عوامل ساعدت في تيسير الحصول على المخدرات واستخدامها.

ويقابل المخرج مسؤولين في القرية، يتهمون جهات خارجية في الترويج للمخدرات، التي تباع بسهولة على مداخل القرية، عبر شباب من خارج المنطقة، ويكشف مدمن مخدرات سابق أن القضية أكثر تعقيدا مما يظن البالغين في القرية، فهناك أطفال بعمر الثامنة يتناولون أنواعا مخففة من المخدرات. ويتحول جزء المخدرات إلى ما يشبه التحقيق الاستقصائي، وينشز قليلا عن النفس الحميمي العام للفيلم.
“سفر الجميع يعني الهزيمة”.. وصية الأب
يحفل الفيلم بكثير من المشاهد المفاجئة بصدقها وقوتها العاطفية الكبيرة، وهذه المشاهد والمدة الزمنية الطويلة التي رافقت فيها الكاميرا الشخصيات هي ما يميز هذا الفيلم، ويضعه في فئة خاصة من الأفلام التي تتناول القضايا الفلسطينية والفلسطينيين.
ومن المشاهد المؤثرة كثيرا ذلك الذي يجمع عائلة إبراهيم، وهي تحتفل بنجاح ابنها في الثانوية العامة، فيجمع البيت أجيالا عدة من العائلة، منها جدته المسنة التي كانت تغني أغنيات من التراث الفلسطيني. ونرى أيضا مشاهد دافئة من إبراهيم وهو يودع عائلته قبل سفره الى باكستان للدراسة، وتعكس الحب الكبير في العائلة.

يذكّر والد إبراهيم -وكان قد فقد عينه في الانتفاضة الفلسطينية الأولى- ابنه بأن الأمل في فلسطين باق مع كل شيء، ومع كل الظروف الصعبة. كما ذكّره عندما كان يجلسان معا على الأريكة في أرضهما، بأن السفر لن يكون حلا، وأن سفر الجميع يعني إفراغ الأرض من سكانها، وهذه ستكون الهزيمة النهائية لأبناء فلسطين.
مشاهد سقي الأرض منذ مئات السنين
لا نرى المخرج عبر زمن الفيلم، لكننا نسمع صوته، ونلمس حضوره الخفيف، وقد أضاف تلقائية كبيرة على المشاهد التي صورها، سواء تلك التي صورت مقابلات مع شخصيات الفيلم الرئيسية، أو تلك التي صورت مشاهد جماعية، مثل النشاطات التي كانت تحصل في القرية، أو في المدرسة التي نظمت ورشة السينما، وكانت بداية تعارف المخرج مع القرية.
يختتم الفيلم زمنه بسلسلة من المشاهد الصامتة لرجل من أبناء القرية، وهو يسقي أرضه عبر نظام الري المتطور. وقد مثلت تلك المشاهد نهاية مثالية ليوميات القرية الفلسطينية، فالحياة التي استمرت في هذه البقعة من الأرض أكثر من ألف عام، ستواصل طريقها، مع كل ضبابية المشهد العام وتعقيده في الخارج.

تعاون مع المخرج البلجيكي في إخراج الفيلم المخرج الفلسطيني صلاح الدين أبو نعمة. وعُرض الفيلم في عدد من المهرجانات السينمائية الأوروبية، كما وصل في يناير/ كانون الثاني 2025 إلى العرض التلفزيوني الأول، وكان على شاشة قناة الجزيرة الوثائقية.